كتبت النهار
كانت الجولة الاخيرة لرئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل في البقاعين الاوسط (زحلة) والشمالي (بعلبك – الهرمل)، محطة معيارية انتظر كثر من المعنيين نتائجها ووقائعها لكي يبنوا على الشيء مقتضاه، واستطرادا لكي يستشرفوا بالضبط صورة عن مآلات وضع هذا السياسي وامكانات حراكه وخط سيره المستقبلي. وكان هذا الامر بديهيا بعد تطورات مهمة في مسيرة باسيل ومسار تياره، وهي:
– خروج التيار خروج المنكسر من تجربة عهد رئاسي حافل بالاحداث والتطورات.
– خروجه المدوّي من مدار تفاهم نسج خيوطه مع “حزب الله” قبل 17 عاما لينطلق باسيل في اعقابه في رحلة معاكسة تماما قادته في بعض المراحل الى الاصطفاف جهاراً مع خصوم الحزب، وتجلّى ذلك بأفصح صوره في جلسة الانتخاب الاخيرة في مجلس النواب في 14 حزيران الماضي عندما جيّرت غالبية اعضاء كتلة التيار النيابية اصواتها لمصلحة المرشح جهاد أزعور.
كل ذلك عزز انطباعاً تكوّن لدى الحزب فحواه ان باسيل قد قرر خوض تجربة فعل سياسي مستقلة تماما عن الحزب بصرف النظر عما يمكن ان يسبّب له ذلك من خسارات. ولهذا تسري حاليا في اوساط الحزب نظرية مفادها ان الرجل قد عاد الى “قواعده الاولى” وانه لم يعد قادرا على تجشّم عناء خياره البالغ الجرأة عندما قرر إبرام تفاهم مع الحزب.
– ان باسيل أمّن تموضعا داخليا جديدا، أمّن له علاقة اقليمية جديدة جعلته على نحو أو آخر امتدادا للدور القطري الطامح والباحث منذ زمن عن قواعد ارتكاز في الداخل اللبناني تجعله لاعبا اقليميا.
وعليه، فان باسيل قد حسم أمر علاقته مع الدوحة وقدّم براهين وأدلة تشي بمدى التزامه بمقتضيات مثل هذه العلاقة وفي مقدمها تخلّيه عن طرح “الابراء المستحيل” الذي أراده واضعه برهانا ساطعا على ادانة عهد سياسي وتحميله تبعات الانهيار.
وفي اوساط “حزب الله” من بات يتحدث ايضا في الآونة الاخيرة عن برهان آخر اكثر حداثة يؤكد الالتزام بمقتضيات هذه العلاقة وتتمثل في ايقاف اندفاعته في مسار الحوار مع الحزب عندما قيل له ان لا مبرر للمضي في هذا الحوار اذا كان يريده سدا منيعا في وجه وصول خصمه اللدود قائد الجيش الى قصر بعبدا، لأن الدوحة قدمت لائحة جديدة تتضمن ثلاثة اسماء جديدة ليس من بينها اسم القائد.
وثمة من يرى ان “حزب الله” الذي وجد في “التيار البرتقالي” ذات يوم من عام 2006 ضالته المنشودة ، فأقدم بحماسة على خوض غمار تجربة شراكة سياسية معه كان لها وقْعها في حينه، قد وطّن نفسه منذ وقت ليس بالقصير على قبول معادلة مختلفة فحواها انه صار من الاستحالة بمكان اعادة استنساخ تلك التجربة سواء بصيغتها الاولى أو معدلة.
في العقل الباطن للحزب ان اشارة الرغبة الاولى بالافتراق عن تلك التجربة قد أتت من باسيل نفسه الذي فاجأ السيد حسن نصرالله قبل نحو عشرة اشهر بموقفه السلبي من موضوع السير بخيار ترشيح سليمان فرنجية. وهو لم يكتفِ كما بات معلوما بالرفض مشفوعا بالتعبير عن الاستياء، بل انه اتخذ ذلك منصة لهجوم مضاد على الحزب توالى فصولا وبلغ ذروته في حملة على شخص سيد الحزب باتهامه بعدم الوفاء وعدم الصدقية.
والامر غير الايجابي في رأي الحزب ان هذه “النزعة العدائية” من جانب باسيل عكست نفسها على شريحة واسعة من قاعدة التيار الى درجة ان نائب التيار في زحلة سليم عون ابلغ الى نائب شيعي سابق ما مفاده ان قاعدة التيار صار يستهويها الخطاب المتطرف اكثر من أي خطاب آخر. واللافت في الامر ان ردة فعل الحزب حيال ذلك كانت ذات وجهين:
الاول، استيعاب حملة باسيل والتشديد على عدم الانزلاق الى سجالات معه.
الثاني، ان الحزب كان يراهن على أمرين: الاول انه لا يمكن منع باسيل من المضي مع خياراته الجديدة كاملة. والثاني ترك خط الرجعة مفتوحا معه.
وبناء عليه، لم يكن مستغربا أو مفاجئا ان يبدي الحزب تجاوبا سريعا مع اعلان باسيل قبل نحو ثلاثة اشهر استعداده لمعاودة الحوار المشروط هذه المرة ومن ثم القبول بمشروع الوزير السابق زياد بارود قاعدة النقاش الاساسية حول بند اللامركزية الادارية الموسعة تماشيا مع رغبة باسيل.
وبمعنى آخر، يستقر الحزب عند قراءة داخلية فحواها ان لا فائدة عاجلة تُرجى من استئناف الحوار المتجدد مع التيار، وانه بالنتيجة ووفق تعبير احد قياديي الحزب في لقاء خاص “هو حوار عقيم لا يُنتظر منه الكثير” لأن الظروف والمعطيات وحسابات المصالح التي أملت على “التيار البرتقالي” ذات يوم من ايام 2006 إبرام “تفاهم مار مخايل” مع الحزب لم تعد مناسبة للتيار في الآونة الاخيرة، واستطرادا لم تعد تلبي مصالحه.
ومع ذلك، لم يكن أمام الحزب إلا المضي قدماً في هذا الحوار لكن من دون ان يعقد الآمال العراض عليه بدليل ان حديثه عنه كان اقل بكثير عن حديث الطرف الآخر عنه وعما حققته الجلسات الثلاث للجنة المشتركة المولجة بالوصول الى تفاهم.
واستطراداً، كان تصوّر الحزب لمستقبل هذا الحوار يقوم على قاعدتين:
الاولى، ان تبقى العلاقة مع التيار علاقة صداقة وانفتاح للحيلولة دون تحوّلها يوما ما الى علاقة متوترة.
الثانية، ان تكون وفق مفهوم المصلحة “علاقة على القطعة”، أي بحسب الحاجة والضرورة ووفق قاعدة “كل يوم بيومو”.
ومع كل ذلك، يبقى السؤال: لماذا اعطى الحزب اهمية لرصد جولة باسيل البقاعية بالذات، واستتباعا لماذا اعتبرها معيارا يبنى عليه؟
ببساطة لأن الدوائر المعنية في الحزب قرأت في الجولة اياها تطوراً يعطي صورة استشرافية لأداء باسيل السياسي مستقبلا. إذ ان باسيل الذي رفض يوم كان تياره في ذروة الصعود ان يتعاون مع الزعامة السكافية إلا بشروطه هو، كما رفض العلاقة مع آل فتوش، يعود الى فتح ابواب العلاقة معهما باعتبارهما من الثوابت في المدينة من جهة، وانهما معا او احدهما يمكن ان يكون بديل الحزب لخوض غمار الانتخابات المقبلة بالتحالف معهما. واذا كان باسيل قد بدأ رحلة البحث المضنية عن خيارات بديلة لتحالفه انتخابيا مع الحزب في الدورة المقبلة في البقاع او الشمال او سواهما، فالثابت ان الحزب بدأ يفكر ايضا باحتمالات بديلة في الساحة المسيحية وهو يعدّ العدة لمثل هذا الاحتمال.