كتبت النهار
مواقف غالبية السنّة والدروز في لبنان وأكثر من نصف المسيحيين تمنع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بغالبية الصفات السلبية والسيئة التي أطلقها عليه رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع في خطابه مساء الأحد الماضي في ذكرى “شهداء” “القوات” وحلفائها والذين خرجت من رحمهم التي أُحييت في معراب، تمنعه من البقاء في بعبدا أو من إيصال صهره الى الرئاسة. لكن هذه الغالبية تحمّل جعجع مسؤولية الإسهام جدّياً في فتح طريق رئاسة عون في خريف عام 2016، كما في إزالة العقبات الكأداء التي كانت تُقفلها ولا سيما السنّية والمسيحية. علماً بأنه في خطاب الشهداء قبل يومين أشار الى التاريخ السلبي لعون معه ومع المسيحيين عموماً كما مع المسلمين من سنّة ودروز وشيعة، وأشار أيضاً الى تاريخه السلبي في رئاسة الدولة مع غالبية اللبنانيين على تنوّعهم بمن فيهم الشيعة وتحديداً الأقوى فيهم “حزب الله” الذي لم يترك وريثه ورئيس “تياره الوطني الحر” مناسبةً إلا “زكزكه” فيها بجدّية وأحياناً بوقاحة ونكران غير مقبول لمعروف أو أكثر من معروف. طبعاً لم تقع “حركة أمل” ورئيسها نبيه بري في فخ عون وباسيل ولا الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط ولا زعيم “تيار المردة” سليمان فرنجية. لكن تغطية “حزب الله” السياسية للاثنين في مقابل ما أخذه منهما على غير صعيد داخلي وإقليمي جعلت الموقف الاعتراضي لهؤلاء غير فاعل. علماً بأن “الحزب” بدأ يستفيد من هذا الموقف لإفهام الاثنين المذكورين أن مرحلة “الكارت بلانش” انتهت، وأن يوم الحساب لم يعد بعيداً معهما كما مع الفئات الأخرى المعادية له ولا سيما بعدما عجز عن ضمان غالبية له في مجلس النواب، وشعر بالاضطرار الى “تطرية” الأمور من أجل عدم انجراره لحماية مصالحه الى استعمال القوة الكبيرة التي يمتلك.
طبعاً ليس هدف “الموقف هذا النهار” اليوم تصوير رئيس “القوات” شيطاناً رجيماً وتحميله مسؤولية الوضع السيّئ والكارثي الحالي كلها، علماً بأنها لم تكن قليلة. ذلك أن خبرته بعون منذ كان قائداً للجيش ثم بعد تعيينه رئيساً لحكومة انتقالية لم يكن فيها شيء من الإيجابية، إذ اشتمّ في حينه رائحة هدف مضمر من اختياره لهذا المنصب هو تصفية حساب متنوّع مع “القوات” من الأصدقاء والحلفاء والأعداء في آن واحد. كما أنه أدرك أن هدف عون لم يكن إجراء انتخابات رئاسية في سرعة في حينه تلافياً للفراغ بل إقناع أصحاب الكلمة الأولى في لبنان من غير اللبنانيين بأنه الأنسب لرئاسة الجمهورية فيه وبأنه مستعدّ لإظهار ذلك بضرب “القوات”. ويوم شعر بأن هؤلاء استغلّوا رغبته في الرئاسة ونالوا ما يريدون وهو شق الصفّ المسيحي وزّع ضرباته المؤذية للمدنيين فقط على كل الطوائف والمذاهب. لكن ما حصل بعد ذلك أن التوصّل الى اتفاق الطائف وتغطية البطريرك الماروني نصرالله صفير له مع “قوات” جعجع و”كتائب” الراحل جورج سعادة فتح أمام الاثنين باب الاشتراك في السلطة ولكن تحت الوصاية السورية. طبعاً لم يكن جعجع مرتاحاً ضمناً الى ذلك لكنه حاول باكراً قطف ثمار تغطيته المذكورة بالاستئثار بالتمثيل المسيحي في حكومة الطائف الأولى بل في “عهد” الطائف أو عهوده. لم ينظر السوريون وحلفاؤهم بارتياح الى ذلك وبدأت المناكفات بينه وبين الوصاية وعهدها الرئاسي وتطوّرت باستغلال تفجير كبير لكنيسة سيدة النجاة وإدخال جعجع الى السجن حيث بقي 11 سنة. منذ ذلك الحين قيل إن جعجع استعجل ودفع الثمن ومعه مسيحيوه كما دفع الثمن قبله عون ومعه مسيحيوه.
لكن السؤال الذي طُرح مرّات عدّة منذ ذلك الحين ولا يزال يُطرح اليوم هو هل تعلّم جعجع من خبرته الناجحة حيناً والفاشلة حيناً؟ ما جرى بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان أظهر أن الحصول على الرئاسة صار الهدف الأول عنده. وهذا حق له. لكن ما لم يكن من حقه في حينه هو نسيان تاريخ عون معه ومع المسيحيين ومع اللبنانيين وتقلباته وإقدامه في مغامرة كبيرة لكن غير محسوبة على توقيع اتفاق معراب مع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بمباركة وحضور شخصيين من عون في معراب، ولاحقاً على ترشيحه لرئاسة الجمهورية وعلى إقناع حليفه الرئيس سعد الحريري به. فعطّلوا بذلك في حينه وصول سليمان فرنجية الى الرئاسة وذلك مهمّ ليس لأنه حرم الآخر من الموقع الأول في البلاد بل لأنه عطّل موافقة دولية – إقليمية رباعية على رئاسة فرنجية (أميركا وفرنسا والفاتيكان والسعودية) وعطّل معها رعاية أصحابها وضع لبنان واستعدادهم لتقديم ما يحتاج إليه من رعاية وتغطية ومساعدات. فضلاً عن أنه فتح الباب بيديه أمام من عطّلوا وصوله هو الى الرئاسة وأبقوا البلاد بلا سلطة رئاسية الى أن نجحوا في إيصال عون الى قصر بعبدا. لهذا السبب يميل قسم مهم من غير المقتنعين من زمان بجدية عون وقدرته على تحقيق أهداف المسيحيين وحتى اللبنانيين من أديان ومذاهب مختلفة، يميلون الى تحميل جعجع قسماً كبيراً من هذه المسؤولية، ويخشون تكرار الأخطاء السابقة في مرحلة صعبة ودقيقة داخلياً وإقليمياً. لهذا لا يجوز القول إن اللبنانيين سينتخبون رئيسهم وليس هذه الدولة أو تلك من دول المنطقة والعالم، إذ يُفترض أن يعرف جعجع أن قرار “حزب الله” واستطراداً “الثنائية الشيعية” فيه جانب إيراني مهم جداً، وأن قرار السنّة على “تفرفطهم” فيه جانب خليجي وتحديداً سعودي مهم واستطراداً مصري، وأن قرار قسم من المسيحيين له بُعد إيراني كما في قرار القسم الآخر بُعد عربي ودولي متنوّع.
طبعاً، من يتحدّث بهذه المرارة عن جعجع لا يعني أنه ضدّه مهما فعل، كما لا يعني أنه معه مهما فعل، بل يعني أن الحسابات الصحيحة تُنتج سياسات صحيحة، وأن من لا يتعلّم من أخطائه وأخطاء أعدائه وحلفائه ويُكرّر ما أوصله وأوصل البلاد الى وضعها الراهن لن يحصد إلا ما حصده في السابق أي الفشل المرّ. والمثل يقول “من جرّب المجرّب كان عقله مخرّب”.
ماذا على رئيس “حزب القوات” أن يفعل الآن في رأي هؤلاء؟