كتبت النهار
ليس خطأً لجوء دولة عضو في الأمم المتحدة أو مجموعة بشرية الى الجمعية العمومية للأمم المتحدة في حال إخفاق مجلس الأمن في إنصافها أو في رفع الظلم والغبن عنها بحسب اقتناعها. فهو الهيئة الأرفع في هذه المنظمة الدولية، لكن “الأرفع” لا تعني الأعدل أو الأكثر احتراماً لحقوق الإنسان التي تستبيحها دولٌ تحكمها أنظمة استبدادية عسكرية أو ميليشياوية أو محكومة من حزب واحد يزعم أن تمكين الفقراء من شعوبها المحتاجة يقتضي منع الحرّيات وقمع ممارسيها ومصادرة الثروات قبل التحقّق من مصادرها واستخدامها لمصالح شخصية لا علاقة لها بالصالح العام. بل تعني كلمة “الأرفع” تمنّع مجلس الأمن عن اتخاذ قرارٍ في أيّ قضيّةٍ تُعرض عليه. والأرفع ليس دائماً “الأعدل” لأن “حق الفيتو” الذي نيط بأعضاء خمسة كبار من دول العالم هيبةً وقوةً عسكرية ونفوذاً سياسياً وقوةً اقتصادية لم يُستعمل في معظم الأحيان من أجل إصدار قرارات في مصلحة الشعوب. علماً بأن ذلك كان الهدف منه، لكنه استُعمل من أجل حسم صراعات النفوذ في العالم والسيطرة عليه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ومالياً وإن على حساب الدول النامية وشعوبها الفقيرة والعاجزة عن استثمار ثرواتها الدفينة والكامنة في باطن الأرض من جرّاء أنظمتها الفاسدة التي باعت ثروات شعوبها للدول الكبرى “العادلة” كما هو مُفترض في مقابل سلطات فاسدة همّها تكديس الثروات من الفُتات الذي تتركه لها الدول الكبرى. هذا ما يدفع المظلومين الى اللجوء الى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
والأمثلة على لجوء من هذا النوع ليست كثيرة لأنه حتى الفقراء والمظلومون يعرفون أن قراراتها غير مُلزمة وأن أهميتها معنوية. لكن من يهتم للمعنوية من كبار العالم. لعلّ أبرز دليل على ذلك لجوء الفلسطينيين الى الجمعية العمومية للأمم المتحدة عندما أحجم مجلس الأمن عن إنصافهم وقبل عقود كثيرة، فيما لجأت إسرائيل التي اغتصبت أرضهم بالتدريج الى مجلس الأمن لأن لها فيه بين دول تمتلك حق النقض فيه مؤيّدين بقوة ومعترضين بضعف لا يدفعهم الى حق إستعمال النقض المعروف عالمياً بـ”الفيتو”. لذلك نمت إسرائيل وكبرت واستمرّت في قضم فلسطين من جرّاء “تعتير” العرب وعجز دولهم عن استعادة حق شعبها بل عن المحافظة على حقوقها المعرّضة بين حين وآخر للهضم. وأصدرت الجمعية العمومية في حينه قراراً شهيراً يتعلّق بقضية فلسطين لكنه لم يُطبّق رغم أن أصحاب القرار وأهل فلسطين والعرب تمسّكو به لأنه نصّ على عودة اللاجئين منهم الى بلادهم، أي أرادوا إثبات حق لهم في وقت أخذت فيه إسرائيل الأرض كلها، وهي تحاول الآن استغلال تأييد العالم الغربي لها بعد عملية “حماس” في 7 أكتوبر الجاري أولاً لتكريس نجاحها في ضرب حل الدولتين على مدى عقدين أو أكثر، وثانياً لتنفيذ مشروعها أو ربما مشروع حلفائها القاضي بترحيل فلسطينيي الضفة الغربية قسراً الى الأردن وفلسطينيي غزة قسراً أيضاً الى سيناء مصر.
ماذا يجب أن يفعل العرب لمواجهة هذه التطورات الخطيرة المرتقبة؟ يعتقد المتابعون من قرب لهذه القضية المُستعصية على الحلّ منذ نشوئها عام 1948 أو حتى قبل ذلك، أن على دولتي مصر والأردن تهديد إسرائيل والمجتمع الدولي الغربي المؤيّد لها وغير الغربي المؤيّد لها وإن بخفر وتحفّظ لأسباب متنوّعة بتجميد معاهدتي السلام اللتين وقّعتاهما معها الأولى عام 1979 والثانية عام 1994، والتهديد جدّياً بإلغائهما إن لم تُلغِ إسرائيل ما جعل حلّ الدولتين غير قابل للتطبيق مثل استيطان نحو نصف مليون يهودي في الضفة الغربية، ومثل استغلال عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “حماس” كثيراً انطلاقاً من قطاع غزة من أجل تدميره ودفع شعبه بالقوة الى سيناء رغم رفض رئيس مصر وشعبها ذلك. ويعتقد المتابعون أنفسهم أيضاً أن على الدول العربية التي قبلت “اتفاقات أبراهام” التي رعتها أميركا ترامب وطبّعت علاقتها مع إسرائيل أن تهدّد بوقف التطبيع وأن تتخذ إجراءات تُثبت جديتها في ذلك. ويعتقدون ثالثاً أن على الدول التي تسعى أميركا بقوة الى إقناعها بالتطبيع مع إسرائيل والسعودية أهمّها على أكثر من صعيد أن تُجمّد البحث في هذا الموضوع رغم أن “مردودها” منه مهم في رأيها، إذ إن آثاره عليها ستكون سلبية جداً مستقبلاً. ويعتقدون رابعاً أن على العرب أن يتوحّدوا في المطالبة بتسوية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تُعطي شعب فلسطين دولة جدّية على أرضه في الضفة الغربية وغزة ذات سيادة وغير منزوعة السلاح. ويعتقدون خامساً أن على العرب الانتباه كثيراً لأن مستقبلهم في منطقتهم أي العالم العربي لن يكون وردياً، إذ بعدما كانوا سادته سيصبحون أعضاءً في نظام إقليمي جديد لا دور لهم في قيادته التي ستؤول الى إسرائيل وإيران وتركيا.
في اختصار، فوّت العرب فرصاً كثيرة أحياناً بسوء تصرّف وأحياناً بتواطؤ وأحياناً بجهل، عدد هذه الفرص قلّ كثيراً وعليهم اقتناصها. لعل أول ما عليهم مطالبة إسرائيل به والمجتمع الدولي هو “استئصال” متطرّفيها من الحكومة التي يستغلونها لـ”استئصال” فلسطينيي الضفة الغربية مثلما تطالب هي بـ”استئصال” “حماس” بعد “طوفان الأقصى”. وهؤلاء موجودون في حكومة نتنياهو ويمثّلهم بن غفير اليميني الأكثر تطرّفاً وسموتريتش وزير المال الأكثر تطرّفاً منه.
هل يتجرّأ العرب على ذلك؟ هل يمتلكون القوة والثقة بالنفس لذلك؟ هل يُجاريهم المجتمع الدولي أم يبقى على انحيازه الأعمى لإسرائيل؟ لا جواب عن هذه الأسئلة.