كتبت الراي الكويتية
من العتمةِ الشاملة التي كاد معها لبنان أن يُلاطِمَ «موجةً سوداء» عاتيةً، إلى قعر البحرِ قبالة طرابلس حيث طفت مجدداً مأساةُ مركب الموت في صُوَرٍ مُفْجِعة نكأت جُرْحاً عميقاً… عنوانان طبعا المشهد في «بلاد الأرز» وبدا وقْعُهما الصاعق أقوى من الصدمات السلبية التي لا تنفكّ تَحْكم الواقعَ السياسي الذي يدخل ابتداءً من الخميس رسمياً مدار المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية (حتى 31 أكتوبر المقبل).
وإذا كان لبنان أَفْلت في ربع الساعة الأخير، وموقتاً، من الـ «بلاك اوت» بفعل حلّ مرحلي «أحيا» العمل في معمليْ الذوق والجية القديمين بفعل ما بدا «مخزون نجاة» (فيول «غرايد ب»)، وسط خشية من أن تسبق «عاصفة الظلام» مجدداً تفعيل اتفاق «النفط مقابل الخدمات» مع العراق (يُزوّد لبنان بموجبه بطنّ إضافي من زيت الوقود الثقيل يُستبدل بوقود مُطابِق للمعامل اللبنانية) الذي مُدد العمل به لسنة (يؤمن كهرباء لنحو ساعتين إلى 3 ساعات يومياً)، فإنّ كارثة قارب الموت الذي غرق في بحر طرابلس (في أبريل الماضي) استفاقتْ بكل فصولها المُرْعِبة وكأن 4 أشهر ونيف لم تمحُ فاجعةً تركتْ عشرات الضحايا في أحضان مياهٍ حجبتْ دموع «الأزرق الكبير».
وإذا كانت أزمة الكهرباء «المُزْمنة» والتي تفاقمت منذ الانهيار الشامل تعكس سوء إدارة السلطات اللبنانية لواحد من أكبر «ثقوب» الهدر والفساد التي عمّقت «الحفرة» المالية التي سقطت فيها البلاد وصولاً لتحوّل اللبنانيين رهائن لدى مولدات الأحياء التي باتت بدورها أسيرة الحصول على مادة مازوت لم تعد تتوافر بسهولة بفعل عمليات التهريب الى سورية وتخزينٍ تحسُّباً لارتفاعات بالأسعار عالمياً، فإنّ التعاطي مع كارثة المركب الذي غرق خلال رحلة هجرة غير شرعية الى أوروبا وكان على متنه أكثر من 90 راكباً نجا منهم نحو 48 وبقي نحو 30 في عداد المفقودين لم تقلّ تعبيراً عن نفْض يد الدولة اللبنانية من أبسط مسؤولياتها التي «تولّتها» مبادرة فردية من مغتربين من استراليا تبرعوا بتكاليف الغواصة الهندية (بمواكبة من شقيق نائب طرابلس اللواء أشرف ريفي) التي بدأت عملية البحث عن المركب «الفقيد» قبل أيام قليلة.
وكشفت أعمال الغواصة (الجمعة) وبعد العثور على المركب صوراً مؤلمة لجثث ضحايا تتناثر رماداً ما أن تجري محاولة انتشالها، فيما أفادت صحيفة «النهار» أنه تمت مشاهدة ثلاث جثث لسيدة تحمل طفلين وتتمسك بباب الغرفة التي يقال ان الضحايا كانوا فيها عند حصول الحادثة «لكن الغواصة لم تحاول انتشال الجثث الثلاث وتريّثت في ذلك خوفاً من تفتّتها وتحولها رماداً وخصوصاً أنه تبين للطاقم ان هناك بكتيريا في البحار تأكل حتى العظام».
وتشكّل تراجيديا المركب عيّنةً من البؤس الذي جعل أبناء «بلاد الأرز» يركبون البحار سعياً وراء أحلام لم يعُد لها مكان في زمن الشقاء اللبناني الذي صارت معه الاختناقات المعيشية والاجتماعية تتقاذف الوطن الصغير وكأنها خرجت عن سيطرةِ سلطاتٍ سياسية غارقة في معاركها الصغيرة فوق أشلاء بلدٍ يوشك أن يلفظ أنفاسه وبات يفصله عن تصنيف «الدولة الفاشلة» إعلانٌ يجري الترويج في بيروت أنه قد يأتي في تقرير وشيك يصدر عن مؤسسة مالية دولية كبرى.
وما يزيد المخاوفَ من تَفَلُّت الانهيار الكبير من آخِر المكابح التي تؤخر الارتطام المريع، الأفقُ السياسي المسدود في ما خص الاستحقاق الرئاسي وتأليف الحكومة الجديدة، وهو ما يفتح الوضع اللبناني على سيناريوات بالغة القتامة يُخشى أن يسبق معه البركان المعيشي – الاجتماعي الجميع، ولا سيما في ظل التقديرات بأن موضوع الدولار والسوق السوداء والاحتقانات الشعبية سيتحول جزءاً من «الصندوق الأسود» لانتخاباتٍ رئاسية مرشّحة لأن تصبح ساحة اشتباك سياسي ودستوري وربما بما هو أدهى.
وفيما يقف الملف الحكومي أمام أسبوع حاسم في ظل محاولاتٍ دخل على خطها أكثر من طرف بينها «حزب الله» لتفكيك ما يُنْذِر بأن يكون لغماً بمجمل الوضع اللبناني بحال انتهت ولاية الرئيس ميشال عون (في 31 اكتوبر) دون انتخاب خلف له وتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيات، فإن التراشق الذي تجدَّد يوم الخميس بين عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال المكلف تأليف الحكومة نجيب ميقاتي والذي اعتُبر إشارةً لحجم التعقيدات في عملية التأليف، اكتسب أمس أبعاداً جديدة في ضوء مواقف حازمة لدار الفتوى على خطين:
الأول غطّى المسار الذي يسلكه ميقاتي في عملية التشكيل والمواصفات التي يريدها لتشكيلة انتقالية.
والثاني رسم خطاً أحمر ضمنياً بإزاء خياراتٍ يلوّح بها فريق رئيس الجمهورية، مثل عدم مغادرة عون قصر بعبدا أو استعادة تجربة تشكيل حكومة أمر واقع انتقالية (عسكرية أو بصيغ أخرى) في الدقائق الخمس الأخيرة، وذلك تحت عنوان رفْض أن ترث حكومة تصريف أعمال صلاحيات الرئاسة وفي إطار الضغط نحو تشكيلةٍ جديدة يُستشف منها (وخصوصاً لجهة توسيع الحكومة إلى 30 وزيراً عبر إضافة 6 وزراء سياسيين إليها) رغبة في الإمساك بثلث معطّل صافٍ لفريق عون يُعتبر بمثابة «الضمانة الميثاقية» في فترة الشغور الرئاسي المرجّح (بإزاء حكومة برئاسة سنّي)، فيكون رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أشبه بـ «رئيس الفراغ» وينطلق في مرحلة عض الأصابع لملء الشغور من موقع قوةٍ لمحاولة فرْض شروطه أو المقايضة على كرسيّ لا ينفكّ يؤكد أنه لا بد أن يؤول للأكثر تمثيلاً مسيحياً أو لمَن «يُنقل» إليه هذا التمثيل.
فالمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى توقف بعد اجتماعه الدوري أمس، برئاسة مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان، «مطولاً أمام ظاهرة شاذة تتمثل في الالتفاف حول قضية انتخاب رئيس جديد للجمهورية والاهتمام بقضية مصطنعة لتشكيل حكومة جديدة، أو تعديل الحكومة الحالية التي يترأسها الرئيس ميقاتي».
وذكر «ان لبنان يحتاج الى رئيس جديد للجمهورية وخصوصاً بعد سلسلة العثرات والمواقف الارتدادية عن روح الدستور اللبناني واتفاق الطائف وميثاق العيش المشترك.
يحتاج الى رئيس جديد يحترم قسَمه الدستوري ويلتزم به، غير ان ما يجري في الوقت الحاضر هو الإلتفاف على هذه القيم والمبادئ، أحياناً بالطعن بشرعية الحكومة الحالية والإلتفاف عليها، وأحيانا أخرى بطرح شعارات التمثيل الطائفي والمذهبي».
وأضاف: «بينت المرجعيات الدستورية كيف ان هذه المواقف التعطيلية المتعمّدة لدور الحكومة ولإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها تشكل انتهاكاً للدستور واتفاق الطائف.
ويدعو المجلس الشرعي الى احترام النصوص الدستورية ويحذر من ان الإلتفاف على هذه النصوص تحت أي ذريعة لن يؤدي إلا الى المزيد من المتاعب والإضطرابات التي تدفع لبنان نحو الهاوية، بدل أن تنتشله مما هو فيه من معاناة».
وشدد على «دعمه للرئيس ميقاتي في مسعاه لتشكيل الحكومة وفي الخطوات التي يقوم بها من اجل وطنه وشعبه»، مبدياً «حرصه على صلاحيات رئيس الحكومة في ممارسة المهام المنوطة به والمحددة له في الدستور واتفاق الطائف، ولاسيما في ما يتعلق بتشكيل الحكومة ولا يمكن المس بهذه الصلاحيات تحت أي ذريعة أو مصالح فئوية».