صحيفة الأخبار
مع افتقاد مجلس القضاء الأعلى القدرة على إجراء تشكيلات قضائية شاملة أو مناقلات جزئية، أو ملء الشغور في رئاسة غرف محكمة التمييز وهو أضعف الإيمان، فاجأ الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في بيروت بالإنابة القاضي حبيب رزق الله الجسم القضائي بقرارين، قضى الأوّل بتكليف القاضي زلفا الحسن رئاسة محكمة الجنايات في بيروت بعد تقاعد القاضي سامي صدقي في 29 أيلول الجاري، إضافة إلى وظيفتها الأساسية في رئاسة محكمة البداية في بيروت الناظرة في القضايا المالية، وتضمّن القرار الثاني تكليف قاضي التحقيق في بيروت وائل صادق ترؤّس دائرة التحقيق بالإنابة وبالتالي حلوله في مركز قاضي التحقيق الأوّل في بيروت بالإنابة فور تقاعد المنتدب الحالي القاضي شربل أبو سمرا في 9 تشرين الثاني المقبل.
التكليفان واجهتهما اعتراضات من أهل القضاء لا تتعلق بالقاضيين الحسن وصادق، بل بطريقة التكليف وما تضمّنته من مخالفات لم تراع معايير الأقدمية والدرجات مثلاً، علماً أنّ تشكيلات قضائية سابقة لم تراعِ معايير الكفاءة والأقدمية والدرجات أيضاً، فتجاوز قضاة زملاءهم نتيجة تدخّلات وضغوطات وترجيح هذا على ذاك وموافقة مجلس القضاء الأعلى عليها برضى وامتنان!
وبحسب قضاة، فإنّ قرارَي التكليفين حملا توقيع القاضي رزق الله بناءً على طلب سياسي واضح وصريح، محمّلين المسؤولية لرئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود الذي يُعتبر عهده الأضعف بين كلّ من تعاقبوا على رئاسة المجلس، لأنّه ثبّت الطائفية بقوّة داخل المحاكم والعدليات. وأبرز الملاحظات التي يوردها القضاة:
أولاً، صحيح أنّ التكليف هو من اختصاص الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في المحافظة الموجود فيها، لكن، لا يمكن تخطّي القاضي عبود لضرورات «الوقوف على الخاطر»، خصوصاً عندما يكون الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف بدوره منتدباً لتولّي هذه الرئاسة كما هي حال رزق الله (درجته 22 ويصبح في الدرجة 23 بتاريخ 12 تموز 2024)، وهو انتُدب باعتبار المركز مخصّصاً للطائفة المارونية بحسب التوزيع الطائفي غير المستند إلى أيّ نصّ قانوني، وإنّما إلى اجتهاد خاص من جماعة مراعاة «التوازن الطائفي» الذي لا يُعمل به عند إجراء مباراة دخول إلى القضاء بعدما طرح إلغاءها القاضي حسن الحاج يوم كان عضواً في مجلس القضاء الأعلى مطلع تسعينيات القرن العشرين.
ومع أنّ القاضي أيمن عويدات صديق حميم للقاضي عبود وهما ابنا دورة قضائية واحدة عام 1989، إلّا أنّ الأخير لم يشأ انتدابه ليكون الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في بيروت، كونه من الطائفة السنية فيما الموقع هو للطائفة المارونية، علماً أنّه القاضي الأعلى درجة بين زملائه في المحافظات، ويُفترض أن يحل تلقائياً في المركز عند حصول الشغور حتّى ولو كان من طائفة مغايرة، كما هي الحال في البقاع حيث حلّ الماروني القاضي حارس الياس (يتقاعد في 13 كانون الأول 2023)، مكان الدرزي القاضي أسامة اللحام، وفي الشمال حيث حلّت السنية القاضي رولا المصري قبل تقاعدها مع أنّها كانت منتدبة لترؤّس غرفة في محكمة التمييز، ثمّ السنية القاضي سنية السبع بعد تقاعد الشيعي القاضي رضا رعد، وفي الجنوب حيث حلّ الشيعي القاضي ماجد مزيحم عند تعيين السنية القاضي رلى جدايل مديراً عاماً لوزارة العدل، والشيعية القاضي نضال شمس الدين مكان الكاثوليكي القاضي أسعد جدعون. وخرجت عن هذا الاستثناء محافظة جبل لبنان حيث تمّ تقسيمها إلى جنوبية وشمالية لاستبعاد السنية القاضي ريما شبارو بعدما قدّم الأرثوذكسي القاضي رجا خوري استقالته، فتوزّع المركز بين الماروني القاضي إيلي الحلو في الجبل الجنوبي (بعبدا وعاليه والشوف)، والسنية القاضي رنده حروق المقرّبة من عبود في الجبل الشمالي (المتن وكسروان وجبيل).
*قرار القاضي رزق الله هرطقة قانونية لا سابقة له*
ويصدر التكليف عادة بصورة يومية، ويقوم من ورد اسمه فيه بالمهام الموكولة إليه، لأنّه ليس انتداباً بانتظار التعيين بالأصالة. وبالتالي لا يحقّ للقاضي رزق الله أن يكلّف أيّ شخص بعمل قضائي في عدلية بيروت سواء أكان رئيس محكمة أم مستشاراً، والقاضي المطلوب الحلول مكانه موجود ولم يتقاعد ولم يمت ولم يتغيّب لدواعي السفر أو المرض. لذلك كان يتوجّب على رزق الله أن ينتظر تقاعد صدقي لكي يكلّف المستشارة الأعلى درجة في المحكمة نفسها بترؤسها كما حصل في محاكم مختلفة، علماً أنّ الانتدابات مرهِقة للقضاة، والأفضل إيجاد حلّ جذري لإجراء تشكيلات قضائية شاملة، ولا سيما أنّ هناك 69 قاضياً تخرّجوا في معهد الدروس القضائية خلال السنتين المنصرمتين، وينتظرون تعيينهم أعضاء في محاكم البداية وقضاة منفردين وترقية زملائهم الموجودين إلى مراكز أعلى بطبيعة الحال.
ثانياً: جاء تكليف الحسن وصادق خلافاً للآلية المعتمدة بموافقة ضمنية من عبود نفسه. فعندما عيّن مجلس الوزراء القاضي غسّان عويدات نائباً عاماً تمييزياً في أيلول 2019، حلّ مكانه تلقائياً في مركز قاضي التحقيق الأوّل في بيروت القاضي الأعلى درجة وصودف أنّه الماروني جورج رزق الذي تقاعد في نيسان 2020. ولم ينتظر الماروني الآخر القاضي شربل أبو سمرا انتدابه أو تكليفه، فجاء من منزله فوراً إلى مكتب قاضي التحقيق الأوّل وجلس فيه ولم يعترض أحد كونه الأعلى درجة بين زملائه الذين يصغرونه سناً ودرجة وأقدمية.
غير أنّ الأمر اختلف هذه المرّة، إذ بادر القاضي رزق الله إلى إصدار قرار بتكليف القاضي وائل صادق قبل 44 يوماً من تقاعد أبو سمرا، متجاوزاً أربعة قضاة في دائرة التحقيق أعلى من صادق درجة وهم: الكاثوليكي فؤاد مراد في الدرجة 18 (بلغها في 16 آذار 2023)، والشيعي بلال حلاوي في الدرجة 15 (يصبح في الدرجة 16 في 10 أيلول 2024)، والدرزي فريد عجيب في الدرجة 15 (من دورة حلاوي نفسها)، والسني روني شحادة في الدرجة 14 (يصبح في الدرجة 15 في 24 تشرين الثاني 2024)، بينما القاضي صادق يصبح في الدرجة 14 في 24 تشرين الثاني المقبل.
وعلمت «الأخبار» أنّه في حال لم تجر معالجة هذا «التجاوز»، فإنّ قضاة في دائرة التحقيق في بيروت لن يقبلوا بتسلّم إحالة أيّ ملفّات جديدة تردهم من مكتب قاضي التحقيق الأوّل، وهذا ليس موجّهاً ضدّ القاضي صادق المحبوب من الجميع، وإنّما هو احتجاجٌ على القرار. والقطيعة تعني شلل هذه الدائرة، بحيث يصبح العمل واقعاً على عاتق القاضيين الاثنين المتبقييْن، القاضي أسعد بيرم، والقاضي صادق نفسه الذي لم يعتكف يوماً خلال اعتكاف القضاة العامَ الماضي.
ما حصل في بيروت، لا سابقة له في أيّ مركز قاضي تحقيق أوّل خلا بفعل التقاعد أو الوقف عن العمل لأسباب تأديبية خلال السنوات الأربع السابقة. ففي العادة يحلّ القاضي الأعلى درجة بين زملائه في هذا الموقع تلقائياً من دون أن يعترض أحد، ولو كان من طائفة مختلفة عن الطائفة المحسوب المركز من «حصّتها»، كما حصل في البقاع حيث حلّت الكاثوليكية القاضي أماني سلامة مكان الشيعي القاضي عماد زين، وفي النبطية حيث حلّ السني القاضي غسان معطي مكان الشيعي القاضي محمد بري، وهذا الحلول طبيعي ما دام الاثنان، سلامة ومعطي، هما الأعلى درجة بين زملائهما الموجودين هناك، وإلّا كان يفترض أن يحلّ الشيعيان رؤى حمدان في البقاع، وحسين الحسيني في النبطية، فما الذي استدعى تغيير هذه الآلية، غير التدخّل السياسي الواضح والصريح؟
ما فعله القاضي رزق الله ليس هو أوّل هرطقة قانونية، بل سبقه استحداثه من خارج الهيكلية ومنظومة محاكم الاستئناف الموجودة، محكمة استئناف ثالثة تنظر في دعاوى الجنح وإيلاء رئاستها للقاضي كريستيل ملكي المعيّنة مستشارة معه في غرفته في محكمة الاستئناف في بيروت، علماً أنّ استحداث محكمة جديدة هو من صميم اختصاص مجلس القضاء الأعلى وليس الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف الذي يقتصر دوره على شؤون إدارية، ولا يملك أيّ سلطة على كيفية إدارة القضاة في محافظته لمحاكمهم وملفّاتهم وإصدار الأحكام والقرارات فيها. وعندما يستشعر قاض ما حرجاً في ملفّ ما يتنحّى من تلقاء نفسه، فيحال طلبه على الرئيس الأوّل لتكليف قاضٍ آخر للنظر فيه.