كتب جوني منير في “الجمهورية:
هنالك مقولة تُعتبر ركيزة أساسية في مجال العلاقات الدولية، وتقول بأنّ الترابط الاقتصادي يُعتبر عامل حماية للتفاهمات السياسية. ووفق ذلك لا بدّ من النظر بكثير من التمعّن للقرار المُتخذ في قمّة الدول العشرين، والقاضي بربط الهند بالشرق الاوسط ومنه بأوروبا، من خلال النقل البحري وسكك الحديد. وتصبح المعاني اكبر مع جعله كمشروع ردّ على «طريق الحرير» الصيني الذي يهدف الى تفعيل العلاقات التجارية بين آسيا واوروبا وإفريقيا، من خلال بناء الموانئ وسكك الحديد والمطارات والمجمّعات الصناعية.
وليست هي الملاحظة الوحيدة المهمّة لقرار الدول العشرين التي اجتمعت في نيودلهي، فثمة ملاحظة ثانية ولو انّها لا ترتبط مباشرة بالتطورات الاقتصادية والمقصود هنا، تزامن قمة دول العشرين مع بدء 14 دولة عضو في حلف الناتو بما فيها الولايات المتحدة، بإجراء مناورات بحرية ضخمة تحت قيادة المانيا في بحر البلطيق، ما يشكّل استعراضاً قوياً يحاكي الحرب الدائرة في اوكرانيا. صحيح انّ المناورات لهذه الدول كانت تحصل، لكنها كانت تحاكي التصدّي لهجمات قراصنة واخرى ارهابية وتنفيذ مهام دولية، لكن المناورة الدائرة الآن تعكس تبدلاً في سلّم الاولويات الأمنية، وهي تحصل على سواحل لاتفيا واستونيا اللتين كانتا تشكّلان جزءاً من الاتحاد السوفياتي.
وفي الوقت نفسه، باشرت ارمينيا جارة ايران مناورات مشتركة مع القوات الاميركية، في اشارة واضحة الى ابتعادها عن روسيا لصالح الولايات المتحدة.
كل هذه الصورة تعطي الاستنتاج حيال نقطتين: الاولى بأنّ اعادة رسم التحالفات الدولية الجارية وفق عناوين الصراع الجديدة، انما تحصل من خلال إغراءات المصالح الاقتصادية الهائلة، وفي الوقت عينه في ظل القبضة العسكرية التي استعادت جدّيتها اوروبياً للمّرة الاولى منذ انتهاء الحرب الباردة مع تفكّك الاتحاد السوفياتي.
والثانية، بأنّ الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط هو منطقة مهمّة جداً، ازدادت اهمية، مرّة من خلال الغاز ومرة اخرى من موقعه كرابط بحري بين الشرق واوروبا.
صحيح انّ وصل الهند بأوروبا عبر الشرق الاوسط وبرعاية اميركية هو مشروع بحاجة لسنوات عدة لإتمام تنفيذه، لكن تداعياته السياسية والديبلوماسية هي فورية وعلى مستويات عدة ومنها المتعلق بالتطبيع السعودي – الاسرائيلي.
ولفت في هذا المجال حضور وفد اسرائيلي رسمي الى السعودية للمرّة الاولى بشكل علني للمشاركة في اجتماع اليونيسكو التي تولّت توجيه الدعوات.
الواضح انّ السعودية تتجّه بالتدرّج ووفق سياسة الجرعات، الى الموافقة لاحقاً على علاقة مع اسرائيل، اي على طريقة سلطنة عمان التي تحتفظ بعلاقات مميزة مع جارتها ايران.
وقد يقول احدهم، وما علاقة لبنان بكل هذه التطورات. في الواقع فإنّ لبنان يقع في قلب هذه الصورة. فهو من جهة يحتل مساحة لا بأس بها من الساحل الشرقي للمتوسط، وهي مساحة بموقع مميز. كذلك فهو يحتضن خط تماس مباشراً بين ايران واسرائيل عبر الحدود اللبنانية – الاسرائيلية التي لا تزال تختزن كل عوامل التفجير، إذا استدعت الظروف ذلك، اضافة الى حضور طاغٍ لـ»حزب الله» في الداخل اللبناني يطمح لأن يترجمه نفوذاً شرعياً ودائماً على مستوى تركيبة السلطة. وهنا تكمن الأزمة الرئاسية التي تكاد تخنق البلاد. ومن هنا ايضاً يمكن فهم الحساسية المفرطة إزاء الافكار الحوارية التي أُطلقت بإصرار سابقاً واليوم، بسبب الخشية من انزلاقها وتحوّلها بسرعة الى حوار حول الدستور وضرورة الذهاب الى صيغة حكم جديدة ستشكّل انعكاساً منطقياً للمعادلة القائمة على الارض، وبالتالي منح الأرجحية الدستورية لـ«حزب الله»، واستتباعاً تشريع مساحة للنفوذ الايراني على الساحل الشرقي للمتوسط. وخلال المراحل الماضية سادت نظريات في لبنان اختزلت الكثير من التبسيط، كمثل وجود صراع اميركي – فرنسي على المصالح الاقتصادية في لبنان. في الواقع الصورة مختلفة بعض الشيء، ذلك انّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والذي نال موافقة اميركية على رعاية الاوضاع في لبنان، ارتكب اخطاء عدة تعاكس المسار العام الجاري رسمه للساحل الشرقي للمتوسط. فغداة انفجار مرفأ بيروت جاء الى بيروت طارحاً «عقد اجتماعي جديد» للبنان. وفيما سال لعاب «حزب الله»، دخلت واشنطن على الخط وعملت على إجهاض فكرة ماكرون والتي كانت ستعني حكماً الذهاب الى المؤتمر التأسيسي والمثالثة.
وبعدما جدّد ماكرون التفويض الاميركي لدور فرنسا في لبنان خلال القمة الاميركية – الفرنسية في واشنطن في مطلع شهر كانون الاول الماضي، اتجّه الى «حزب الله» عبر سفارته في بيروت، مجرياً تفاهماً حول القبول بمرشح الثنائي الشيعي لرئاسة الجمهورية. لكن واشنطن قرأت في تلك الخطوة تكريساً غير مباشر لتعزيز نفوذ «حزب الله» داخل المؤسسات الرسمية، وبالتالي منح ايران موقعاً «مقنّعاً» على البحر المتوسط، فدخلت على الخط مرة جديدة بداية من خلال رسالة العقوبات ومن ثم من خلال بيان رسمي للناطق باسم الخارجية، بعدما التبس على البعض تفسير رسالة العقوبات. وأُرفقت الاعتراضات الاميركية بتفسيرات بطرق مختلفة، بأنّ المعارضة الاميركية النهائية «بسقوط» الدولة اللبنانية بالكامل في نطاق النفوذ الايراني، لن يعني التصادم مع «حزب الله» او الدخول في صراع واسع معه، لا بل الإقرار بقوته ومصالحه من دون ان يعني ذلك امساكه بالكامل بالدولة، والتي لن تكون معادية له. من هنا مواصفات الرئيس التوافقي.
ومن هنا عودة مستشار الرئيس الاميركي آموس هوكستين «المرمزة» الى لبنان. ومن هنا ايضاً العودة الثالثة والاخيرة للموفد الفرنسي جان ايف لو دريان، والتي تهدف الى ايضاح اهداف مهمّته من الأساس: إعادة تصويب المسار الفرنسي بنعومة وسلاسة وفي الوقت نفسه الحرص على ابقاء العلاقات الفرنسية بـ»حزب الله» متينة ودافئة. ولودريان الذي سيلتقي النواب السنّة بدعوة من السفير السعودي في خطوة لافتة، اراد ان يقول بأنّ مواقف باريس باتت متطابقة مع الرياض، خصوصاً انّ الموفد الفرنسي حرص على لقاء المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا اولاً ومن ثم لقائه الرئيس الفرنسي قبل مجيئه الى بيروت. الواضح انّ ثمة رسالة سعودية ايضاً للنواب السنّة بأنّ وقت الجدّ اقترب وانّ التشتت السنّي لن يكون مسموحاً.
وبعد مغادرة لودريان سيصل الموفد القطري ليباشر مهمّته، وهو صاحب الاسلوب «الكتوم». والطرف القطري يحظى بعلاقات متينة مع السعودية وايران على السواء، وصاحب القدرات المالية والنفطية الهائلة، والذي بات شريكاً في مشروع استخراج الغاز من البحر اللبناني.
ويصل الموفد القطري في توقيت ملائم لا بل ممتاز، فالدوحة التي لعبت دوراً محورياً خلال المفاوضات الاميركية – الايرانية غير المباشرة الاخيرة، والتي جرت على ارضها، وتولّت مهمّة التواصل بين الوفدين، التزمت مهمّة ضمان تنفيذ الشق المالي والقاضي بتحويل مبلغ 6 مليارات دولار الى ايران وفق شروط محدّدة من كوريا الجنوبية عبر قطر على ان يلي ذلك تنفيذ البند المتعلق بمبادلة السجناء، وهو ما علّق عليه السفير الايراني في قطر قائلاً بأنّ الاتفاق الاميركي – الايراني لتبادل السجناء يمرّ بمراحله النهائية. وهذه «الوضعية» ستمنح قطر هامشاً أوسع لإنجاز التفاهمات في لبنان، ولكن من دون ان يعني ذلك حتماً إبعاد فرنسا لا بل على العكس. فما تغيّر هي الصيغة الفرنسية لا دورها. تكفي الاشارة الى المقعد الذي نالته شركة «توتال» في العراق والمقدّر بثلاثين مليار دولار.
اضف الى ذلك، الاجتماع الثلاثي المهم في الفاتيكان في 24 الجاري، والذي سيمثل فرنسا خلاله مستشار الايليزيه ايمانويل بون.
اغلب الظن انّ باريس ابتعدت عن الرأي الذي كان يقول بأنّ بقاء الرئاسة في لبنان اهم من هوية الرئيس، لصالح الرأي القائل بأنّ الرئاسة مهمّة ولكن هوية وشخصية الرئيس لا تقلّ أهمية.
وفي لقاء لودريان بالسفير السعودي مع النواب السنّة اشارة الى العلاقة الوثيقة والمتينة بين ماكرون ومحمد بن سلمان، وفي الوقت نفسه اشارة الى انّ باريس لن تتخلّى عن موقعها في لبنان ولو وفق انتظام جديد.
وعلى المقلب الاميركي، غادر هوكستين وهو يبدي اشارات الارتياح لديه، طبعاً الوضع في الجنوب هو أولوية مهمّته، ولكن صوره المرمزة تحمل الكثير، وهو تلقّى اجابة سريعة من «حزب الله» على صورة عشاء اليرزة، خصوصاً انّه سمع من الرئيس نبيه بري استعداده للتعاون لحل المشاكل الموجودة.