جريدة الأخبار
زينب حمود
لمناسبة اليوم العالمي للمساواة في الأجور الذي صودف في 18 أيلول الماضي، فإن لبنان أصبح خارج هذه القضية. السبب يتعلق بما أصاب الأجور بشكل عام من انهيار. فالفروقات في الأجور بين رجل وامرأة وبين أجنبي ومقيم، لم تعد ذات قيمة أمام الانهيار باستثناء الأجور بين القطاعين العام والخاص.
الهمّ الأكبر الذي يجمع الغالبية الساحقة من الموظفين اليوم جرّاء الأزمة الاقتصادية هو تدنّي الأجور التي يتقاضونها عن مختلف المهن، وعدم تصحيحها بشكل يتناسب مع معدّلات التضخّم العالية. فبحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزي، ارتفعت الأسعار 41 ضعفاً فيما ارتفع سعر الدولار 59 ضعفاً، وباتت الأجور هشّة أمام التضخّم المستورد، أي تضخّم الأسعار الذي يصيب السلع المستوردة (لبنان يستورد غالبية السلع التي تُستهلك في الداخل) ويدفع ثمنها المستهلك.
التضخم المرتفع ألقى بثقله على القوّة الشرائية، خصوصاً في القطاعات الأساسية مثل التعليم والصحة والغذاء. ولم يترافق ذلك مع آلية دورية لمراجعة الأجور بالاستناد إلى التضخّم، بل أعطيت زيادات في القطاعين العام والخاص استنسابية تحت عنوان المساعدة الاجتماعية. في القطاع الخاص جرى رفع الحد الأدنى للأجور من 675 ألف ليرة، أي ما يعادل 450 دولاراً قبل الأزمة الاقتصادية، إلى تسعة ملايين ليرة، أي ما يعادل 100 دولار.
أصلاً، كان القطاع الخاص يعاني من ضعف القدرة على توليد الوظائف. بحسب تقرير أعدّه البنك الدولي في عام 2010، فإن الوظائف المتولّدة هي وظائف هامشية أو لا تتطلّب عمالة ماهرة. وعندما انفجرت الأزمة، انكمش الاقتصاد بكل قطاعاته وباتت القطاعات التي تتطلّب عمالة ماهرة وأجوراً أعلى غير قادرة على الاستمرار في بيئة الأزمة، ما دفع العمال إلى الهجرة. هكذا ازدادت عروض العمل في مجالات متدنية القيمة مثل المبيعات والتنظيف والحراسة وغيرها من المهن في القطاع الخدماتي والأعمال التي لا تتطلّب مؤهلات علمية وتمنح أجوراً زهيدة لا تكفي لتأمين الحدّ الأدنى من احتياجات العائلات الأساسية، وتراوح بين 200 و350 دولاراً.
لا ينحصر تدنّي الأجور في منطقة أو مهنة معينة. في قريطم، مثلاً، رفعت «سوبرماركت» رواتب موظفيها إلى 250 دولاراً مطلع الشهر الجاري. وفي سن الفيل، يعمل أحد العمال في مجال الحراسة بأجر لا يتجاوز 300 دولار لقاء 9 ساعات عمل. وتتراجع الأجور في السوق الرمادية (القطاعات والشركات التي لا يُصرّح عنها رسمياً)، حيث تعمل سمر، موظفة «كاشيير» في مطعم في محلة الجناح، مقابل 18 مليون ليرة (راتب شهري) يشمل بدل النقل. ولا يتحسّن الوضع كثيراً في مجالات العمل التي تتطلّب كفاءات وشهادات. الأجور في قطاع التعليم حدّث ولا حرج، بعض المدارس الخاصة تعرض 100 دولار على الأساتذة في عكار، وفي بيروت وجبل لبنان يبلغ المعدل الوسطي لراتب الأستاذ 250 دولاراً. كذلك الأمر في مجال المحاسبة والتمريض والإعلام والبرمجة… حيث الأجور في المؤسسات المحلية لا تتعدى الـ 600 دولار في أغلب الحالات.
لذا، لم يعد «الإنصاف في الأجور» ما يسأل عنه الموظف/ة بقدر ما تجمعهم المطالبة بأجر يحقّق متطلّبات العيش الكريم. علماً أنّ مستويات الأجور في أغلب المهن في لبنان لا تزال تظهر فجوة بين أجور النساء وأجور الرجال لمصلحة الرجال، بحسب مسح القوى العاملة الذي أجرته الإدارة المركزية للإحصاء بدعم من منظمة العمل الدولية العام الماضي. ويشير المسح إلى أنّ النساء ذوات التعليم الابتدائي يتقاضين 27.6% أقلّ من الرجال، وتتراجع الفجوة إلى 18.5% بين حاملي الشهادات الجامعية.
يعلّق رئيس «الوحدة الإقليمية للتحليل الاقتصادي والاجتماعي» في المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية طارق الحق على النتائج الإحصائية التي «لا تختصر الواقع الفعلي نظراً إلى التحديات الكثيرة التي لا يمكن أن نلحظها من خلال النظر إلى مؤشر فجوة الأجور فقط، ومنها على سبيل المثال، مستوى المشاركة المتدنّي للنساء في سوق العمل اللبناني، والذي قُدّر عام 2022 بنسبة 22%، أي إن نحو 8 من كل 10 نساء في سن العمل غير ناشطات اقتصادياً، فلا يعملن ولا يبحثن عن وظائف. عدا تمركز النساء في القطاعات التي تُعنى بالرعاية، كالتعليم والصحة حيث الأجور متدنية، والأعمال المنزلية والرعائية غير مدفوعة الأجر».
مراقبة مستويات الأجور خلال الأزمة الاقتصادية تنطوي على «مؤشرات مقلقة»، على حدّ تعبير الحق، في ما يخصّ أعداد العاملين المصنّفين على أنّهم من ذوي الأجور المنخفضة، إذ «ارتفعت النسبة في صفوف النساء بين عامَي 2019 و 2022 من 18.5% إلى 27%، في حين انخفضت نسبة الرجال من ذوي الأجور المنخفضة من 23.2% الى 21.5% خلال الفترة نفسها». لكن، ليست الفجوة في الأجور حكراً على اختلاف الجندر فحسب، وإنما تطاول كثيراً من فئات العمال الأخرى مثل الأجانب واللاجئين ومكتومي القيد والعاملين في الاقتصاد غير المنظّم، وغيرها.
*ارتفعت الأسعار 41 ضعفاً فيما ارتفع سعر الدولار 59 ضعفاً وباتت الأجور هشّة أمام التضخّم المستورد*
ومع الأزمة الاقتصادية، استجدّت فجوة في الأجور معيارها العمل لصالح القطاع العام أو الخاص، وسببها اختلاف قدرة القطاعين على تعديل الأجور. يشرح الحق ذلك بالقول: «تكيّف القطاع الخاص مع الأزمة المالية بشكل أسرع من القطاع العام، فنرى مؤسسات خاصة كثيرة قامت بتعديل أجور العمال بعدما خسرت قيمتها الشرائية بشكل كبير جراء التضخم وتدهور العملة، وربطها بالدولار الأميركي، كليّاً أو جزئياً، بعدما قامت بدولرة فواتيرها. وذلك وفقاً لحجم المؤسسة ونطاق عملها واختلاف حاجتها إلى اليد العاملة». وفيما يدرك «تدني أجور العاملين في القطاع الخاص مقارنة بما كانت عليه قبل الأزمة، يبقى أعلى بكثير من أجور موظفي القطاع العام التي لا تكفي لحصول الأفراد وأسرهم على الأساسيات من السلع والخدمات».
وهذا يفسّر نزوح الموظفين من القطاع العام إلى الخاص، ولو اضطروا إلى تغيير طبيعة المهنة والتحول إلى مهن لا تتناسب مع كفاءاتهم ومستواهم التعليمي. فبعد الزيادات التي أقرّتها حكومة تصريف الأعمال على رواتب موظفي القطاع العام، وآخرها تسديد سبعة أضعاف الراتب الأساسي، صارت الرواتب تراوح بين 90 و350 دولاراً. هكذا تحوّلت الوظيفة في إحدى مؤسسات الدولة وإدارتها من «حلم» لدى كثيرين إلى «كابوس». تروي منى «الحال الصعبة التي وصلت إليها بعد جهود لدخول قطاع التعليم الرسمي طمعاً بالاستقرار الوظيفي والضمان الصحي». فهي تحصل على راتب شهري يبلغ 100 دولار، «ثمن فاتورة الاشتراك في مولّد الكهرباء»، تسخر ثم تتأسف من أن «تصلني عروضات عمل في مدارس خاصة مقابل 300 و350 دولاراً، بل عرض عمل في تغليف الشوكولا في أحد المصانع مقابل 550 دولاراً».
أمام هذه الحال، يحذّر الحق من «توجّه العديد من موظفي القطاع العام نحو وظيفة ثانية، غالباً غير منظّمة، كمصدر إضافي للدخل، والعمل لساعات طويلة من أجل دعم أنفسهم وعائلاتهم، بما يهدد استمرارية عمل القطاع العام، ويزيد انتشار العمل غير المنظّم في القطاع الخاص، والذي ارتفع من 54.9% من إجمالي العمالة في البلاد في عام 2019 إلى 62.4% في عام 2022». ويشدد على ضرورة «القيام بإصلاحات شاملة تعالج جميع أوجه اللامساواة ليس فقط في الأجور وإنما أيضاً في الوصول إلى سوق العمل والحصول على عمل لائق، وتكون جزءاً من استراتيجية أشمل تهدف إلى تنمية الاقتصاد ومعالجة أوجه القصور في سوق العمل».