كتبت النهار
ثمة في “التقاليد” الراسخة في تراث الطبقات السياسية اللبنانية المتعاقبة منذ الاستقلال الأول حتى اللحظة واقع لا يمكن القفز فوق أثره العميق في صناعة “النكبات” البنيوية التي توالت في تاريخ لبنان. هي تقاليد قيام الكوارث الكبيرة المتصلة “بترانسفيرات” فلسطينية وسورية وعربية أخرى، ولا ندري بعد ماذا يمكن أن يستدرجه هذا البلد الشديد الجاذبية للأجانب (باعتبار أن الوصف القانوني لأي مواطن غير لبناني هو أجنبي) من جنسيات مختلفة على وقع مستدام لأكبر العيوب التي تشوب هذه الطبقات في قصورها الفاضح عن حماية السيادة والأرض اللبنانيتين.
لن نبدأ بما يفترض البدء به من الزاوية التأريخية الموضوعية لمسح العيب البنيوي هذا في انكشاف طبيعة انهزامية تسمى تهذيباً انقسامية للتخفيف من وطأة عقدة التبعية والذنب المزمنة لدى الطبقات التي فقد لبنان في أيامها سيادته أو تعرّض لكارثة اجتياحية من دولة مجاورة ولو عربية… لن نبدأ بالخطيئة الأصلية زمن نكبة فلسطين لأن زرع إسرائيل اغتصاباً كان أكبر وأقوى من كل الشرق العربي وتلقت دول عربية كثيرة موجات لجوء الفلسطينيين الذين اغتُصب وطنهم وأرضهم أسوة بما تلقاه لبنان.
خارج الخطيئة الأصلية تلك، ترانا للمفارقة التي لا ندري ما إن كانت مفارقة ساخرة أم مبكية، نستذكر عبر “سخافة” فقدان نصاب مجلس الوزراء قبل يومين لجلسة خُصّصت لاتخاذ “قرارات وجودية” بحجم الوصف الذي حسناً أسبغه قائد الجيش على الموجات المخيفة المتدفقة للسوريين عبر الحدود الشرقية مع سوريا، فإذا بواقع هذه الحكومة البتراء فعلاً، ولو كانت من تركيبة تحالفات أحادية أصلاً، يذكّرنا بتاريخ “مجيد” طويل من مآثر الانهزامية السياسية المريضة السقيمة أمام كوارث تتطلب رجالات اندثر أثرها وما يماثلها من زمان.
يمكننا والحال هذه أن نغور عميقاً الى التجربة الثانية بعد اللجوء الفلسطيني أي الى حقبة اتفاق القاهرة في عام 1969. لا حاجة بطبيعة الحال الى تبيّن خطورة التبرير التاريخي الذي اعتمد بعد ذاك الاتفاق الذي دق الإسفين الأشد خطورة في تاريخ السيادة اللبنانية حتى ما بعد الحرب اللبنانية التي كان الفتيل المفجّر لها بصاعق منح الفلسطينيين “فتح لاند”. وإنما نعني استذكار الحال الفضائحية للسلطة والطبقة السياسية آنذاك بحيث كان إخفاء اتفاق القاهرة عن مجلس النواب أكبر الفضائح المخزية والمدمرة إطلاقاً. حصل ذلك وزادت أعداد الفلسطينيين ومعهم قامت دويلة أبي عمار ولا حاجة الى مزيد…
نموذج آخر لا يزال طريّاً “طازجاً” ما بين 2011 و2015 أي مع آخر حكومتين في عهد الرئيس ميشال سليمان، حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وحكومة الرئيس تمام سلام. كانت الحرب الأهلية في سوريا قد اشتعلت واتسع دمارها مع تورّط الدول شرقاً وغرباً ومن ثم تورّط “حزب الله” في ميدانها المباشر حين صار “مشروع النكبة” الوافدة على لبنان يزحف بتؤدة من خلال عشرات ألوف النازحين وسط تصاعد “سهرات الثرثرة الجوفاء” بين مكوّنات الحكومتين آنذاك وافتقار لبنان الى استراتيجية حاسمة فعّالة أقله للاقتداء بما قامت به تركيا والأردن في احتواء الكارثة عبر مخيمات عملاقة للنازحين. وكان أن تحول مشروع النكبة الى نكبة صرفة مع انتشار ما بات يتجاوز الآن مليونين ونصف مليون سوري على سائر التراب اللبناني.
لن نستفيض مع النموذج الثالث الذي بدأ يتسع ويزحف بالطول والعرض. إنها الطبقة التاريخية في تجويف لبنان من لبنانيته فحسب!