إبراهيم الأمين – الأخبار
ما أشار إليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، الاثنين الماضي، عن احتمال إطلاق ورشة لتحديد الحدود البرية للبنان مع فلسطين المحتلة، لم يكن إشارة في الهواء. بل يتصل بما كان يجري بعيداً من الأضواء، بهدف إيجاد حل لـ«المعضلة الإسرائيلية» المتمثّلة ليس بوجود المقاومة في الجنوب، بل بالخيمتين اللتين نصبهما المقاومون في منطقة مزارع شبعا المحتلة.
وعلمت «الأخبار» أن النقاش الجدي حول هذه المسألة، بدأ قبل بضعة أشهر، بعدما طلب العدو عقد اجتماع سرّي بين وفدين عسكريين، إسرائيلي ولبناني، برعاية قائد القوات الدولية العاملة في الجنوب، للبحث في ملف الحدود، أي خارج إطار الاجتماعات الثلاثية التي تُعقد دورياً في الناقورة للبحث في الخروقات للقرار 1701.
وبعد مشاورات سياسية وأمنية وعسكرية، كُلّف رئيس الوفد اللبناني العميد منير شحادة باختيار اثنين من أعضاء الوفد العسكري العامل معه في ملف الحدود الجنوبية لحضور الاجتماع الذي ترأّسه قائد القوات الدولية بحضور أحد مساعديه فقط، وبحضور رئيس الوفد الإسرائيلي واثنين من مساعديه.
سبق الاجتماع وصول الموفد الأميركي الخاص عاموس هوكشتين إلى بيروت، نهاية آب، وإطلاقه مواقف أمام المسؤولين اللبنانيين من أنه مكلّف من حكومته بإدارة مفاوضات لمعالجة النقاط العالقة على الحدود البرية شبيهة بمفاوضات ترسيم الحدّ البحري. وأبدى هوكشتين يومها حماسة شديدة، وتحدّث عن استعداد حكومة العدو للسير في المفاوضات حتى إنجاز الخطوة كاملة، وأكّد أن إسرائيل مستعدّة للبحث في كل ما يطلبه لبنان، بدءاً من نقطة b1 في الناقورة وصولاً إلى مزارع شبعا المحتلة. وكان هوكشتين واضحاً في أن تل أبيب تستعجل إنجاز اتفاق يقايض إخلاء شمال بلدة الغجر بإزالة الخيمتين اللتين نصبهما حزب الله في منطقة مزارع شبعا المحتلة، كما كان شديد الصراحة في الحديث عن «إحراج كبير» يواجهه الجيش الإسرائيلي بسبب عجزه عن إزالة الخيمتين بالقوة، وعن رغبة العدو بإنهاء هذه الأزمة حتى لو كانت الكلفة هي السير في معالجة النقاط البرية العالقة.
في اللقاء الذي جمع هوكشتين ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في السراي الحكومي، أكّد الأخير أن لبنان – وحزب الله ضمناً – يريد تعزيز الاستقرار، واستعجال أعمال التنقيب في البحر، والعمل على معالجة الأزمات الاقتصادية والمعيشية، ولا يوجد في لبنان من يريد الحرب مع إسرائيل الآن. وقال لهوكشتين: «تتحدّثون دوماً عن سلاح حزب الله وانتشاره جنوباً، وأنتم تعرفون أنه طالما أن هناك أراضيَ لبنانية محتلة، فليس هناك من هو مستعد للبحث في مسألة سلاح الحزب». عندها سأل الضيف الأميركي: «حسناً، ماذا لو وافقت إسرائيل على إخلاء كل النقاط التي يعتبرها لبنان محتلة، هل تضمنون انسحاب حزب الله من الحدود وألا تبقى هناك ذريعة لتبرير انتشاره العسكري وتسلّحه؟». وقبل أن يسمع الإجابة، قال هوكشتين: «هل تعتقدون بأن حزب الله مستعد للسير في ما نتحدّث عنه الآن، كما حصل في الاتفاق البحري؟». فكان الجواب الذي سمعه «أن لبنان مستعد للخطوة التالية، وعليك إثبات أن إسرائيل مستعدّة للانسحاب من كل المناطق المحتلة من دون ترك أي ثغرة». وغادر هوكشين يومها واعداً بالعودة قريباً بعد أن يحصل من إسرائيل على أجوبة.
لاحقاً، عُقد «الاجتماع العسكري السرّي» الذي خلص بعده الوفد اللبناني إلى أن الجانب الإسرائيلي شديد الاهتمام بإنجاز مقايضة شمال الغجر بالخيمتين. وجرى نقاش تفصيلي، قبل أن يُتفق على إبقاء مضمون الاجتماع سرّياً. وشدّد الأميركيون والقوات الدولية على ضرورة عدم التسريب لأن حكومة بنيامين نتنياهو ستكون عندها في حالة إحراج كبير، في حال بدا أنها تتنازل أمام حزب الله.
يومها نشرت «الأخبار» خبراً صغيراً عن العرض الإسرائيلي، قبل أن تنشر في اليوم التالي تقريراً مفصّلاً لم يشتمل على التفاصيل، فأقامت إسرائيل الدنيا ولم تقعدها، واحتجّت لدى القوات الدولية على تسريب الخبر، وطالبت بخطوات لاحتواء الموقف، بعدما ظهر الأمر في بيروت وكأنّ حكومة نتنياهو تتنازل عن أراضٍ ومناطق واسعة مقابل إزالة حزب الله خيمة واحدة. وأصدرت القوات الدولية بياناً أشارت فيه إلى ما أسمته «ضرر النشر»، فيما أصدر الجيش اللبناني بياناً نفى فيه «التوصل إلى اتفاق»، وكان واضحاً أن هدف البيانين واحد، وهو استرضاء الأميركيين، ومن خلالهم الإسرائيليين، من أجل السير قدماً في المفاوضات.
وعلمت «الأخبار» أنه بعد نشر الخبر، وتصاعد الانتقادات في إسرائيل لحكومة اليمين، جرى تواصل بين مسؤولين لبنانيين وهوكشتين لسؤاله عما إذا كان هناك من جديد، وما إذا كان قد حدّد موعداً لزيارته كيانَ الاحتلال ولبنان، فأجاب بأن هناك أموراً كثيرة طرأت، وأشار إلى «ضرر التسريب»، لافتاً إلى أن حكومة نتنياهو كانت مستعدّة لتسوية سريعة وفق آلية لا تظهرها ضعيفة، فيما يريد حزب الله «بهدلة» الحكومة الإسرائيلية و«إذلالها» ليس فقط بالقبول بشروطه مقابل إزالة الخيمتين، بل أيضاً في طريقة إنجاز الأمر. وخلص هوكشتين إلى استبعاد أن تكون هناك إمكانية لاستئناف البحث في الأمر قريباً.
*إحالة شحادة إلى التقاعد عطّلت الوفد اللبناني ومقترحات الحل رُفضت لأسباب سياسية*
في غضون ذلك، طرأت مشكلة لبنانية على الملف تمثّلت بإحالة العميد شحادة إلى التقاعد. وبالتالي، لم يعد هناك رئيس للوفد العسكري اللبناني المفاوض. وقد جرت اتصالات لتفادي هذا الشغور، واقتُرحت حلول عدة، منها ترقيته إلى رتبة لواء، ما يسمح له بتمديد خدمته في السلك العسكري على غرار ما حصل مع المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري. إلا أن وزير الدفاع موريس سليم رفض توقيع أي مرسوم كهذا، كما رفض فكرة استدعاء شحادة من الاحتياط للقيام بمهمة تشكّل ضرورة للأمن القومي اللبناني. علماً أن رفض سليم التمديد أو الاستدعاء من الاحتياط، لا يتعلق بشحادة، بل حتى لا يتحوّل ذلك إلى سابقة يمكن تكرارها مع قائد الجيش العماد جوزيف عون لدى بلوغه سن التقاعد مطلع السنة المقبلة. هكذا، انتهت الأمور إلى تعطّل العملية، خصوصاً أن فكرة تكليف شحادة بالمهمة من خارج السلك، تعني الاستعانة به كمدني، وهو مبدأ يخالف التوجه الذي اتُّفق عليه مع الرئيس ميشال عون سابقاً، بأن يقتصر أي وفد لبناني يناقش ملف الحدود مع العدو على عسكريين لديهم جدول أعمال تقني، وعدم انتداب أي موظف مدني أو سياسي حتى لا تأخذ المفاوضات بعداً سياسياً.
عملياً، تذرّع العدو بدايةً بالتسريب وأرجأ اجتماعاً كان مقرّراً لوضع اقتراح آلية لتنفيذ الاتفاق، ثم جاء تقاعد العميد شحادة ليمنع لبنان من إيفاد وفد إلى المفاوضات الآن. وهذا لا يعكس مشكلة تقنية فقط، بل يخفي حقيقة أن العدو لم يكن فعلاً مستعداً لهذه الخطوة، وإلا كيف يمكن تفسير موقف لـ«دولة» تقول إنها تريد عقد اتفاق له بعد إستراتيجي، ثم تقرّر التراجع عنه بسبب نشر خبر في صحيفة؟
عملياً، هناك الكثير من التفاصيل حول الاتفاق الذي كان مقترحاً، والمعالجات التنفيذية الخاصة بشمال الغجر من جهة وبالناقورة من جهة أخرى، إضافة إلى نقاش أكثر تعقيداً يخصّ مزارع شبعا والنقاط الخلافية على طول الحدود البرية. ولهذا العنوان بحثه الخاص.