جورجيا داغر، سامي زغيب، سامي عطا الله، وسيم مكتبي – الأخبار
من المعروف أن النظام الضريبي في لبنان غير عادل، ورجعي، ومجزّأ، ومتسرّب إلى درجة تؤدي إلى حرمان الدولة من الموارد المالية، وتترك الطبقتين المتوسطة الدخل والمنخفضة الدخل، تتحملان الكلفة.
أمام الدولة اللبنانية، كل عام، فرصة لاتخاذ إجراءات تصحيحية هيكلية. فتُعَدّ الموازنات الوطنية – التي تهدف إلى تحديد السياسة المالية للحكومة – أداة أساسية تتيح للسياسيين المعنيين تحديد كيفية جمع الإيرادات وتخصيص النفقات وفقاً للأهداف الاستراتيجية الموضوعة، مثل الحدّ من التفاوت في المداخيل وتعزيز النشاط الاقتصادي. لكن الطبقة السياسية في لبنان تفوّت هذه الفرصة باستمرار وتختار إطاراً مالياً يحافظ على الوضع الراهن من خلال تلبية احتياجات عدد قليل من المواطنين على حساب الأغلبية.
يشكّل مشروع موازنة لبنان لعام 2023 تذكيراً جليّاً بكل ذلك، إذ يبيّن تحليل معمّق لهيكل الإيرادات فيه وبنودها، مدى اتّساقه مع مشاريع موازنات السنوات السابقة لجهة تخصيص الأعباء الضريبية بشكل غير متناسب من خلال التركيز على الضرائب غير المباشرة، وعدم الاعتماد بما يكفي على هياكل الضرائب التصاعدية. لكن، بخلاف سنوات ما قبل الأزمة حين كان لبنان قادراً على تحقيق إيرادات تقارب متوسط إيرادات الاقتصادات الناشئة المماثلة، فإن الدولة الآن متخلّفة عن نظرائها، ما يشكّل تهديداً خطيراً لقدرتها المالية العامة.
بشكل عام، يتوقع مشروع موازنة عام 2023 أن تصل الإيرادات إلى 174,739 مليار ليرة لبنانية – ما يعادل 1.75 مليار دولار بالقيمة الحقيقية – وأن يبلغ العجز المالي 610 ملايين دولار (4% من الناتج المحلي الإجمالي). ومن المتوقع أن تبلغ القيمة الحقيقية للإيرادات في عام 2023 أقل بكثير من مستويات ما قبل الأزمة، مقارنةً بقيمة الإيرادات التي بلغت 8.89 مليارات دولار في عام 2019. علاوةً على ذلك، من المتوقع أن تبلغ نسبة إيرادات الحكومة من الناتج المحلي الإجمالي أعلى مستوياتها منذ بداية الأزمة عام 2019. إلا أن الإيرادات الحكومية تقلّصت (-81%) بمعدل أعلى من إيرادات الاقتصاد (-69%) خلال الفترة نفسها، ما يعني استمرار تداعي القدرة المالية للدولة. وبالتالي، اتّسعت الفجوة في نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي بين لبنان والاقتصادات الناشئة خلال الأزمة، ما أدى إلى زيادة الخسائر المقدَّرة في الإمكانات الضريبية إلى 1.1 مليار دولار في عام 2023.
يعتمد لبنان بشكل متزايد على الضرائب غير المباشرة
من المتوقع أن ترتفع حصة الإيرادات من الضرائب غير المباشرة من 37% في عام 2019 إلى 53% في عام 2023، ما يظهر مدى اعتماد مشروع الموازنة على الضرائب التنازلية كمصدر رئيسي لتحقيق الموارد. في الواقع، تتأتّى غالبية الإيرادات المتوقعة من الضرائب المحلية على السلع والخدمات (52%)، بما فيها ضريبة القيمة المضافة (24% من الإيرادات الضريبية) ورسوم تسجيل السيارات الخاصة وضريبة المغادرة (12% مجتمعةً مقابل 5% من الإيرادات الضريبية في عام 2022). وهذه الضرائب غير المباشرة تنازلية وسيكون لها أثر سلبي على الأفراد من ذوي الدخل المحدود والمتوسط الذين ينفقون حصة أعلى من دخلهم على الاستهلاك.
لا تعتمد الموازنة بما يكفي على الضرائب التصاعدية، ما يحدّ من قدرتها على تحقيق الإيرادات
من المتوقع أن تحقق الضرائب المباشرة 22% فقط من الإيرادات المرتقبة في عام 2023، بعدما كانت تبلغ 38% في عام 2019. علاوةً على ذلك، يتم تحصيل 24% فقط من الإيرادات الضريبية المتوقعة بمعدلات تدريجية – تطبّق الضرائب على الأرباح والأجور والرواتب والممتلكات – فيما تخضع مصادر الدخل الأخرى، مثل الدخل من أرباح رأس المال والفوائد، للضريبة بمعدل ثابت يبلغ 10% لكلٍ منهما. وعلى نحو مماثل، تم الإبقاء على أعلى شريحة ضريبية على الأجور والرواتب عند مستوى 25%، لكن تم تعديل نطاق الضريبة ليشمل أولئك الذين يجنون 24,400 دولار سنوياً بدلاً من 150,000 دولار في فترة ما قبل الأزمة.
حسم ضريبي ينفع القطاع المصرفي
يعتزم مشروع الموازنة إعفاء المؤسسات المالية والقطاع المصرفي من ضريبة التحسين على إعادة تقييم أصولها العقارية لتغطية خسائرها (المادة 28). وبذلك، يستفيد القطاع المصرفي أيضاً من مكاسب مصطنعة، إذ يتم تقييم أصول المصارف وفق سعر «صيرفة»، بينما تُحتسب التزاماتها على سعر الصرف الرسمي، وذلك عملاً بتعميم البنك المركزي الرقم 659. وهذا يسمح للمصارف بتغطية خسائرها الكبيرة في ميزانياتها العمومية.
عفو ضريبي ينفع الأقلية
تعفي المادة 26 من مشروع الموازنة من ضرائب الدخل على رأس المال الأجنبي المنقول الذي تم الحصول عليه قبل عام 2022. وفي الوقت نفسه، من المتوقع الإعلان عن تلك الناتجة خلال عام 2022 وتسويتها من قبل الأفراد والكيانات في غضون ستة أشهر من نشر الميزانية. إن إعفاء مكاسب رأس المال الأجنبي المنقول التي تحققت خلال سنوات الأزمة السابقة من الضريبة يفيد إلى حدّ كبير الأسر الأكثر ثراءً وامتيازاً والتي تمتلك أصولًا أجنبية، ويحدّ من قدرة الدولة على تأمين المزيد من الإيرادات.
ضرائب غامضة على أرباح منصة «صيرفة»
تفرض المادة 80 من مشروع موازنة عام 2023 ضريبة استثنائية بنسبة 17% على الأفراد والمؤسسات التي حققت أرباحاً من «صيرفة» منذ توسّعها لتصبح منصّة للمتاجرة. وبحسب أرقام مصرف لبنان، فإن حجم المعاملات عبر «صيرفة» من كانون الثاني 2022 إلى تموز 2023 وصل إلى مبلغ محيّر بلغ 24 مليار دولار، مع فرصة متاجرة تقدّر بنحو 3.2 مليارات دولار. في حين أن فرض ضريبة على هذا الحجم من الأرباح غير المعلنة يعدّ مصدراً مهمّاً لتأمين الإيرادات للدولة، فإن المادة 80 تفرض معدلاً ثابتاً عبر مختلف الشرائح والمجموعات، فتساوي بين موظفي القطاع العام والقطاع الخاص، وكذلك بين التجار الكبار والصغار، ما يجعله تراجعياً. علاوة على ذلك، يفشل مشروع الموازنة في تحديد الآلية التي سيتم من خلالها تطبيق المادة 80 وجمع المعلومات المتعلقة بالتجار.
يعتمد مشروع موازنة عام 2023 نظام سعر الصرف المتعدد
تُفرض الضرائب بأسعار صرف مختلفة، ما سيساهم في انتشار الاقتصاد النقدي وتسارع التضخّم، ويفسح بالمجال أمام الممارسات الانتهازية أو المراجحة. تشمل أسعار الصرف: السعر الرسمي (15,000 ليرة لبنانية/ دولار أميركي)، وسعر منصة «صيرفة»، والسعر المتداول به في السوق الموازية. ومن المتوقع مثلاً، أن ترعى هذه الأسعار الضرائب والمعاملات بين المستوردين وتجار التجزئة والمستهلكين. ومع زيادة الفرق بين سعر الصرف على منصة «صيرفة»، وسعر الصرف المعتمد في السوق، بإمكان المستوردين وتجار التجزئة جمع الأرباح من خلال الاستفادة من خصم على الضرائب المفروضة عليهم، وذلك على حساب الإيرادات التي يمكن أن تحققها الدولة. ومن جهة أخرى، سيعاني المستهلكون من جراء ارتفاع الأسعار.
ستؤثر عتبة دفع ضريبة القيمة المضافة سلباً على الشركات الصغيرة
باتت ضريبة القيمة المضافة تطال الشركات التي تبلغ أرباحها السنوية 750 مليون ليرة لبنانية وما فوق، ما يشكل، بالقيمة الفعلية، انخفاضاً كبيراً عن قيمة العتبة المعتمدة ما قبل الأزمة التي كانت تعادل 100 مليون ليرة لبنانية، أي نحو 66 ألف دولار. وستؤثّر هذه العتبة المنخفضة المقترحة في الموازنة سلباً على الشركات الصغيرة وتمنع المنافسة وترفع الأسعار. كما أنها تثير المشاكل، إذ يتبيّن أن قطاعات وأنشطة معينة، مثل العقارات – وهي أعمال مربحة للغاية – معفاة من الضريبة على القيمة المضافة.
ليس بإمكان لبنان أن يتجنّب إصلاح النظام الضريبي لفترة طويلة
لم تترك الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان للأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط أيّ مصدر رزق، بل أدّت الاستجابة الإجرامية للأزمة المالية للتضخّم ونظام أسعار الصرف المتعدّدة إلى القضاء على ثروات الناس، فيما أتاحت للبعض فرصاً استغلالية لتحقيق أرباح طائلة. والآن، يواصل مشروع موازنة عام 2023 – وهو الرابع خلال الأزمة – تقليص الخدمات الاجتماعية المقدّمة والاعتماد بشكل كبير على الهياكل الضريبية التنازلية، ما يؤثّر بشدّة على الفئات السكانية الأكثر ضعفاً التي باتت تشكل غالبية سكان البلاد. وقد بدأت تظهر انعكاسات هذه الممارسات على الحياة الاجتماعية في لبنان، مع اعتماد الناس أكثر فأكثر على سبل العيش غير الرسمية وترتيبات العمل غير النظامية. لذا، يشكل إصلاح النظام الضريبي في لبنان ضرورة قصوى لتحقيق انتعاش اقتصادي سليم يرتكز على حياة اجتماعية كريمة شاملة للجميع وقائمة على الحقوق. ولا تزال الفرصة سانحة أمام الطبقة السياسية لتعديل مشروع موازنة عام 2023 من خلال لجنة المال والموازنة النيابية ولصياغة موازنة شاملة للسنة المالية 2024 تضع الإنسان في المقام الأول.
* هذا المقال مبني على دراسة أعدّت بالتعاون بين «مبادرة سياسات الغد» و«اليونيسف» والآراء الواردة فيه تعبّر عن معدّيه حصراً