كتبت النهار
قد لا يكون “لائقاً”، ولا ندري إن كانت الاستعانة بتعبير اللياقة جائزة في هذا المقام، أن نقارن الوسط السياسي اللبناني بالوسط الديبلوماسي الدولي على “فداحة” هذه الاستعارة الشديدة الغلوّ والمبالغة والتضخيم. ومع ذلك، وما دام أيّ شيء لا يؤثر عندنا في سلوكيات سياسية متأصّلة بأمراضها وطبيعتها وفسادها وجاهليتها وتخلفها، ترانا كلبنانيين لا نتردّد لحظة في التعبير عن صدمتنا المتدرّجة من هذا التماثل المقزز بين “طبقة” ديبلوماسية أممية تشهد فصول عجزها وانقساماتها وقصورها وتحكيم مصالح دولها المتضاربة أمام واقع مفجع مخيف إنساني في غزة لم يعرف العالم مثيلاً له حتى في الحرب العالمية الثانية، ومجريات مصغرة تتولاها “الطبقة” السياسية المبجلة في لبنان أمام خطر انسحاق حقيقي ومرعب يواجهه البلد الذي كأنه يدفع كفارة كونه يقع منذ نشأته على درب الجلجلة العربية والإقليمية والدولية.
لا تتمالك نفسك كلبناني ملتصق قسراً بكوارث الشرق الأوسط ومرّ عليك حتى الساعة ما يناهز نصف قرن منذ سبعينيات القرن الماضي إلا التقزز، بالتعبير الأكثر جموحاً، أمام فصول مخزية لجلسات مجلس الأمن الدولي المتعاقبة في الأيام السابقة التي تقاذفت وتتقاذف فيها “الدول الكبرى” استعمال الفيتو بقدر لا سابق له وراحت تتساقط مشاريع القرارات كأوراق الخريف فيما تتصاعد المجازر ضد الإنسانية في غزة على نحو شكّل ويشكّل محرقة إسرائيلية مرعبة ومخزية تعويضاً عن عجز إسرائيل عن الثأر من “حماس”. ليس القصور الدولي أمام الكوارث الحربية والنزاعات والحروب أمراً جديداً، وعمره من عمر إنشاء “هيئة الأمم” التي صارت الأمم المتحدة وانبثق منها مجلس الأمن الدولي بنظام تحكيم الدول الخمس الكبرى بـ”حق الفيتو” الذي صار ناظماً لميزان القوى الدولية في تسيير هذه المنظمة الأممية الدولية. ولكن في القرن الحادي والعشرين وأمام ثورة العولمة المعرفية والتطوّر الهائل الذي تحقق مع انفجار تكنولوجيا الاتصالات لم يعد يمكن التسليم بقواعد مهترئة متأكلة من مثل تفرج العالم بأسره ثلاثة أسابيع حتى الآن أمام الحرب الطاحنة بين إسرائيل و”حماس” وحلفائها التي تجندل يومياً مئات وألوف الضحايا في غزة وتتهدّد بزحف الحرب الى لبنان وبإشعال حرب إقليمية تتورّط فيها أميركا وإيران وجهاً لوجه.
محنة الفلسطينيين الرازحين تحت المجازر الثأرية الإسرائيلية في غزة قد تصعب مقارنتها بأيّ تطوّر آخر قبل أن تستيقظ “الأمم” المتهادية في تبادل الفيتوات في مجلس الأمن لتفرض وقف المذبحة والحرب أقله من منطلق إنساني محض. ومع ذلك نتساءل بإيحاءات المماحكات القاتلة التي يعيشها اللبنانيون على يد طبقتهم السياسية التي آلت أقدار غاشمة أن تتحكم بهم ولم تنفكّ توغل تحكماً، أيّ فارق بين قصور دولي يترك المجازر تتناسل مجازر إضافية وبلد يستحضر بقصور وعجز وتواطؤ سياسي كل يوم كارثة أو شبح كارثة جديدة؟
لن يقلل إطلاقاً من محنة اللبنانيين أن تشتم طبقتك السياسية وتوازيها بقصور ممثلي الدول في مجلس الأمن لمجرد إفراغ غيظك ومللك ويأسك كلبناني من فائض الأزمات والكوارث وحتى الحروب كما يهدّدك بذلك زمن ما بعد “طوفان” الحرب الجارية في غزة والمتمددة تدريجاً الى لبنان ومنه حتماً الى ما بعد لبنان… ولكنك تتساءل أي مصير قاتم هذا للشرق الأوسط برمته إن كانت “لبننة” انقسامية فظيعة أصابت الدول كما أصاب لبنان الذي “استيقظ” ساسته بالأمس، بعد هدنة خاطفة، على حاجتهم الملحّة لاستعادة ملهاة جاهلية في عز زحف الحرب إلينا؟