الرئيسية / مقالات خاصة / الحريري يلعبها “صولد”.. انكشاف الطائفة والطائف ولبنان

الحريري يلعبها “صولد”.. انكشاف الطائفة والطائف ولبنان

حسين ايوب

قال سعد الحريري كلمته ومشى. إستودع “لبنانه الحبيب” على طرقة والده. ترك طائفته وتياره في العراء. لبنان الحالي ميؤوس منه. لا بد من تسويات إقليمية كبرى تنتج تسويات لبنانية صغرى. هذه وتلك مؤجلتان.. الآن. لذلك، ليس أفضل مما كان. إلى اللقاء!

لم يتحرر سعد الحريري من الإنتخابات النيابية المقبلة، ترشيحاً وإقتراعاً وحسب. تحرّر من السلطة والنيابة والوزارة والسياسة بمفهومها التقليدي الذي جرّبه طوال 17 عاماً. سقط والده صريعاً في حفرة عميقة في عين المريسة. حفرةٌ دولية وإقليمية دشّنها الغزو الأميركي للعراق عام 2003. لحظة إنتهى معها شهر العسل السوري ـ الأميركي، وإنتهى التفويض الذي أعطي لدمشق بإدارة ملف لبنان. لم تكد تمضي سنة حتى وُلد القرار 1559. هو القرار الذي كتب نهاية رفيق الحريري الفعلية بمعزل عمن نفذ الجريمة لاحقاً. كانت تطلعات الأميركيين والأوروبيين، بتواطؤ البعض معهم لبنانياً، أكبر من قدرات اللاعبين المحليين على التفاعل معها إيجاباً. حاول الحريري الأب الإيحاء بـ”تحييد” نفسه، لكن ما كُتب قد كُتب.
تبدّت ذروة الحريرية اللبنانية، سياسياً وشعبياً وبحجم الإلتفاف العربي والدولي حولها في لحظة 14 شباط/فبراير 2005. اللحظة التي سقط فيها رفيق الحريري. الدم المُسال في عين المريسة أخرج بشار الأسد وجيشه وضباطه من لبنان. إلتف لبنان والعالم كله حول سعد الحريري الوريث، حتى السيد حسن نصرالله أتى إلى قصر قريطم ووضع نفسه بتصرف العائلة والتحقيق المحلي أو العربي.. والأهم أنه لم يتردد في أن يكون جزءاً من “تحالف رباعي” جعل تيار المستقبل بكل منظومة تحالفاته (لا سيما القوات والإشتراكي) يُقبضِون على زمام برلمان العام 2005.
منذ تلك اللحظة حتى تاريخ الرابع والعشرين من كانون الثاني/يناير 2022، عاش لبنان أحداثاً لا مثيل لها منذ مائة سنة حتى الآن. أعنف حرب في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي ضد لبنان في تموز/يوليو 2006، أفضت إلى فشل إسرائيل في تحقيق أهداف “حرب لبنان الثانية”. السابع من أيار/مايو 2008 قاد لبنان إلى مؤتمر الدوحة. جاءت مرحلة “السين سين” ووجد سعد الحريري نفسه في “الحضن السوري ـ السعودي” مجدداً. تنفس لبنان الصعداء، لكن مرض الملك عبدالله من جهة، و”تسلح” بعض الداخل والخارج بخرطوشة المحكمة الدولية من جهة ثانية، أدى إلى إنتهاء شهر عسل لم يدم طويلاً، فكان أن دفع الحريري الثمن بإستقالة مُهينة وهو بضيافة باراك أوباما في البيت الأبيض!
في العام 2011، فُتح “صندوق باندورا” بكل شروره وأشراره من المحيط إلى الخليج. ربيعٌ عربيٌ قارسٌ أفضى إلى أنهار من الدم والدمار. إنضمت دمشق إلى بغداد الحزينة منذ “ربيع الإحتلال” في العام 2003، وصارت بيروت على موعد مع ترتيلة “أم حزينة جديدة”. أمٌ إحتضنت نازحين سوريين هاربين من بركان غير مسبوق في تاريخ المشرق العربي منذ قرون عديدة. أمٌ أصر أولادها على أن يشارك كل واحد منهم على طريقته بإخماد النار الشامية. منهم من نأى بنفسه عنها ومنهم من ناصر هذا أو ذاك، لكن النتيجة واحدة: “لبنان البيت الكبير” صار عبارة عن “بيوت صغرى”. كل طائفة إنزوت إلى فدراليتها المغلقة بحثاً عن أمانٍ مستحيل. كان حزب الله هو الرابح الأكبر، لكن بحسابات الإقليم. كسب رهانه على منع سقوط الدولة السورية. لبنان “دولة حاجز” (كما يقول المؤرخ جورج قرم) ولكن ليس مسموحاً أن تكون سوريا هي “الدولة الحاجز”. الأوكسيجين بين إيران وعمقها اللبناني ـ السوري ـ الفلسطيني ليس مسموحاً أن ينقطع مهما كانت الأثمان. عبارة ردّدها المرشد الإيراني السيد علي الخامنئي في العام 2012.. وكان ما كان.
إحتدام الإقليم طوال عشر سنوات، لم يمنع سعد الحريري من محاولة تدوير الزوايا وإنتاج التسويات.. حتى في عز الأزمة السورية. ذلك يقع في صلب “الحريرية”. هي ليست حزباً ولا عقيدة. هي مشروع سلطة أولاً وأخيراً. هكذا كان الحريري الأب وهذا ما كان عليه الحريري الإبن، وهذا ما يسعى إليه الآخرون من “أهل البيت”. ميزة سعد الحريري أنه كان واقعياً في السياسة أكثر مما يشتهي جمهوره ومن هم حوله. لذلك، قرر أن يتنازل عندما قبل بميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016. تنازل إنسحب على القانون الإنتخابي أيضاً وصولاً إلى كل ما سبق لحظة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. فعلياً، كانت تبدت أوهام لدى “رؤوس حامية” في محيط الحريري بالقدرة على قلب الطاولة ومواجهة حزب الله بالسلاح، لكنها أوهام سرعان ما إنطوت بتأثير لحظة 7 أيار/مايو 2008. من بعدها، صار السلوك الحريري ضنيناً بالسلم الأهلي وهذه تُسجل للحريري، وكان مُحقاً في قوله إنه “نجح في منع الحرب الأهلية”.
غير أن الثغرة الأساسية في خطاب الحريري ومقاربته تتصل بتطور مفصلي. اللحظة التي قرر فيها ملك السعودية الفعلي محمد بن سلمان وضعه قيد الإعتقال في الرياض في خريف العام 2017 وأجبره على الإستقالة من رئاسة الحكومة. لحظة تُؤرخ لنهاية سعودية آل الحريري التي دشّنها “أستاذ الحساب” الصيداوي منذ أن وطأت أقدامه أرض المملكة في منتصف ستينيات القرن الماضي. ما لم يقله سعد، وهو أمر مفهوم في السياسة، أن كل محاولات فتح الأبواب السلمانية المقفلة بوجهه باءت بالفشل، وآخرها على يد إيمانويل ماكرون. يقول الفرنسيون بلسان أحد العارفين بـ”المطبخ الفرنسي” إن محمد بن سلمان حدّد عدداً من الشروط لـ”الصفح” عن الحريري، أبرزها تبنيه الكامل لتنفيذ القرار 1559، أي للبند اليتيم الباقي منه وهو “حل جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها”! (ثمة شروط أخرى تتصل بالقانون الإنتخابي الجديد وشكل الحكومة المقبلة برئاسة الحريري والتحقيق العدلي في قضية مرفأ بيروت إلخ..).
ووفق الرواية الفرنسية، رفض الحريري تلك الشروط التي بلغته من جهات دولية وعربية أخرى، إستناداً إلى القاعدة نفسها: لن أكون عنواناً للحرب الأهلية في لبنان.
وإذا كان الحريري قد نجح، والفضل في ذلك يعود لبعض المقربين منه حينذاك، في تمويل الإنتخابات النيابية في العام 2018، من خارج “بيت المال السعودي”، فإن المسألة تبدو مختلفة هذه المرة، خاصة وأن الرجل منهمك بترتيبات وضعه الشخصي الصعب الذي لا يحتمل مغامرة من نوع تمويل الإنتخابات في مواجهة حيتان وإحتمالات من نوع منافسة شقيقه بهاء وبعض المراهنين على المال الخليجي لمنافسته في بيته السني وعلى رأس هؤلاء رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. ثالها السعوديون بالفم الملآن: يريد أن يترشح سعد فليكن لكن بماله الشخصي لكن ليس بمالنا أو مال الإمارات!
لذلك، لم يكن مفاجئاً لأحد قرار الحريري بمغادرة المسرح السياسي وختم أبواب تيار المستقبل بالشمع الأحمر ورميه “الحرم السياسي” على كل محاولة أو مبادرة للترشيح، سواء أتت من القريب أم البعيد. لن يكون هو مرشحاً ولا عمته بهية ولا فؤاد السنيورة ولا أي قيادي في “التيار الأزرق” ومن يخالفه الرأي.. يكون قد قرر أن يفتح على حسابه الخاص!
ما هي الخلاصات الأولية؟
أولاً؛ ثمة صفحة سعودية جديدة قرر أن يقرأها سعد الحريري هذه المرة بلغة مختلفة عن تلك التي جرّبها طوال أربع سنوات ونيف، أي منذ إعتقاله حتى الآن، ولم ينجح خلالها بصياغة علاقة جديدة.
ثانياً؛ إذا راجعنا بنود المبادرة الكويتية (المدعومة خليجيا وعربياً ودولياً)، ولا سيما بندها الخامس الداعي إلى تنفيذ القرار 1559، يُمكن للمبتدىء في السياسة أن يُدرك أن الفباء التطبيع مع السعودية هو تبني تنفيذ هذا القرار، مع كل ما يحمل في طياته من مخاطر، بدءاً من “المصير الشخصي” وصولاً إلى المصير الوطني العام، أي وضع لبنان على سكة الإحتراب الأهلي، وهذا الأمر يحتاج إلى مقاربة قاسية ليست هذه مناسبتها مع سمير جعجع تحديداً!
ثالثاً؛ يمكن القول تبعاً لحقائق الواقع السياسي اللبناني القاهرة أن الإنتخابات النيابية المقبلة باتت بحكم المؤجلة، أما بحكم الوقائع الدولية والإقليمية، فالإنتخابات ـ حتى الآن ـ قائمة بمن حضر. سواء قاطع الحريري أو نجيب ميقاتي أو وليد جنبلاط أو أي كان. الحُرم السياسي الحريري إذا أضيف إليه حُرمُ دار الفتوى ونادي رؤساء الحكومات في الأسابيع المقبلة، فنحن عملياً أمام مشهد شبيه بما حصل في العام 1992، وبالتالي سيؤدي إنسحاب الحريري وميقاتي وآخرين إلى وضع التمثيل السني في أحضان التطرف من عدنان طرابلسي في بيروت إلى خالد الضاهر في الشمال مروراً بـ”ترييف” الواقع السياسي السني في لبنان!
رابعاً؛ هذه أول إشارة مبطنة من الحريري لجعل أولوية الصيغة اللبنانية الجديدة تتقدم على ما عداها من إستحقاقات نيابية أو رئاسية، وبالتالي، هي دعوة إلى المجتمعين العربي والدولي لإطلاق صافرة الطائف الجديد، على وقع ما يجري من إشتباكات كبرى في الإقليم، لعل طاولة لبنان تأتي على “حامي المنطقة” وليس على حسابه كما كان يحصل سابقاً، طالما أن من بيده الحل والربط لبنانياً لن يسمح بأن يكون الإحتراب الأهلي ممراً إلزامياً للصيغة اللبنانية الجديدة.
خامساً؛ لن يكون أثر مقاطعة الحريري مقتصراً على التمثيل السني في لبنان. هذا وهم كبير. إنتشار الجمهور السني في لبنان من أقصى العرقوب إلى وادي خالد مروراً بالشوف وبيروت وصيدا والبقاع وكل أقضية لبنان، يجعله قادراً على التأثير في أكثر من 86 مقعداً نيابياً، وهذه النقطة يدركها الخبراء جيداً. معنى ذلك أن حسابات كل اللاعبين سوف تتبدل وبالتالي ثمة قراءة مختلفة للمشهد الإنتخابي من بعد “الزلزال الحريري”!
سادساً؛ لا يقتصر الأمر على من يفوز بهذا المقعد أو ذاك. ثمة حسابات تتصل برئاسة الجمهورية المقبلة لا بل قبلها برئاسة مجلس النواب حتى لو فاز “الثنائي الشيعي” بـ27 مقعداً شيعياً في الإنتخابات. ماذا إذا قررت غالبية 86 نائباً أن لا تصوّت لنبيه بري رئيساً للبرلمان المقبل؟ هل يكون مصير إنتخابات لبنان كمصير إنتخابات العراق أ, تكون مدخلاً للفتنة في كل الإتجاهات؟
سابعاً؛ كيف سيتصرف حزب الله من الآن فصاعداً، إذا كان هناك مشروع كبير سيفضي إلى وضع لبنان على سكة الفتنة السنية ـ الشيعية أو المسيحية ـ الإسلامية؟ هل سيقرأ خطاب سعد الحريري بحروفيته أم بمضمونه السياسي الخطير الذي يؤشر إلى أن لبنان مقبل على مرحلة أكثر خطراً من المراحل التي مرت، وعندها سواء أفضت فيينا إلى نتائج أم لم تفض، سيكون لبنان على موعد مع أزمة وطنية كبرى تجعله يدفع ثمن تسويات الإقليم بدل الإستفادة منها؟
ثامناً؛ عندما وصل رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة في العام 1992، لم يكن رئيساً لكتلة نيابية، بل عنوان توافق أميركي ـ سعودي ـ سوري، غداة حرب تحرير الكويت. هل يراهن الحريري على تسوية جديدة تعيده إلى السرايا هذه المرة من بوابة التسويات الكبرى ولو كان ليس نائباً وبلا كتلة نيابية، وماذا يضمن أن يكون هو شخصياً عنوان هكذا تسوية وليس نجيب ميقاتي الذي يجد نفسه في هذه الأيام محاطاً برعاية دولية وعربية وإسلامية غير متوفرة لأحد غيره في بيئته؟
من الواضح أن الحريري لعبها “صولد”. يريد إستدراج الجميع إلى الأزمة وهو واثق أنه من خلال ذلك بات يملك ورقة رابحة سيتركها بيده حتى يكشف الجميع أوراقهم.. لننتظر ونرَ للبحث صلة.

شاهد أيضاً

الذبحة القلبية من دون إرتفاع مُؤشّر ال (ST segment) والخنّاق الصدري غير المُستقرّ: تصنيف درجات الخطورة طُرق العلاج داخل وخارج المستشفى وكيفية الوقاية

*الذبحة القلبية من دون إرتفاع مُؤشّر ال (ST segment) والخنّاق الصدري غير المُستقرّ: تصنيف درجات …

الاشترك بخدمة الخبر العاجل