فؤاد بزي – الأخبار
عند كلّ مفترق طرق، تعود «عقلية المحاسب» لتظهر عند أزلام السلطة ساعيةً لتحقيق إيرادات سريعة. ففي مشروع موازنة 2024 كان التوجّه الأول نحو رفع معدلات الـ TVA من 11% إلى 12%. نتيجة هذه الزيادة في عام 2010، أي قبل انفجار الأزمة بنحو عشر سنوات، وردت في دراسة أعدّها الأستاذان في الجامعة الأميركية جاد شعبان ونسرين سلطي في عام 2010 عما سينتجه رفع ضريبة الـTVA إلى 12%، إذ تبيّن أن الإنفاق الاستهلاكي للأسر الفقيرة سينخفض بنسبة 8%، وستتضاعف نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى من 3% إلى 6%، وترتفع نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى من 28% إلى 31%. أما اليوم، فإن زيادة كهذه تُطرح بعدما سجّل الفقر «مستويات تاريخية» على حدّ تعبير صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن لبنان، وبعدما بات 37% من المقيمين في لبنان يعانون من صعوبات حادّة في تأمين الغذاء اليومي الأساسي، و54% يصنّفون هشّين وبحاجة إلى مساعدة، كما ورد في تقرير برنامج الغذاء العالمي.
تمثّل إيرادات ضريبة القيمة المضافة (TVA) بمعدل 11% (المعدل المعمول فيه الآن) نحو 32% من الإيرادات الضريبية للخزينة، وهي ضريبة غير مباشرة تُعدّ من الضرائب الأقل عدالة كونها تصيب المستهلكين الأكثر فقراً وحاجة، وهي بذلك تختلف عن الضرائب المباشرة التي يمكن فرضها مثل الضريبة على الثروة والفوائد. طرح كهذا، مطلوب من صندوق النقد الدولي الذي يقترح زيادة الضريبة إلى 15%، وهو طرح جاهز دائماً كونه يوفّر إيرادات سريعة يسهل على الخزينة تحصيلها مباشرة على كل شحنة سلع تدخل إلى لبنان وعلى كل خدمة يحصل عليها المستهلك. أُلغي الطرح هذه المرّة، لكنه سيكون تهديداً سنوياً في كل موازنة.
سلطي التي أعدّت مع زميلها جاد شعبان دراسة عن تأثير زيادة الـTVA إلى 12%، تقول لـ«الأخبار» إن الأثر بعد الأزمة وما خلّفته من مآسٍ، سيكون «مضاعفاً، إذ ستنفق الشرائح الأدنى قدرة، نسبة أعلى من مداخيلها لتغطية ما يصيبها من الزيادة»، وحذّرت من «الأذية التي ستسببها أيّ زيادة في الضرائب غير المباشرة، لأن تركيز الثروة في يد فئة محدّدة من اللبنانيين أصبح أكثر حدّة، والأزمة الاقتصادية فاقمت من المشكلة».
إلى جانب طروحات كهذه، لا يظهر أي أثر لمشاريع تعديل متصلة بالنظام الضريبي القائم في لبنان والذي وصفه المدير العام لوزارة المالية السابق آلان بيفاني بأنه «بالٍ ومجزّأ، يقوم فيه المكلّفون الذين لديهم مصادر دخل متعدّدة بتأدية ضرائب بنسبة منخفضة، إذ يشكّل مجموع الضرائب المفروضة على مختلف أنواع الدخل ما نسبته 2.7% من الناتج المحلي، وهي نسبة ضئيلة للغاية». ففي ظل نظام كهذا يحبّذ الضرائب غير المباشرة، ويعفي الأكثر ثراء كلما ازدادت ثروته، تفاقمت اللامساواة وازداد تركّز الدخل في يد فئة قليلة من المجتمع. على سبيل المثال، تشير قاعدة عدم المساواة العالمية إلى أن نسبة 10% الأعلى دخلاً من اللبنانيين حصلوا على 54% من الدخل القومي، وحصلت نسبة 40% المتوسطة الدخل على 34%، بينما حصل النصف الأكثر فقراً من السكان على 12% فقط. بهذا المعنى، فإن ضريبة القيمة المضافة تعمّق الهوة أكثر بين الأغنياء والفقراء، إذ إنها «تشمل كل الاستهلاك من دون تمييز، وهي تراجعية لا تصاعدية، ويدفعها الفقير أكثر من الغني، وتصبّ في نهاية المطاف في مصلحة الأخير»، بحسب الباحث أديب نعمة.
يعيد نعمة شرح الفكرة من الضريبة على القيمة المضافة، بـ«أنّها أتت مع تحرير التجارة، والتوجه نحو العولمة مطلع الألفية الحالية، وإلغاء الرسوم الجمركية بشكل نهائي، أو تخفيفها إلى الحدود الدنيا، بالتالي تستبدل الدولة رسم الجمارك على البضائع بضريبة على الاستهلاك». ولكن، بقيت الرسوم الجمركية موجودة، بل على العكس ارتفعت قيمتها، وقام التجار بإضافتها إلى فاتورة البيع بالمفرق للناس بالإضافة إلى الضريبة على القيمة المضافة، ما رفع من الأسعار أكثر. ووصف نعمة النظام الضريبي في لبنان بـ«العكسي» لأنه «يعيد سحب الثروة من الفقراء ويركّزها بيد الأغنياء». ويستنتج بأن «النظام مستمر في سياسة إفقار ممنهجة للمواطن». ففي مقابل كلّ هذه الضرائب المسحوبة من الفقراء، لا تقدّم الدولة أيّ خدمات حقيقية للمواطنين، لا على مستوى الاستشفاء أو التعليم أو البنية التحتية من طرقات وماء وكهرباء. وتضع هذه المسؤوليات كلّها لدى القطاع الخاص وشركاته الكبيرة التي ترى في لبنان جنة ضرائبية، إذ لا تزيد نسبة الضريبة المباشرة على أرباحها عن 17%، و«هذا معدل منخفض نسبياً وفقاً للمعايير الدولية والتاريخية، ما يعكس الآفاق الاقتصادية الليبرالية التي مثّلت الخيار السياسي في مرحلة ما بعد الحرب».
*32% من اللبنانيين يعانون من صعوبات حادّة في تأمين الغذاء اليومي الأساسي*
السلطة في لبنان تفضّل زيادة ضريبة القيمة المضافة بدلاً من استحداث ضرائب مباشرة تصيب الأكثر ثراء. يقول وزير مال سابق لـ«الأخبار» بأن ضريبة القيمة المضافة ليست عادلة، وأنه اقترح سابقاً إقرار الضريبة على الثروة التي «يفترض تطبيقها في الظروف الحالية، ولا سيّما مع التركّز الكبير في الثروة والذي زادت من حدّته الأزمة المالية». لكنّ أركان السلطة رفضوا هذا الطرح واعتبروه كأنه لم يكن مع أن تحصيل هذه الضريبة مع الانهيار والإفلاس المصرفي ممكن ومتاح في ظل «إمكانية استخدام تقارير التدقيق الجنائي للاطّلاع على أرقام الثروات». كما يمكن الاعتماد على ما يُعرف بـ«العوامل الخارجية». فعلى سبيل المثال «معرفة من هم أصحاب الشقق السكنية في الوسط التجاري، والشاليهات في المناطق السياحية هي أحد مؤشّرات الثروة»، كما يمكن للمراقبين في وزارة المالية القيام بزيارات تفقدية لمنازل أصحاب الثروات ومعاينة ممتلكاتهم من منازل وسيارات وعقارات، ولا سيّما من يعتمد منهم على المصارف في الخارج لإخفاء حساباته.
الضرائب المباشرة أكثر عدالة
«الإصلاح الضريبي ليس سهلاً، ولكنّه ممكن»، تقول أستاذة الاقتصاد في الجامعة الأميركية نسرين سلطي. تستدلّ على فرص الإصلاح بالإشارة إلى «الجهد الكبير المبذول لإقامة البنية التحتية اللازمة لإدارة الضريبة على القيمة المضافة، لكن «لم يُبذل جهد مماثل على تحصيل الضرائب الأخرى». ولفتت إلى «أنّ الضرائب المباشرة أكثر عدالة دائماً، إلا أنّها تتطلّب بنية تحتية ضريبية أفضل، لأن جمع هذا النوع من الضرائب أصعب»، إنما ليست هناك «رغبة في فرض ضرائب مباشرة، ولا سيّما أنّ القاعدة التي تستهدفها أضيق، ما يجعل من السهل مقاومتها ومعارضتها». علماً أن إحدى الطرق السريعة لجمع الإيرادات تكمن في «فرض غرامات كبيرة وضرائب متأخّرة على المؤسّسات التي استفادت من الأملاك البحرية، وغرامات أكبر على مخالفات قوانين البناء». المطلوب «خطوات غير شعبية ولكنّها فعّالة»، مثل فرض ضريبة على التبغ بهدف تقليص الإنفاق على الرعاية الصحية، أو زيادة الضرائب على المشروبات الكحولية والمشروبات المحلّاة بالسكر، ورفع معدلات الضرائب على المنازل الثانية والممتلكات الشاغرة والمعاملات العقارية، كما يمكن زيادة الضرائب على السيارات ذات المحرّكات القوية، بالإضافة إلى السلع الفاخرة.