حسين إبراهيم – الأخبار
كان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مرتبكاً وضعيفاً خلال مقابلته الأخيرة مع قناة «فوكس نيوز» إلى درجة أنه لم يعجب حتى نفسه، وفق ما يقول معارضون سعوديون، في صورة مناقضة تماماً لما حاول أن يظهر عليه خلال السنوات القليلة الماضية، حين استطاع أن يبني قاعدته الشعبية على عناوين من مثل استقلالية القرار عن الأميركيين، ما دفع بالكثير من مؤيديه إلى تصويره على أنه «زعيم عربي» يحسن استخدام مكامن قوة بلاده، المالية خصوصاً، والاستفادة من الصراعات الدولية.
الانطباع الذي تدفع مشاهدة المقابلة إلى تكوينه، كان لحاكم يستميت في طلب الحماية الأميركية، ولو أدى ذلك إلى تطبيع بثمن بخس مع إسرائيل، على رغم تداعيات ذلك الخطيرة المحتملة على نظامه في الداخل السعودي الرافض قطعاً للتطبيع، وفي الخارج أيضاً. وفي حين أنه لا يمكن إلا أن يكون جرى الترتيب بعناية للمقابلة من قبل فريق ولي العهد، بما في ذلك الحصول على الأسئلة مسبقاً وتحضير الأجوبة، فإن ذلك لم يمنع الوقوع في الخطأ حتى في الشكل. لكن الأساس يبقى المضمون السياسي الذي أعاد ابن سلمان إلى بدايات توليه السلطة حين كان يحتاج إلى مساعدة لتثبيت وجوده فيها.
حسم ابن سلمان جدلاً دام طويلاً حول ما إذا كانت «انتفاضته» ضد الأميركيين، هي خيار ثابت استفاد للوصول إليه من تجارب سعودية مريرة معهم على مدى عشرات السنين، ومن فرص أتاحها صعود القوى الأخرى المنافسة للأميركيين في العالم، أو أنها عملية مجرّد ابتزاز اغتنم فيها ذلك الصعود بالذات، وإنما فقط لتحسين شروط العلاقة مع واشنطن، لا للانسلاخ عنها، لمصلحة الخيار الثاني. وموضوعياً، يصحّ ذلك، نظراً إلى العلاقة البنيوية بين الولايات المتحدة والنظام السعودي بكل أجهزته، وحتى بتعقيدات علاقاته ومراكز قواه الداخلية، وهي نواح لم تستطع أن تدخل إليها أي قوة أخرى في العالم بعد.
بعودته إلى هذه الصورة، يكون ولي العهد قد عاد ليواجه الأسئلة الكبيرة ذاتها، التي بدت مؤجلة، ومنها ذلك المتعلّق بخيار التطبيع مع العدو وإدخال العامل الإسرائيلي رسمياً إلى السياسة السعودية، بكل ما يفتحه هذا العامل من توتّرات في الداخل ومع المحيط. تكفي نظرة إلى عدد المعتقلين السياسيين في المملكة الذين نالوا أحكاماً قاسية، بينها الإعدام، أو حتى فترات سجن طويلة من دون محاكمة – وكل هؤلاء من ذوي الميول الإسلامية – لإدراك أن التطبيع الرسمي يواجه معارضة داخلية قوية.
سبق لابن سلمان أن أوشك على التطبيع قبل سنوات، عندما شجّع بنفسه كلاً من الإمارات والبحرين على إقامة علاقات رسمية مع العدو. ولو كان قادراً على القيام بالشيء نفسه في حينه، لفعل من دون تردّد. لكنه تيقّن في ذلك الحين من المخاطر المترتبة على هذا الخيار، وقرر فجأة استعادة الثوابت المعلنة للمملكة، أي إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، كما تقضي المبادرة العربية، السعودية الأصل. حينها فتح طريق العودة تركي الفيصل، أحد منظري التطبيع مع إسرائيل، حين هاجم في مؤتمر للأمن في المنامة، سياسة الأخيرة إزاء الفلسطينيين.
*يدرك ابن سلمان أن العودة إلى خيار الحماية الأميركية، الملتصق بالتطبيع مع إسرائيل، يضعفه شعبياً*
كانت لهجة ابن سلمان رخوة وحمّالة أوجه إزاء هذه القضية. قال إن «حل المسألة الفلسطينية مهم جداً بالنسبة إلى المملكة»، إلا أنه لم يأت على ذكر الدولة الفلسطينية، كما لم يرفض بالمطلق إقامة علاقات مع هذه الحكومة الإسرائيلية التي تعارض تلك الدولة. ودق كلامه في المقابل، عن التقدم في مسألة التطبيع، جرس إنذار لدى الفلسطينيين، بما في ذلك السلطة التي قال رئيسها محمود عباس إنه «لا يمكن إقامة سلام من دون الشعب الفلسطيني»، وهو ما يذكّر بالمعارضة الفلسطينية الشاملة التي واجهها ابن سلمان، عندما حاول فرض «صفقة القرن» على الفلسطينيين قبل سنوات.
سيحاول ابن سلمان مرة أخرى مع الفلسطينيين، إذ سيزور وفد سعودي برئاسة المبعوث غير المقيم لدى السلطة الفلسطينية، نايف السديري، عباس في رام الله هذا الأسبوع، لبحث المسألة معه. والموفد هو ابن عم ولي العهد، ومقرّب منه، وهو مؤشر إلى جديته في استكشاف إمكانات تطبيع العلاقات مع العدو.
ولي العهد يفاضل بين خيارات لكل منها إيجابيات وسلبيات في ما يتعلق بأمن النظام. هو يدرك أن العودة إلى خيار الحماية الأميركية، الملتصق بالتطبيع مع إسرائيل، يضعفه شعبياً حتى بين الفئات التي ارتفعت شعبيته فيها، سواء بسبب خطواته الانفتاحية في ما يتعلق بالتغييرات الاجتماعية التي أدخلها على أسلوب حياة السعوديين، أو ما يتعلق بمن آمنوا بأنه قائد جريء يقول لا حيث يجب. وفي المقابل، هو يشعر بأنه إذا مضى في تحدي الأميركيين حتى النهاية، فهو لن يخسر دعمهم فحسب، وإنما يخاطر بأن يكيدوا له، وبالتالي يعود إلى مربع الخوف على مستقبله كحاكم، نظراً إلى ما بناه الأميركيون من مراكز قوى داخل المملكة، والعلاقة البنيوية بينهم وبينها، ولا سيما على المستوى الأمني.
وفي حين أن ابن سلمان لم يتراجع عن الخيارات التي اتخذها أخيراً بتعزيز العلاقات مع الصين والتقارب مع إيران، أو السعي إلى إنهاء الحرب في اليمن، إلا أن هذه الخيارات لا يمكن أن تتناسق كلها مع التطبيع والعودة إلى المظلّة الأميركية. وإذا كان للرجل مصلحة أكيدة بإنهاء الحرب اليمنية، فإن التطبيع لن يكون برداً وسلاماً على إيران، وإن كان من المستبعد أن يعيد العلاقات معها إلى زمن القطيعة. أما العلاقات مع الصين، فهي التي ستتأثر سلباً، فهذا مطلب أميركي يساوي التطبيع أو يفوقه، وستوظّفه واشنطن في صراعها مع بكين. وإلا فلن يكون للأميركيين مصلحة من الأساس في احتضان السعودية من جديد.
كل ما تقدّم، يسوّغ، جزئياً على الأقل، ما خلص إليه معارضون سعوديون في تحليلهم مقابلته، ولا سيما المغرد الشهير «مجتهد» الذي كتب على منصة «X» أن «ابن سلمان منزعج جداً ومكتئب من فشل المقابلة»، مضيفاً أنه بلغه «أنه لم يهتم بالمقابلة إلا القليل من المحللين الغربيين، وأسوأ من ذلك أن هؤلاء اعتبروه مغفلاً جاهلاً غير ناضج يقرأ الأجوبة بطريقة متكلّفة وغير منسجمة ومن دون أي مصداقية. وبناءً على ذلك، طلب حذف أجزاء من المقابلة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل، وحدّد ما يجب نشره».