كتب خالد البوّاب في موقع “أساس”:
غالباً ما تنجح ماكينة الضخّ الإعلامية، التي تعمل على بثّ أجواء إيجابية، في التأثير والتشويش على أيّ قراءة سياسية. في الكثير من الأحيان تنجح تلك الماكينة في تغيير الوقائع لجعلها تصبّ في مصلحتها. كحالة تصوير الانسحاب الأميركي من أفغانستان وكأنّه انتصار لإيران، أو توصيف زيارة السفيرة الأميركية دوروثي شيا إلى القصر الجمهوري قبل ظهر يوم الاثنين بأنّها دعم أميركي لخطوة تشكيل حكومة، وقد تنطوي على سماح أميركي باستيراد النفط الإيراني؟ وهذا نفسه ينطبق على إشاعة أجواء التفاؤل بتشكيل حكومة وتوافر مظلّة دولية إقليمية لولادتها. لكنّ كلّ هذه السياقات ليست دقيقة. لذلك لا بدّ من تفصيل المسارات ووضعها في سياقاتها الطبيعية.
لا يمكن فصل ما يجري في لبنان عمّا يجري في المنطقة، في ظل التعقيد والتصعيد اللذين يتحكّمان بمسار مفاوضات الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران. ولا يمكن النظر إلى حلّ الأزمة اللبنانية من خارج هذا الاتفاق. في ما يتعلّق بالملفّات أو الاستحقاقات اللبنانية المتشابكة لا بدّ من تسجيل مجموعة نقاط:
النقطة الأولى هي خطوة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة برفع الدعم. حتماً لم يكن سلامة في وارد الإقدام على هذه الخطوة بدون غطاء دولي وداخلي له أهداف بعيدة المدى:
– أوّلاً محاولة قطع الطريق على التهريب.
– ثانياً عدم السماح باستنفاد رئيس الجمهورية وحزب الله لِما تبقّى من موجودات المصرف المركزي، في ظل ضغط أميركي كبير على حزب الله.
طبعاً لخطوة سلامة أبعاد متعدّدة تتعلّق بالوضع الاجتماعي، والتطوّر السياسي في ملف تشكيل حكومة. تمثّل خطوة رفع الدعم أكبر تحدٍّ لرئيس الجمهورية ميشال عون الذي يمارس كلّ أنواع الضغوط على حاكم المصرف المركزي، وسط حاجة ماسّة لدى عون إلى استنفاد كلّ الدعم كي لا ينفجر الوضع في وجهه وخلال عهده، بالإضافة إلى الاستمرار بتوفير موادّ التهريب إلى سوريا.
يتّهم عون تيارَ المستقبل ونجيب ميقاتي ونبيه بري وغيرهم بتغطية خطوة رفع الدعم للضغط عليه والقبول بتشكيل حكومة، فيما أراد عون تحويل ذلك إلى فرصة للاقتصاص من سلامة، وجدّد فرض الشروط على ميقاتي بضرورة إقالته انطلاقاً من مدخل التدقيق الجنائي واستمرار استجوابه قضائياً.
يقول ميقاتي في أوساطه إنّه قدّم ما يمكن تقديمه من تنازلات، وغير قادر على تقديم المزيد، أمّا عون فلا يبدو واثقاً بميقاتي بسبب التزاماته مع رؤساء الحكومة السابقين، وبسبب علاقته القوية بنبيه برّي
النقطة الثانية هي زيارة رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية وليم بيرنز إلى لبنان الأسبوع الفائت، التي بقيت سريّة والتقى خلالها قائد الجيش جوزيف عون والمدير العام لقوى الأمن الداخلي عماد عثمان، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. وقد عملت الماكينة إيّاها على تسريب أجواء أنّ زيارة بيرنز هدفت إلى الدفع نحو تشكيل حكومة. لكنّ مصادر متابعة تنفي هذا الكلام بشكل كامل، وتؤكّد أنّ زيارة بيرنز انطوت على ثلاثة تأكيدات:
1- وجوب الحفاظ على الاستقرار في الجنوب اللبناني وفي كل لبنان، ومنع الاستمرار بإطلاق الصواريخ.
2- ضبط الحدود، ووقف التهريب، ومنع الأزمة الاجتماعية من التفاقم والتأثير على الوضع الأمنيّ.
3- منع توافر أيّ بوادر أو مقوّمات لحصول حرب على الجبهة الجنوبية ولو كان ثمن منع الحرب هو الانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا. وهذا سياق متشعّب جدّاً، وينطلق من طرح استراتيجي كبير تناقشه الإدارة الأميركية فيما بينها، ومع الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
في أعقاب زيارة وليم بيرنز، عُقِد اجتماع في قيادة الجيش لقادة الأجهزة الأمنيّة، بُحِث خلاله في وضع خطة مشتركة تتعلّق بمكافحة تخزين المحروقات. وقد تُرجمت قرارات هذا الاجتماع، فنُفِّذت عمليات بدأها الجيش اللبناني والأجهزة الأخرى بمداهمات في مختلف المناطق لضبط المحروقات المخزّنة. وحدث ذلك بعد قرار سياسي بإجبار الشركات والمحطات على توزيع المخزون المتبقّي لديها على سعر صرف 3900. فبدأ الجيش بإجراءاته في كل المناطق، وكانت بداية العمليات في مناطق سنّية ومسيحية، وانتقلت فيما بعد إلى مناطق شيعية حيث ضُبِطت أيضاً كميّات كبيرة من المحروقات المخزّنة، ووُجِّهت اتّهامات إلى مقرّبين من مسؤولين في حزب الله بتخزين هذه المحروقات.
جاءت هذه الخطوة على وقع اقتراب إعلان حزب الله عن موعد وصول المحروقات الإيرانية إلى لبنان. ومن المفترض أن يعلن الأمين العام للحزب حسن نصر الله يوم الخميس في العاشر من محرّم عن وصول المحروقات الإيرانية. لكنّ الردّ السريع على كلام نصر الله سيكون بأنّ الحزب كان يخزّن هذه المحروقات التي حصل عليها من السوق اللبنانية، وسيعمل على طرح كميّات منها في الأسواق على أنّها محروقات إيرانية، (بغضّ النظر عن صحّة الكلام، إلا أنّه يندرج في سياق الحرب الإعلامية والاستخبارية الصامتة بين الحزب ومعارضيه وبعض القوى الخارجية).
في كلّ الأحوال، سيعرض حزب الله فيديوهات لصهاريج تنقل النفط الإيراني من سوريا إلى لبنان، ولكنّ ذلك سيكون لمرّة واحدة أو مرّتين فقط في إطار حرب الردود بينه وبين خصومه ومَن يتّهمونه بالتهريب. أمّا المؤكَّد فهو استمرار الأزمة واستفحالها أكثر، بانتظار صدور جداول تسعير جديدة لن توقف التهريب لأنّ المسألة ليست ربحية فقط، إنّما هناك حاجة استراتيجية إلى المحروقات في سوريا. وأمّا تصوير المسألة على أنّها تهريب غايته الربح، فهو نوع من اللعب على وتر معنوي لدى الناس بإظهار الأمر أنّه فساد اجتماعي فقط، وليس له سياق سياسي أو استراتيجي