كتبت النهار
عصر أول من أمس هبّت فجأة “زوبعة” في فناء البيت الديني الشيعي، لم يتوقف عصفها بعد على رغم أن الهيئة الروحية الشيعية الرسمية، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، سارع في لمح البصر الى تبديدها.
حتى ذلك الحدث، كان كل شيء يوحي بالهدوء والسكينة والدوران برتابة وانتظام في البيئة الدينية الشيعية، فالمجلس الشيعي (نشأ على يد الإمام موسى الصدر في عام 1967) قد فقد قانونيته عملياً بفعل “انتهاء المهل”، ولكن الفتوى القانونية القاضية بالمحافظة على “انتظام المرفق العام” أبقت على هذا المجلس مداراً بالحد الأدنى بعهدة نائب رئيسه الشيخ علي الخطيب في انتظار أن يجد الثنائي الشيعي المحكم قبضته على القرار الشيعي بشقيه، الفرصة المؤاتية للاتفاق على صيغة “تدبّر الأمر” وتلقى رضى وقبولاً من الطرفين.
والمعلوم أن الشيخ الخطيب (القاضي الشرعي ابن البقاع الغربي) بذل جهوداً حثيثة لإشعار من يعنيهم الأمر بأن المجلس ما برح فاعلاً وأن المكلف برئاسته قادر على إظهار التمايز عن الثنائي وأنه ليس أسير توجّهاتهما بل إن بإمكانه الحراك على نحو يظهر أن ثمة قوة ثالثة فوق هذا الثنائي، وأنهما وإن كانا (الثنائي) الأقوى والأفعل عملياً فإنهما مضطران الى التعاطي مع المجلس على أساس أنه مرجعية لا يمكن تخطيها أي إن للمجلس هامشاً واضحاً من حرية الحراك خصوصاً أن ثمة مؤسسات حيوية ترتبط مباشرة بالمجلس مثل الجامعة الإسلامية ومستشفى الزهراء الى مؤسسات رعائية.
وظل الوضع ينسج على هذا المنوال منذ وفاة رئيس المجلس السابق الشيخ عبد الأمير قبلان قبل نحو ثلاثة أعوام، الى أن أصدرت هيئة التبليغ الديني في المجلس تعميماً مفاجئاً من حيث توقيته ومن حيث مضمونه وأبعاده.
وقضى هذا التعميم الذي وُزّعت نسخ مصوّرة منه على نطاق واسع (عبر وسائل التواصل الاجتماعي) بتجريد 17 رجل دين شيعياً من صفاتهم الدينية تحت ذريعة “عدم الأهلية” ما يعني تلقائياً انتفاء شرعية أية أدوار أو أنشطة تبليغية أو مهمات يؤدّونها وصولاً الى تجريدهم نهائياً من زيّهم الديني حتى. والواضح أن الذريعة التي اعتمدتها تلك الهيئة للإقدام على خطوتها تلك هي ذات شقين:
الأول محاصرة الـ17 رجل دين المطرودين بتهمة “التحريف في عقيدة الاثني عشرية” ومضامينها لجهة إطلاق بعضهم مقولات وأفكاراً ورؤى تجافي تلك الأصول وهو ما ينطبق عليه صفة “الإفتاء من غير علم”.
الثاني محاصرتهم أيضاً بتهمة “الإساءة لمراجع شيعية وشخصيات ذات مكانة علمية رفيعة”.
المعلوم أنه سبق للمجلس الشيعي أن جرّد في خطوة غير مسبوقة خلال العقود الثلاثة الماضية بعض العلماء من مهماتهم الرسمية وأبرز مثال على ذلك مفتي صور السابق السيد علي الأمين خصوصاً بعدما أعلن الرجل انزياحه التام الى معسكر فريق 14 آذار ووضع نفسه بحمايته وتصرفه لكنه لم يجرّده من صفته الدينية ولم يتهمه بـ”عدم الأهلية “. كما سبق أن جرّد علماء آخرين من مهماتهم ولكنه كان يحرص دوماً على إبقاء الأمر ضمن حدود ضيّقة وأقرب الى السرّية والكتمان والمحدودية.
لكن التعميم الجديد لهيئة التبليغ الديني في المجلس أتى في جوّ سياسي مستقر نسبياً لا في جوّ عاصف كما إبان أعوام 2006 وما بعدها. وهذا من شأنه أن يميط اللثام عن خلافات وتباينات تعتمل في البيت الشيعي الديني والسياسي من جهة وتكشف في الوقت عينه أيضاً أن البيئة الشيعية التي توالي “الثنائي” وتبايع نهجه وتعلي من شأن مرجعيات قم وطهران باتت تضيق حتى ببعض الأصوات التي تحاول أن تكون مختلفة، علماً بأن هذه الأصوات تكاد تكون نسياً منسيّاً فضلاً عن أنها لا تقدّم أطروحة دينية أو سياسية جاذبة أو مثيرة للاهتمام. فالغالبية الساحقة من الأسماء الواردة في لائحة المجردين من صفاتهم ومن زيّهم الديني هي مجهولة إلا اسماً واحداً يبذل منذ زمن جهداً استثنائياً لكي يفرض نفسه حالة متمايزة وهو الشيخ ياسر عودة. فالمعلوم أن الرجل يصر على أنه جزء من حالة العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله إذ إنه يحرص على تنزيهه عن أي انتقاد من جهة وإظهار صورته في كل إطلالة إعلامية من جهة أخرى.
وعلى رغم أنهم لم يبادروا الى التبرّؤ علانية من عودة في الخفاء يبدي ورثة السيد فضل الله تسامحاً معه على رغم أن الكثر بادروا الى تنبيه هؤلاء الورثة من مغبّة ترك حبل الأمور على غاربها.
الواضح أن عودة يجاهر بالاعتراض الشرس أحياناً على نهج الثنائي معاً ويوجّه إليهما اتهامات حادة من قبيل “تجويع أبناء الطائفة” وبكونهما ملاذاً لـ”فاسدين وثقافة الفساد”. واللافت أن الرجل يتوسّل خطاباً ولهجة أقرب ما تكون الى لغة الانتفاض التي اعتاد معارضون توسّلها وهم يحملون على خصومهم السياسيين فضلاً عن أنه لا يوفر في انتقاداته حتى المؤسسات المرجعية الشيعية باعتبارها تغالي في ممارسات معيّنة.
وبناءً على ذلك بدا الرجل مستعجلاً في نظر البعض ليحجز لنفسه مكاناً في وسط بيئة يعرف تماماً أنها معبّأة حدّ الإشباع وأنها غير مستعدة حتى للاستماع الى أي صوت مهما كان ناعماً ينال من قناعاتها الثابتة. لذا ركز على التمايز والصوت العالي والانتقاد الحادّ الجريء فنجح في أن يكون مقصد محطات تلفزة تبحث عن عناصر إثارة من جهة وتظهر أن ثمة ردة معارضة بدأت تنمو وتكبر داخل البيئة الشيعية.
وإن كان ثمة من يرى أن قرار نائب رئيس المجلس الشيعي “إبطال” مفاعيل تعميم هيئة التبليغ واعتباره كأنه لم يكن، أفضى على نحو ما الى التخفيف من مفاعيل الحدث، فإن “التعميم وإبطاله” قد أدّى الأغراض والمقاصد المضمرة ومنها:
– أن ثمة “فوضى” أفكار بدأت تذر بقرنها في البيت الديني الشيعي صار مطلوباً ضبطها لأنها تتعدّى الانتقاد الى حدّ المساس بجوهر العقيدة وثوابتها.
– ولذا بات لزاماً إعادة النظر في واقع التعليم الديني وطريقة التدريس فيه ومنح الإجازات والشهادات.
وسواء كان صحيحاً أن تعميم الهيئة قد أبطل ووئد في لحظة ولادته فإنه أتى كجرس إنذار مؤدّاه أنه يتعيّن الالتفات الى واقع هذا الحيّز وجعله تحت مجهر الرصد.
وسواء صحت مقولة البعض بأن هذا التعميم الموحى به من جماعة التوجّه الإيراني أم لا فالثابت أن خصوم الثنائي والتوجّه الإيراني الطاغي على ما عداه يعتبرون الأمر خطوة أولى على طريق تدجين الساحة الشيعية، الدينية منها وغير الدينية، على غرار واقع الحال المماثل في بعض العراق.