الرئيسية / ابرز اخبار لبنان / سياسة / ترسيم الحدود البحرية حسب قانون البحار الدولي

ترسيم الحدود البحرية حسب قانون البحار الدولي

 

على الرغم من الأجواء الإيجابية التي يحاول رئيس الوفد الأمريكي المفاوض عاموس هوكشتاين إشاعتها في تصريحات من مطار بيروت الدولي بعد انتهاء جولاته بين فلسطين المحتلة ولبنان، الا أن العديد من المشاكل في تطبيق قانون البحار الدولي تبرز في ترسيم الخطوط في البحر الأبيض المتوسط والتي بموجبها تُحدّد حقوق لبنان النفطية والغازية، ما قد يؤدي بطبيعة الحال الى عدّم التوصّل نحو “اتفاق” ترسيم الحدود البحرية قريباً، مع الإشارة الى أن “إسرائيل” لم توقّع على الاتفاقية الدولية لقانون البحار الصادر عن الأمم المتحدة.

في هذا السياق، يشرح العرض الآتي بعض الجوانب التي يجب فهمها ومراعاتها بموجب القوانين الدولية في ترسيم الحدود البحرية.

يعتبر الإقليم ركنا أساسيا في تكوين الدولة، فهو الذي تمارس عليه سيادتها، لذلك لابد من وجود حدود تفصل أقاليم الدول عن بعضها البعض، وتعيّن بداية سيادة كل دولة ونهايتها، الامر الذي يتمخّض عنه نزاعات حول تعيين هذه الحدود، بحيث تعدّ هذه المنازعات الحدودية من أدقّ النزاعات الدولية. تكمن هذه الدقة في ارتباطها بالحيّز المكاني الذي تمارس فيه الدولة اختصاصها، ومن ثمة فانّ الدول تنظر اليها باعتبارها منازعات تمس السيادة والاستقلال وتمنع عنها حقوقها الاقتصادية في ثرواتها البحرية. ومما يزيد من حساسية المنازعات الحدودية والإقليمية، هو كونها غالبا ما تنشأ بين دول متجاورة. ولقد أصدرت محكمة العدل الدولية العديد من القرارات القضائية النهائية التي ساهمت في ترسيخ العديد من المبادئ والاسس والقواعد القانونية التي صار متعارف عليها في العمل الدولي، ما يجعلها المنبر القضائي الرئيسي لتسوية نزاعات الحدود البحرية وتقديم الفتاوى بشأنها.

خطت القوانين والأحكام الدولية خطوات كبيرة منذ الصراع التاريخي المفتوح بين أنصار البحر المغلق mare closum، وبخاصة بين مملكتي إسبانيا والبرتغال، والبحر المفتوح mare liberum، الذي نظّر له هوغو غروتيوس (1583–1654) والجدال المعاصر بين أنصار الخط المتساوي البعد وأنصار مبدأ العدالة الذي شهدته المؤتمرات الدولية، ما أدّى بالنهاية إلى تسوية سمحت بصدور اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في العام1982 . فترسيم الحدود، شكّل هاجسا واشكالا كبيرا لدى العديد من الدول عند تقسيم المناطق البحرية المشتركة. وقد ظهر ترسيم خط الأساس للدول الساحلية، كأحد اهم الأسباب لظهور النزاعات خاصة عندما تكون الحدود متقاربة ومتشابكة ومعقّدة. كما شكّل مبدأ العدالة الذي دخل ميدان الترسيم البحري مع إعلان الرئيس الأميركي هاري ترومان في العام  1945، مستندا أساسيا لتطبيق قاعدة التناسب في تقسيم المناطق البحرية . لكن هذا المنحى يبقى قاصرًا عن إنتاج بنية نظامية واضحة يتحقق من خلالها الإنصاف، بسبب فردانية كل قضية، نتيجة التنوع الكبير للسمات الجغرافية لكل حالة ترسيم بحيث يصعب معها تعميم مبادئ ثابتة في إنشاء الحدود البحرية بين الدول. يترك التناقض حرية التقدير بيد المحاكم المختصة لاستحالة التوصل إلى قاعدة عامة. من هذا المنطلق، تسعى المحاكم المختصة إلى تقسيم قضائي للمناطق البحرية يرتكز على:

أوّلًا: تحديد السواحل والمناطق ذات الصلة.

ثانيا: تحديد الظروف ذات الصلة بالنزاع.

ثالثا: تطبيق قاعدة التناسب والحل العادل.

رابعاً ترتيب مسؤوليّة الدول المتنازعة عن انتهاك القوانين والتشريعات الدولية

أوّلًا: تحديد السواحل والمناطق ذات الصلة

تراجعت المقاربة المؤيدة لحقوق الجزر بالتزامن مع تغيّر جذري في قواعد ترسيم الحدود البحرية، فمع مرور الوقت، أصبح تحديد الساحل ذي الصلة الخطوة الأكثر أهميّة. يحدّد تكوين الساحل ذي الصلة خط الأساس، والإسقاط الأولي للمنطقة البحرية، وكذلك التقسيم النهائي بعد تطبيق قاعدة التناسب. يتوقّف مدى وشكل المنطقة البحرية على جغرافية الساحل في بداية أي عملية ترسيم ونهايتها. فتُستخدم السواحل ذات الصلة لتحديد المطالبات المتداخلة بهذه المناطق في السياق المحدد للحالة والتحقّق في المرحلة الثالثة والأخيرة في عملية ترسيم الحدود، من وجود عدم تناسب في نسب أطوال السواحل لكل دولة والمناطق البحرية الواقعة على كلا الجانبين من خط الترسيم. كما يخضع الخط المتساوي البعد المؤقت، والمرسوم على أساس التكوين الساحلي، للتغيير في المرحلة النهائية، لضمان أن تتناسب المناطق البحرية إلى حدّ ما مع أطوال السواحل ذات الصلة كما جرى في قضية “البحر الأسود”  حيث اعتمدت المحكمة منهجية من ثلاث خطوات لترسيم الحدود البحرية بين الدولتين:

(1) – استخدمت المحكمة معايير هندسية موضوعية لتحديد نقاط الأساس، على طول السواحل ذات الصلة، في معرض رسم خطوط الوسط والخطوط المتساوية الابعاد للمناطق المتلاصقة والمتقابلة، على التوالي. فاعتبرت جزيرة “تسيغانكا  Tsyganka” ذات صلة بشكلٍ خاص كون تأثير جزيرة ما يزداد عند ترسيم الحدود، في حال اعتبارها نقطة أساس لقربها من الأرض الثابتة فأصبحت بالتالي عاملًا حاكمًا في تحديد الخط المتساوي البعد. على نقيض ذلك، فإن جزيرة “الثعابين” الواقعة على بعد حوالي 20 ميلًا بحريًا إلى الشرق من دلتا الدانوب بأوكرانيا، اعتبرت غير مناسبة كنقطة أساس وغير ذات صلة خلال عملية ترسيم الحدود.

2/ درست المحكمة الظروف ذات الصلة المحتملة ، والتي قد تتطلب تعديل الخط المتساوي البعد المؤقت، أي التباين بين السواحل ذات الصلة، والطبيعة المغلقة للبحر الأسود، ووجود “جزيرة الثعابين” والأنشطة الاقتصادية في المنطقة، ولم تعترف بأي منها، ما يشير إلى أن الجزر الصغيرة لا تتمتّع بتأثير يُذكر في ترسيم الحدود مقارنة بساحل البر الرئيسي.

3/  نظرت المحكمة فيما إذا كان خط الترسيم المقترح سيؤدي إلى تفاوت كبير بالعودة إلى الأطوال الساحلية ذات الصلة وتقسيم المناطق الذي يلي ذلك، إنّما لم تكن نسبة أطوال السواحل والمناطق ذات الصلة، وهي 1:28 و1:21 على التوالي، غير متناسبة بشكل يستدعي تعديل خط الترسيم. رسّخ الحكم المبدأ القائل بأن نسبة السواحل ذات الصلة يجب أن تقارب نسبة المناطق المحددة.

استخدمت قضيّة “خليج البنغال” عملية ترسيم الحدود ذات المراحل الثلاث أيضا، حيث اختارت المحكمة نقاط الأساس على السواحل ذات الصلة، ونظرت في الظروف ذات الصلة، وما إذا كان الخط المحدد يؤدي إلى تفاوت كبير بين نسبة الأطوال الساحلية المعنية ونسبة المناطق البحرية ذات الصلة المخصّصة لكلّ طرف . بعد تعديل الخط المتساوي البعد المؤقت لتعويض أثر القطع الناجم عن تقعّر سواحل بنغلاديش، شرعت المحكمة في التحقّق مما إذا كانت نسبة المساحات المخصّصة تعكس نسبة أطوال السواحل ذات الصلة. وفق نفس الأسلوب، طُبّقت عملية ترسيم الحدود بمراحلها الثلاث في قضية نيكاراغوا/كولومبيا . ونتيجة لذلك، سلّطت قضايا ترسيم الحدود الأخيرة، من قبل هيئات دولية رئيسية، الضوء على طول السواحل ذات الصلة كعاملٍ محدّد للنتائج، أما الجزر التي ليست جزءًا من الساحل ذي الصلة فسيكون تأثيرها ضئيلًا في مساحة المنطقة البحرية الناتجة عن الأرض الثابتة.

في الحالة اللبنانية، فإن جغرافية الشاطئ البسيطة نسبيًا، الخالية من النتوءات والتضاريس المتطرّفة عدا بعض الجزر قبالة طرابلس، تحتّم استعمال خط أساس عادي مع بعض خطوط مستقيمة قرب الجزر الشمالية. لا بدّ من الإشارة في هذا الإطار إلى أن العامل الأول في تحديد المناطق البحرية للدولة هو رسم خط أساس يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الجغرافية لساحل هذه الدولة. ومن البديهي في هذه الحالة أن يتم تحديد نقطتَي البداية والنهاية لهذا الخط ألاّ وهي النقطة النهائية للحدود اللبنانية-السورية على البحر الأبيض المتوسط بداية، أي خط وسط النهر الكبير الجنوبي، وانتهاء بالنقطة النهائية للحدود اللبنانية-الفلسطينية على البحر عند رأس الناقورة. وإذا كان لا بدّ من تحديد النقطة الأولى بالاتفاق بين الدولتَين اللبنانية والسورية، فإن لتحديد النقطة الأخيرة عقبات نتيجة الاختلافات بين التحديدين اللبناني والإسرائيلي في غياب إمكان التوصل إلى حل مقبول من الطرفَين في المفاوضات التي تجري برعاية أميركية وأممية.

من المهم في البداية تحديد المنطقة ذات الصلة في القانون الدولي. فمن جهة يجب أن تقتصر المنطقة على حقوق الأطراف المتداخلة ذات الصلة بترسيم الحدود. ومن جهة أخرى يجب، وبشكل صارم، أن تكون هذه المنطقة منطقة متنازع عليها حيث يمكن للطرفين المطالبة بحقوق ملكية شرعية في حالة غياب أي طرف آخر. بالعودة إلى الحالة اللبنانية، نظرا لقلة تعقيدات الجغرافيا البحرية لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، فإن تعيين المناطق ذات الصلة أمر بسيط وبخاصة إذا ما تم تحديد الخط المتساوي البعد المؤقت بين الشاطئ اللبناني والشاطئ القبرصي من جهة وخط ترسيم مؤقت بين لبنان وفلسطين المحتلة باعتماد طريقة علمية متعارف عليها من جهة أخرى. إن تحديد هذه الخطوط بصورة نهائية يتطلّب أخذ الظروف ذات الصلة بعين الاعتبار والتوصل إلى اتّفاق مع الأطراف الأخرى.

 

ثانيًا: تحديد الظروف ذات الصلة بالنزاع

حدّدت المحاكم والهيئات القضائية الدولية الظروف ذات الصلة، غير الساحل والمنطقة ذات الصلة والجزر، التي يمكن أن يكون لها تأثير مطلق أو نسبي في خط الترسيم بحيث ظهر، على مرّ السنوات، توجّه عام لإعطاء الاعتبارات المتعلقة بالمعطيات الجغرافية الأسبقية على الاعتبارات الثانوية الأخرى. فالميزات الجغرافية تقع في جوهر عملية الترسيم، وتكوين الأرض يمثّل أساسًا للتحديد أكثر موضوعية من الاعتبارات السياسية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية في حين أن السمات الجيومورفولوجية للأرض ليس لها تأثير في عناصر الجغرافيا الطبيعية ذات الصلة بترسيم الحدود البحرية. فمن الناحية العملية، الجغرافيا هي أساس المداولات القضائية في الغالب بحيث تحدّد بشكلٍ أساسي مدى ملاءمة المسافة المتساوية أو أي طريقة أخرى لتحديد الحالة المعيّنة. على سبيل المثال، يُعدّ تكوين الساحل عاملًا حاكمًا في تحديد الخط المتساوي أو خط الوسط كما يتم تقييم الاتجاه العام للساحل وشكله وطوله على وجه الإجمال للتأكد من التناسب الذي ليس إلّا التحقق النهائي من عدالة الترسيم المؤقت. وبناءً على ذلك، فإن هيمنة الجغرافيا تعتبر بمثابة العمود الفقري لترسيم الحدود البحرية والتي لا يُسمح بالانحراف عنها إلّا في ظروف نادرة. لا يمنع ذلك إمكانية تعديل خط الوسط تبعًا لعوامل غير جغرافية كخطوط ترسيم الحدود القائمة على الرضى والتكافؤ الاقتصادي على سبيل المثال لا الحصر.

أما بالنسبة إلى الظروف ذات الصلة التي تؤثّر في المناطق البحرية اللبنانية، فعليًا يخلو الشاطئ الشرقي للمتوسط من التعقيدات الجغرافية التي يتحتّم أخذها بعين الاعتبار، كما جرى في قضية الكاميرون/غينيا  حيث تمت دراسة تأثير تقعر الساحل الأفريقي في المناطق البحرية للدولتَين. وإن كل ما يمكن أخذه بعين الاعتبار، كظروفٍ خاصة، هي بعض الكيانات البحرية الواقعة قرب السواحل السورية واللبنانية والفلسطينية: جزيرة “أرواد” السورية، جزر “النخيل” اللبنانية وصخرة “تخيليت” الفلسطينية. وحيث أن موضوع ترسيم خط الحدود البحرية اللبنانية-السورية غير مطروح حاليًا، فإن الظرف الوحيد ذا الصلة الذي يجب تقدير تأثيره في هذه الحالة هو “تخيليت” مع الانتباه إلى تأثير المعايير المعتمدة في هذا السياق في ترسيم الحدود الشمالية، على الرغم من لجوء العديد من الدول والمحاكم الدولية إلى اعتماد معايير مختلفة في تقدير الظروف ذات الصلة للدولة نفسها كما جرى في قضايا ترسيم الحدود بين الولايات المتحدة وكندا  وبينها وبين المكسيك . كما أن ازدواجية المعايير يمكن أن توجد في قضية واحدة مثل قضية “خليج ماين” بين الولايات المتحدة وكندا. بالإضافة إلى عدم وجود تعقيدات جغرافية فإن المنطقة تخلو من أي اعتبارات يمكن أن تشكل ظروفًا ذات صلة لغياب أي اعتبارات اقتصادية، اجتماعية أو حقوق ملكية.

فيما يتعلق بتعيين الحدود البحرية في منطقة خليج مين (كندا / الولايات المتحدة الأمريكية): في 25 تشرين الثاني / نوفمبر 1981، أبلغت كندا والولايات المتحدة المحكمة باتفاق خاص أحالتا بموجبه إلى إحدى دوائر المحكمة مسألة تعيين الحدود البحرية الفاصلة بين الجرف القاري ومناطق مصائد الأسماك للطرفين في خليج منطقة مين. تم تشكيل هذه الدائرة بموجب أمر صادر في 20 كانون الثاني / يناير 1982، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تنظر فيها دائرة مخصصة في المحكمة. وأصدرت الدائرة حكمها في 12 أكتوبر / تشرين الأول 1984. وبعد أن أرست اختصاصها وتحديد المنطقة المراد ترسيمها، راجعت أصل النزاع وتطوره ووضعت مبادئ وقواعد القانون الدولي التي تحكم هذه القضية. وأشار إلى أن التعيين يجب أن يتم من خلال تطبيق معايير منصفة وباستخدام طرق عملية قادرة على ضمان نتيجة عادلة، فيما يتعلق بالتشكيل الجغرافي للمنطقة والظروف الأخرى ذات الصلة. ورفضت خطوط الترسيم التي اقترحتها الأطراف، وعرفت المعايير والطرق التي اعتبرتها قابلة للتطبيق على خط الترسيم الفردي الذي طُلب منه رسمه. لقد طبقت معايير ذات طبيعة جغرافية في المقام الأول، واستخدمت طرقًا هندسية مناسبة لكل من تعيين قاع البحر والمياه المجاورة. أما بالنسبة لرسم خط الترسيم، فقد ميزت الغرفة بين ثلاثة أجزاء، يقع أول قسمين داخل خليج مين والثالث خارجه. وفي حالة الجزء الأول، رأت أنه لا يوجد ظرف خاص يحول دون التقسيم إلى أجزاء متساوية من تداخل الإسقاطات البحرية لسواحل الدولتين. يمتد خط ترسيم الحدود من نقطة البداية المتفق عليها بين الأطراف، وهو نصف الزاوية المتكونة من الخط العمودي على الخط الساحلي الممتد من كيب إليزابيث إلى نهاية الحدود الحالية والعمودي على الخط الساحلي الممتد من تلك المحطة الحدودية إلى كيب السمور. بالنسبة للجزء الثاني، اعتبرت الغرفة أنه في ضوء شبه التوازي بين سواحل نوفا سكوشا وماساتشوستس، يجب رسم خط متوسط مواز تقريبا للساحلين المتقابلين، ثم يجب تصحيحه لمراعاة:

_ الفرق في الطول بين سواحل الدولتين المتاخمتين لمنطقة ترسيم الحدود.

_ وجود جزيرة سيل قبالة ساحل نوفا سكوشا.

يتوافق خط الترسيم مع خط الوسط المصحح من تقاطعه مع النصف المذكور أعلاه إلى النقطة التي يصل فيها إلى خط إغلاق الخليج. يقع الجزء الثالث في المحيط المفتوح، ويتكون من خط عمودي على خط إغلاق الخليج من النقطة التي يتقاطع عندها الخط المتوسط المصحح مع هذا الخط. تقع نهاية هذا الجزء الأخير داخل المثلث الذي حدده الطرفان وتتزامن مع النقطة الأخيرة من تداخل المناطق ذات الـ 200 ميل التي تطالب بها الدولتان. إحداثيات الخط الذي رسمته الغرفة واردة في منطوق الحكم.

ثالثًا: تطبيق قاعدة التناسب والحل العادل

يلعب مفهوم التناسب دورًا مهمًا في مجالات مختلفة من القانون الدولي وقانون البحار، ولا سيما ترسيم الحدود البحرية. تم أخذ التناسب في الاعتبار في كل حكم يتعلق بترسيم الحدود البحرية. ووفقًا لهذا المفهوم، يجب أن يتم ترسيم الحدود البحرية من خلال مراعاة النسبة بين المناطق البحرية والجرف القاري المنسوبة إلى كل طرف وطول السواحل الخاصة بكل طرف. وبالتالي، يتعين على المحكمة والهيئات القضائية أن تقدر تقريبًا، أو تحسب بالضبط، أطول الخطوط الساحلية ذات الصلة ومقارنة تلك النسبة بنسبة مناطق المياه، والجرف القاري ذات الصلة المحددة مؤقتًا. إذا كانت نسبة المناطق البحرية ذات الصلة لا تتطابق تقريبًا مع الطول النسبي للخطوط الساحلية، فسيتم النظر في إجراء مزيد من التحليلات أو التعديل. قضية بحر الشمال لعام 1969 هي أولى قضايا ترسيم الحدود البحرية بين الدول المتجاورة لتطبيق مفهوم التناسب. صاغت جمهورية ألمانيا الاتحادية (FRG) هذا المفهوم في القضية من خلال الدفع بأن كل دولة معنية يجب أن يكون لها “حصة عادلة ومنصفة” من الجرف القاري المتاح، بما يتناسب مع طول ساحلها أو واجهتها البحرية.  رفضت محكمة العدل الدولية حجة الجمهورية الفيدرالية الالمانية بشأن “حصة عادلة ومنصفة”، لكنها قبلت مفهوم التناسب كعامل أخير يجب أخذه في الاعتبار، وقدمت فكرة التناسب بين الجرف القاري المنسوب إلى كل دولة وطول الساحل المعني وفقًا للاتجاه العام للساحل.

اما السمات التي بررت اللجوء إلى التناسب فهي كالاتي :

_ أن تكون سواحل الدول المعنية متجاورة.

_ سواحل الجمهورية الفيديرالية الالمانية مقعّرة.

_  يمكن مقارنة طول الخط الساحلي للمناطق المتاخمة لبحر الشمال.

يستخدم التناسب كعنصر تصحيحي لنتائج غير عادلة في استخلاص الخصائص الجغرافية للسواحل. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن المحكمة لم تعتبر التناسب مبدأً متميزًا لترسيم الحدود، ولكن كأحد العوامل التي تضمن الترسيم وفقًا لمبادئ الإنصاف، على قاعدة أنّ التناسب هو اختبار للعدالة.  من المؤكد أنّ مبدأ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﺐ هو في صلب ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻹﻧﺼﺎﻑ أثناء ﺗﺮﺳﻴﻢ ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ ﺍﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﺃﻳﻀًﺎ . ﺑﻤﺎ ﺃﻥ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻹﻧﺼﺎﻑ ﻓﻲ ﺗﺮﺳﻴﻢ ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ ﻫﻮ ﻓﻲ ﺍﻷﺳﺎﺱ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺟﻐﺮﺍﻓﻲ، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺮﺳﻴﻢ ﻳﻬﺪﻑ ﺇﻟﻰ ﺗﻘﺴﻴﻢ ﺍﻟﻤﻨﺎﻃﻖ ﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻴﺔ، ﻓﻳﺘﺮﺗّﺐ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﻜﻢ ﻫﺬه ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻨﺪ حكما ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻳﻴﺮ ﺟﻐﺮﺍﻓﻴﺔ. يُستشفّ من نص الأحكام الدولية وروحيتها بأن ﺳﺎﺣﻞ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻳﺸﻜﻞ ﻧﻘﻄﺔ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ ﻟﻘﻴﺎﺱ ﺣﻖ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻓﻲ الولاية ﺍﻟﻘﻀﺎئية ﺍﻟﺒﺤﺮﻳﺔ أولًا ﻭﺍﻟﺠواﻧﺐ ﺍﻷﻛﺜﺮ ﺃﻫﻤﻴﺔ في السواحل هي ﻃﻮﻟﻬﺎ ﻭﺗﻜﻮﻳﻨﺎﺗﻬﺎ ﺃﻭ ﻣﻮﺍﻗﻌﻬﺎ النسبية تجاه ﺍﻟﻤﻨﺎﻃﻖ ﺍﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﻨﻴﺔ ثانيا .

 

إن الهدف من فكرة التناسب هي استعمالها كأداة تصحيح للنتائج غير المحقّة في سبيل تجنب الوصول إلى الترسيمات غير العادلة بشكلٍ مبالغ فيه،  والتي تنتج عن بعض الخصائص الجغرافية المعيّنة للسواحل. إذا عدنا إلى المنهج المعتمد من قبل المحاكم الدولية نراه ينحو لاعتماد أسلوب المراحل الثلاث أي تحديد خط الترسيم المؤقت باتّباع إحدى الطرق العلمية المعتمدة وتحديد الظروف ذات الصلة وصولًا إلى المرحلة الثالثة والنهائية التي تفحص أثر هذه الظروف على الترسيم وتطبيق قاعدة التناسب في تحديد المناطق البحرية في المناطق ذات الصلة. في موضوع ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الفلسطينية تكمن المشكلة في “تخيليت”، وهي كيان بحري تافه، لا يتعدّى طوله الأربعين مترًا بعرضٍ لا يتجاوز العشرين مترًا، جنوب رأس الناقورة على بعد حوالي 1800 متر من الشاطئ داخل المياه الإقليمية الفلسطينية. يطالب العدو الإسرائيلي باعتبار “تخيليت” جزيرة مكتملة الصفات فيما يعتبرها لبنان مجرد صخرة لا تحقّق أي من شرطَيّ سكن الإنسان أو حياة اقتصادية مكتفية ذاتيًا الواردة في المادة 7 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.

في قضية النزاع بين تونس وليبيا حول الجرف القاري في عام 1982 ، نظرت المحكمة في دور التناسب باعتباره المراجعة اللاحقة لعدالة خط ترسيم الحدود. استخدمت المحكمة عملية حسابية دقيقة للغاية لاختبار نتائج خط الترسيم بمبدأ التناسب. وفقًا للقرار، كان طول السواحل المعنية لليبيا وتونس 31:69. كانت النسبة بين الجبهات الساحلية للولايات المعنية، ممثلة بخط مستقيم يربط بين النقاط المعنية، 34:66. أعطت نسبة مدى الجرف القاري 40:60، ورأت المحكمة أنه لا يكون اختبار التناسب دائمًا مصحوبًا بحساب دقيق بالأرقام. من الضروري إنشاء علاقة معقولة بين مدى المنطقة المخصصة وطول الساحل. ومع ذلك، لاختبار نتائج الترسيم، يبدو أن التقدير الاساسي للعدالة عن طريق التناسب كافٍ. إن غياب التفاوت الظاهر يعني أن الخط عادل. ومع ذلك، فإن طريقة حساب التناسب تؤدي إلى بعض سوء الفهم. أولاً، بينما أعادت المحكمة التأكيد على أن الجرف القاري بالمعنى القانوني لا يشمل مناطق قاع البحر الواقعة أسفل المياه الداخلية والإقليمية، فقد اعتبرت هذه المناطق جزءًا من الجرف القاري لأجل حساب التناسب. ووفقًا للمحكمة، فإن القضية ليست مسألة تعريف، بل مسألة تناسب من حيث الإنصاف، والشرط المطلق الوحيد للعدالة هو أنه يجب على المرء أن يقارن بين مناطق متشابهة. وبالتالي، في رأي المحكمة، إذا تمت مقارنة مناطق الجرف القاري تحت علامة المياه المنخفضة للساحل الليبي مع المناطق المحيطة بالساحل التونسي، سيتم استيفاء هذا المطلب.

قد يبدو من الأنسب مقارنة الجرف القاري للأطراف بالمعنى القانوني، انطلاقا من الحد الخارجي للبحر الإقليمي المقاس من خط الأساس المستقيم. بهذا المعنى، يبدو أن اختيار المحكمة يفتقر إلى الاتساق. مثل هذا الاختلاف في خط البداية، على الرغم من أنه يبدو صغيراً للغاية أو حتى ضئيلاً، إلا أنه سيضخم الاختلاف في مدى المساحة المخصصة لكل ولاية، وهو تفاوت يتضح عندما يشار إلى الحساب بالأرقام.

ثانياً، من غير الواضح كيف تم حساب طول السواحل والمناطق ذات الصلة. حول هذه النقطة، ذكرت المحكمة بشكل عام أنه تم اعتبار سواحل المناطق البحرية المتداخلة فقط ذات صلة. المشكلة أكثر تعقيدًا عند النظر في وجود دول ثالثة. وبما أن الحدود الخارجية لمنطقة الترسيم لا تزال غير محددة، بسبب وجود دول ثالثة، فإن حجم المنطقة المعنية سيتغير .

في نفس السياق، واثناء نظر المحكمة في قضية خليج مين عام 1984، أخذ في الاعتبار التناسب وفقا لحساب طول السواحل والمناطق ذات الصلة، وأشارت المحكمة الى أنّ ” من المؤكد أيضا أن عدم تناسب كبير مع طول تلك السواحل التي نتجت عن ترسيم الحدود على أساس مختلف، سيشكل ظرفا يستدعي تصحيحًا مناسبًا. وفي رأي المحكمة، فإن الحاجة إلى أخذ هذا الجانب في الاعتبار تشكل أساسا صالحا للتصحيح” . في قضية خليج مين، تم تطبيق مبدأ التناسب لأول مرة في السوابق القضائية كعامل لتصحيح خط الوسط لكل من منطقة الجرف القاري ومناطق الصيد. وسّعت المحكمة مفهوم التناسب في جوانبه الجغرافية والوظيفية. أولاً، فيما يتعلق بالأوضاع الجغرافية، لم تذكر المحكمة أي ظروف جغرافية خاصة من شأنها أن تبرر النظر فيها بالتناسب. ثانيًا، فيما يتعلق دائمًا بدور التناسب، أعادت الدائرة التأكيد على مبدأ المحكمة السابق الذي ينص على أن التناسب ليس أساسًا مباشرًا لترسيم الحدود ولكنه وسيلة للتحقق من إنصاف الأخيرة.

رغم الجدل العميق الذي يحيط بالموضوع، فإن استعراض مقتضيات قانون البحار وأحكام المحاكم الدولية يدفع إلى التيقّن بأن تأثير اعتبار “تخيليت” جزيرة في عرض البحر الإقليمي أو مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة أقلّ أهمية من الاعتراف بصلاحيتها، بسبب قربها من الساحل وبقائها فوق مستوى المد كامل أيام السنة، كنقطةٍ أساس في عملية ترسيم خط الأساس العادي للساحل الفلسطيني. هكذا تعامل الحكم في قضية “البحر الأسود”  مع جزيرة “تسيغانكا” وهذا هو الاتجاه المرجّح في المحاكم الدولية بعد قضية غينيا/غينيا بيساو فيما يتعلق بالجزر القريبة من خط الساحل. في هذه القضية ميّزت المحكمة بين ثلاث فئات من الجزر: «الجزر الساحلية، التي تفصلها قنوات بحرية أو مجارٍ مائية ضيّقة عن القارة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بها عند انخفاض المدّ… الجزر الجنوبية المنتشرة في المناطق الضحلة. فيما يتعلق بالفئة الأولى من الجزر، رأت المحكمة أنه ينبغي أن تعتبر جزءًا لا يتجّزأ من القارة…». بذلك يكون السعي لاعتبار “تخيليت” ظرفا ذا صلة، بدلًا من كونها نقطة أساس، أكثر تحقيقا للمصلحة اللبنانية. هذا الأمر يفسح المجال، لأي تحكيم أو مقاضاة، بتحديد قيمة تأثيرها في الخط المتساوي البعد عند تعيين عرض البحر الإقليمي. أما عند تحديد باقي المناطق البحرية، فيمكن تجاهلها أو تقليص حجم تأثيرها، وذلك نظرا لأثرها غير المتناسب. أما في حال اعتبارها نقطة أساس محدد لخط الساحل فإن تأثيرها يصبح كاملًا في مجمل المناطق الاقتصادية. عندئذٍ، تجب الاستفادة من الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية والتي تجنح إلى التركيز على الحلّ العادل في كل عمليات التحديد البحرية  من خلال:

1/ استبعاد التأثير غير المتناسب لأي ميزة جغرافية في الخط المتساوي البعد المؤقت كما في قضية ليبيا/تونس . ففي حالة “تخيليت” تقضم الجزيرة، التي تقل مساحتها عن كيلومتر مربع، منطقة بحرية لبنانية تزيد مساحتها عن 2,000 كيلومتر مربع لصالح المنطقة الاقتصادية الخالصة الفلسطينية. وهذا ما رفضته المحكمة في قضية خليج البنغال فيما يتعلق بتأثير جزيرة “سانت مارتن”  في تحديد المنطقة الاقتصادية. كما أن هذه المقاربة تنسجم مع السياق العام المتجسّد في قضية ليبيا/مالطا حيث تم استبعاد أي تأثير لجزيرة “فلفيلة” ، وأيضًا فيما يتعلق بجزر “حوار” في قضية البحرين/قطر . أما بالنسبة لـ”قطعة جرادة” فقد رفضت المحكمة ما يمكن أن ينتج من تأثير غير متناسب لكيانٍ بحري تافه في قضية البحرين/قطر في رسم الخط المتساوي البعد.

2/ السعي إلى اعتبارها ميزة جغرافية شاذّة فيما يتعلق بالتكوين العام، أو كميزةٍ غير مهمّة، بحيث يصبح من الممكن تجاهلها كليا. «…فحجم الجزيرة وعدد سكانها واقتصادها تعد عوامل مهمّة، جنبًا إلى جنب مع موقعها بالنسبة إلى الخط المتساوي/الوسط في عملية ترسيم الحدود…» . ففي قضية بنغلاديش/الهند جاء قرار المحكمة: «…إن النقاط الأساسية لجزيرة ساوث تالباتي ونيو مور South Talpatti and New Moore لم تشكِّل نقطة ساحلية بارزة. إن تأثير هذا الأمر هو في نفي أهمية الجزر الواقعة على طول الساحل…» . وهكذا فإن مساحة “تخيليت” الضئيلة تُعدّ عاملًا مساعدًا في اعتبارها ميزة غير مهمّة يمكن تجاهلها كون المساحة أحد العوامل المؤثرة في اعتبار أي كيان بحري بعكس ما جرى في قضية خليج البنغال حيث كانت مساحة جزيرة “سانت مارتن” أحد العوامل التي أدت لإعطائها التأثير الكامل في تعيين حدود البحر الإقليمي.

3/ احتساب نسبة طول الساحل اللبناني إلى طول الساحل الفلسطيني ومقارنتها بنسبة مساحة المنطقة الاقتصادية اللبنانية إلى المساحة الاقتصادية الفلسطينية، وهي 0.71 و0.84 على التوالي، وإجراء التصحيح الذي يسمح بالوصول إلى نتيجة عادلة ومتناسبة كما جرى فيما يتعلق بقضايا ليبيا/مالطا  ونيكاراغوا/كولومبيا .

أما في مسألة ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – القبرصية، فإن البناء على الحكم الصادر في قضية غينيا/غينيا بيساو يرجّح أن يعمد أي تحكيم دولي، بعد تحديد خط وسط مؤقت وفي غياب أي ظرف ذي صلة، إلى احتساب طول السواحل التركية، السورية، اللبنانية والفلسطينية ذات الصلة التي تؤثّر في خط الوسط مع جزيرة قبرص لمقارنتها مع الساحل ذي الصلة للجزيرة كمرحلةٍ أولى. أما في المرحلة الثانية فيفترض العمل على تعديل المنطقة الاقتصادية اللبنانية بما يتناسب مع نسبة أطوال هذه السواحل وإن معالجة عدم التناسب هذا بالإضافة إلى كون قبرص جزيرة، وإن جزيرة-دولة، سيدفع بخط الوسط باتّجاه السواحل القبرصية.

من المهم الانتباه لشؤون ترسيم الحدود في لبنان من خلال العمل على الاستفادة من التطوّر الكبير الذي تشهده الأحكام والأعراف الدولية، بما يتعلق بحقوق الجزر وتأثيرها في المناطق البحرية المتنازع عليها بين الدول المتلاصقة أو المتقابلة، وبخاصة بعد تحييد محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر بتاريخ 12 تشرين الأول 2021 أي تأثير لجزيرة “ديوا داماسياكا” ونتوء “رأس كامبوني” على خط الترسيم البحري بين الصومال وكينيا ، من خلال اعادة محكمة العدل الدولية ترسيم الحدود البحرية بين الصومال وكينيا فيما اعتبرته حلا عادلا للنزاع الحدودي في المحيط الهندي. تتمثل خلفية القضية، في ان الصومال كانت في 28 آب / أغسطس 2014، بطلب لرفع دعوى قضائية ضد كينيا فيما يتعلق بنزاع بحري بين البلدين. وقد طلبت الصومال من محكمة العدل الدولية أن تحدد، على أساس القانون الدولي، المسار الكامل للحد البحري الوحيد الذي يقسم جميع المناطق البحرية التابعة للصومال وكينيا في المحيط الهندي، بما في ذلك الجرف القاري (الامتداد الطبيعي لليابسة داخل البحار والمحيطات) إلى ما بعد 200 [ميل بحري.

في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2015، رفعت كينيا اعتراضات أولية على اختصاص المحكمة ومقبولية الطلب. وقد أصدرت المحكمة، في 2 شباط/فبراير 2017، حكما رفضت بموجبه هذه الاعتراضات. وقد كان يُنظر إلى الحدود البحرية الجديدة على أنها أقرب إلى الخط الذي اقترحته الصومال. ووجدت المحكمة، بالإجماع، أنه “لا توجد حدود بحرية متفق عليها” بين البلدين. سحبت كينيا اعترافها باختصاص المحكمة، وبالتالي غاب ممثلوها عن جلسة.

 

رابعًا: ترتيب مسؤوليّة الدول المتنازعة عن انتهاك القوانين والتشريعات الدولية

تحتوي اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار على قواعد أساسيّة تتناول على وجه التحديد حالات المناطق البحريّة المتنازع عليها: المادة 74 فقرتها 3 والمادة 83 فقرتها 3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار. هذه الأحكام المُصاغة بعبارات متطابقة، تعكس المبادئ العامّة لحسن النيّة والتسوية السلميّة للمنازعات وتحتوي على التزامين:

_ الالتزام بمحاولة الدخول في ترتيبات مؤقتة ذات طابع عملي.

_ الالتزام بعدم تعريض التوصل إلى الاتفاق النهائي للخطر أو إعاقته.

تجدر الإشارة إلى أنّ المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار، لا تحدّ -بحكم القانون- صلاحيات كل دولة في منطقة متنازع عليها لا يزال يتعيّن ترسيم حدودها؛ اذ تبقى هذه الصلاحيات الممنوحة عمومًا للدولة الساحليّة بموجب أحكام اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار ذات الصلة والقانون الدولي العرفي. من هذا المنطلق، تمنح هذه الصلاحيات للبنان الحق في ممارسة حقوقه الاقتصادية بالاستكشاف والاستغلال، كما يفعل الكيان المؤقت الان تحت ذرائع مختلفة. مع ذلك، إنّ المادتين 74.3 و83.3 تفرضان شرطا مزدوجًا لممارسة هذه الحقوق في مجال المطالبات المتداخلة، شريطة أن تكون كل مطالبة معقولة. لذلك، إذا مارست دولة ساحليّة حقًّا ممنوحًا بموجب اتفاقيّة قانون البحار، دون الامتثال لإجراءات المادتين، فقد تتحمّل مسؤوليّة دوليّة. وفقا لعبارتهما الأوليّة، تطبَّق المادتين 74.3 و83.3 في انتظار التوصّل إلى اتفاقٍ لتحديد المنطقة الاقتصاديّة الخالصة والجرف القارّي، على التوالي:

_ بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة.

_ في جميع الحالات التي لم تقم بها الدول المتقابلة أو المتلاصقة بتحديد حدودهما البحريّة بعد، بما في ذلك الحالات التي تختلف فيها الدول فيما يتعلّق بتأهيل المعالم وحقها في منطقة بحريّة –كاملة أو جزئيّة- والحالات التي يوجد فيها نزاع على جزء من الأراضي البريّة التي من شأنها أن تولّد مناطق بحريّة .

الالتزام الأول الوارد في المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة قانون البحار هو التزام ايجابي: يجب على الدول المعنيّة في نزاعٍ يتعلّق بتحديد الحدود البحريّة أن تسعى للدخول في ترتيبات مؤقتة لمعالجة حالة المطالبات المتزاحمة. يفرض هذا الأمر على الأطراف التفاوض بحسن نيّة” . على هذا النحو، إنّ نصّ المادتين لا يفرض على الأطراف التزاما بالدخول في أي اتفاق أو تبنّي أي حلّ محدّد، أو أي حلّ على الإطلاق، لكنّه يتطلّب من الأطراف القيام ببعض الإجراءات وليس مجرّد تقاعس سلبي. وفقًا لهيئة التحكيم في قضيّة “Guyana/Suriname”، قد تشمل السلوكيات التي يمكن أن تتعارض مع التزام المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة قانون البحار رفض إرسال وفد أو ممثل إلى الاجتماعات المتفق عليها، عدم الرّد على اقتراحٍ من الدولة الأخرى، وعدم إبلاغ الأخيرة بالإجراءات المقترحة في المنطقة المتنازع عليها. أشارت هيئة التحكيم أيضًا إلى بعض السلوكيات النشطة التي يمكن أن تفي بمتطلبات المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة قانون البحار: المحاولة الحثيثة لجلب الطرف الآخر إلى طاولة المفاوضات؛ قبول دعوة الطرف الآخر للتفاوض؛ إعطاء الطرف الآخر إشعار رسمي ومفصّل بالأنشطة المقترحة؛ السعي لتعاون الطرف الآخر في القيام بالأنشطة المقترحة؛ عرض نتائج أي استكشاف تمّ إجراؤه في المنطقة المتنازع عليها؛ عرض مشاركة جميع الفوائد المالية المتأتية من الأنشطة الاستكشافية في المنطقة المتنازع عليها.

انّ قائمة الأنشطة التي قدّمتها هيئة التحكيم ليست شاملة ولكنها تبدو معقولة بشكلٍ عام، مع الأنشطة التي يمكن تقسيمها إلى فئتين؛ تلك التي يتعيّن القيام بها، من أجل الامتثال لمتطلّبات المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة قانون البحار، وتلك التي، وإن لم تكن ضروريّة، فهي تتّفق بالتأكيد مع الالتزامات المنصوص عليها في الأحكام المذكورة أعلاه. يُلزم واجب التفاوض الدولة بالسعي بنشاط إلى إجراء مفاوضات، مع الطرف الآخر، أو على الأقل قبول دعوة الطرف الآخر لمناقشة القضايا. هذا القبول، مع ذلك، قد يكون مشروطًا بوقف الطرف الآخر لأي سلوك غير قانوني يشارك فيه، كما أقرّت هيئة التحكيم. يبدو أنّ الجزء الأخير من القائمة، بما في ذلك مشاركة المعلومات والإيرادات، مجرّد صياغة تحذيريّة لا تتضمّن أي التزام قانوني. في الحالة التي يتم فيها إجهاد العلاقة بين الطرفين، أو في حالة قيام أحد الطرفين بتقديم مطالبات مفرطة، يبدو أنّه سيكون من المبالغة الاعتراف بأنّ الدولة المتورّطة في نزاعٍ على الحدود البحريّة يجب أن تشارك المعلومات أو الإيرادات مع الطرف الآخر. ينشأ نفس الارتباك عند النظر في واجب إعطاء الطرف الآخر إشعارًا رسميًّا ومُفصّلًا بالأنشطة المقترحة. فإذا كانت هذه الأنشطة تتكوّن من أفعال تنتهك التزام عدم عرقلة الحلّ النهائي أو تعريضه للخطر، فإنّها تشكّل انتهاكًا للالتزام “الآخر” من المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة قانون البحار.

تبيّن ممارسات الدول أنّ الترتيبات المؤقتة قد تتخذ شكل اتفاقاتٍ رسميّة أو قد تتكوّن في طريقة مؤقتة غير رسميّة. قد يؤيّد الصكّ، سواء أكان رسميًّا أو غير رسمي، حلولًا مختلفة، مثل مناطق التطوير المشترك، حدود مؤقتة موضوعة إمّا بموجب معاهدة أو طريقة مؤقتة غير رسميّة، إنشاء لجان أو برامج مشتركة، تقاسم المنافع أو غيرها من الإجراءات المؤقتة. على الرّغم من اعتبار الترتيبات المؤقتة في الغالب وسيلة للبحث من أجل استغلال الموارد في منطقة متنازع عليها ريثما يتمّ ترسيم الحدود البحريّة، إلّا أنّها قد تأخذ شكل ضبط النفس المتبادل المتفق عليه بشأن القيام بأنشطة الاستغلال في منطقة متنازع عليها. يمكن حتى اتخاذ تدابير مؤقتة من قبل القاضي بناءً على طلب أحد طرفي النزاع أو كليهما، لا سيّما في ضوء المادة 290 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار. في جميع الحالات، لا تؤثر الترتيبات المؤقتة بأي حال من الأحوال على التسوية النهائيّة للنزاع، على النحو المنصوص عليه في العبارة الأخيرة من المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار. يتمثّل بذل الدول المعنيّة للدخول بترتيبات مؤقتة في التزام قانونيّ بالمحاولة الفعّالة من أجل الدخول في مفاوضات لمعالجة القضايا الطارئة في انتظار التسوية النهائيّة لنزاع ترسيم الحدود. وهي لا تعني بأي حالٍ من الأحوال واجب إبرام اتفاق، على الرّغم من أنّ إبرام الاتفاقات المؤقتة ستؤدي بالتأكيد إلى الامتثال لهذا البند.

الالتزام الثاني الذي يُستنتج عادةً من نصّ المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار هو التزام سلبي: يجب على الدول المعنيّة في نزاعٍ يتعلّق بتحديد الحدود البحريّة الامتناع عن التصرّف بطريقةٍ من شأنها أن تحكم مسبقًا على التسوية النهائيّة للنزاع. تنبع الصعوبة الأساسيّة في تفسير هذا النص وتطبيقه من الحاجة إلى تحقيق التوازن الصحيح بين اعتبارين مختلفين ومعاكسين: فمن ناحية، هناك حاجة لتجنّب أي إجراء أحادي الجانب، قدر الإمكان، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم النزاع ويمكن أن يؤدي إلى تهديد السلم والأمن الدوليين ؛ من ناحية أخرى، هناك حاجة إلى عدم شلّ جميع الأنشطة الأحاديّة الجانب ريثما تتم التسوية النهائيّة للحدود البحريّة. وفقًا لهيئة التحكيم في قضيّة “Guyana/Suriname”، يمكن تحقيق هذا التوازن من خلال التمييز، على الأقل في مجال التنقيب عن الهيدروكربونات واستغلالها، بين الأنشطة التي تسبّب تغيّرًا ماديًّا في البيئة البحريّة وتلك التي لا تسبّب ذلك. فبالنسبة إلى الأنشطة المسموح القيام بها في المياه المتنازع عليها تتألّف من فئتين:

_ الأولى تشمل الأنشطة التي يضطّلع بها الطرفان وفقًا لترتيبات مؤقتة ذات طبيعة عمليّة.

_ أما الثانية تتألّف من أفعال، وإن كانت أحادية الجانب، إلّا أنّها لن تؤدي إلى تعريض التوصّل إلى الاتفاق النهائي للخطر أو إعاقته.

بالتالي، رأت المحكمة أنّ الأنشطة الأحاديّة الجانب ذات “الطابع العابر” (Transitory Character) (كمنح امتيازات البترول والمسوحات الزلزاليّة) التي لا تسبّب تغييرًا ماديًّا (Physical change) دائمًا في البيئة البحريّة تندرج عمومًا في الفئة الثانية . أمّا الأنشطة غير المسموح القيام بها هي تلك التي تؤدي إلى تغيير مادّي دائم في البيئة البحريّة (وليست ذات طابع عابر مؤقت) كأنشطة الحفر (أيًّا كان نوعه، استكشافي أو أثناء مرحلة تطويره) أو استغلال موارد النفط والغاز.  هذا التحليل، الذي يبدو أنّه يستند في الغالب إلى أمر محكمة العدل الدوليّة الذي رفض اتخاذ تدابير مؤقتة في قضيّة الجرف القارّي لبحر “إيجه” بين تركيا واليونان ، جدير بالملاحظة لأنّه يحاول تقديم معايير موضوعيّة لتقييم الامتثال للالتزام بالمادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار بشأن الأنشطة الأحاديّة الجانب في المنطقة المتنازع عليها. لكن الاستنتاج الذي توصلت إليه المحكمة لا يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّه، لا سيّما في المواقف المتوتّرة، يمكن أن يؤدي كلّ نشاط إلى ردّ قوي من قبل الطرف الآخر، بحيث يمكن أن تعتبر الدولة الأخرى أنّ استكشاف الموارد من قبل دولة مجاورة يعرّض النزاع للخطر، خاصّة إذا تمّ ذلك دون أي إخطار سابق من قبل الدولة المجاورة. أمّا فيما يتعلّق بالموارد المتجدّدة، مثل الموارد الحيّة، فلم يتم التعامل معها من قبل قضاة دوليين. في الحالة الأخيرة، من السهل التأكيد على أنّ أنشطة الاستكشاف والاستغلال للموارد المتجدّدة لا تسبّب أي ضرر دائم ويمكن أن يقوم بها كِلا الطرفين، وإن كان بشكلٍ منفصل، في المنطقة نفسها . غير أنّ الافتقار إلى التنسيق في استغلال الموارد المتجدّدة يمكن أن يتعارض مع ضرورة الحفاظ على الموارد المتجدّدة، على النحو المنصوص عليه في المادة 61 من اتفاقيّة قانون البحار.

في المقام الثاني، اعتبرت المحكمة أنّ “التهديد باستعمال القوّة” من جانب دولة “سورينام” لمنصّة البترول البحريّة “CGX” ينتهك أيضًا التزامها بعدم إعاقة أو تعريض التوصل إلى الاتفاق النهائي للخطر. من الواضح أنّ التهديد باستعمال القوّة لحلّ النزاع، ناهيك عن استخدامها الفعلي، لا ينتهك فقط القواعد الأساسيّة للقانون الدولي كالمادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن من المقرّر أن تعرّض التسوية النهائيّة للخطر أو ربّما تعرقلها. الخيارات التي حددتها المحكمة، التي تشمل المفاوضات ورفع القضيّة إلى هيئة تحكيم وطلب تدابير مؤقتة، تبدو مناسبة خلال فترة التخطيط، قبل بدء أي نشاط أحادي الجانب. يبدو أنّ منع دولة ما من إنفاذ تشريعاتها ضدّ شركة تقوم بأعمال حفر استكشافيّة في الجرف القارّي دون ترخيص من جانبها يأخذ في الحسبان مصلحة الأطراف الثالثة ولا يأخذ بالقدر الكافي مصالح الدولة الساحليّة. بالتالي، عندما تستخدم أنشطة الإنفاذ بالقوّة بما يتجاوز المقدار المحدود المسموح به بموجب القانون الدولي، تكون الجهة المعنية (الكيان المؤقت مثالا) قد انتهكت القواعد المتعلّقة باستخدام القوّة ويمكن اعتبار أفعالها انتهاكًا للالتزام بعدم إعاقة التسوية النهائيّة أو تعريضها للخطر.

ستكون التداعيات الأولى لانتهاك المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار الالتزام بوقف السلوك غير القانوني وتقديم التأكيدات والضمانات المناسبة لعدم التكرار. هذا الالتزام مهم بشكلٍ خاص لأنّه في حالة المناطق المتنازع عليها يمكن أن تكون الدول عرضة لانتهاكات عديدة للالتزامات المنصوص عليها في المادتين المذكورتين. يبقى الطرفان أيضًا في ظلّ التزام مستمر للامتثال لمتطلّبات هذه الأحكام؛ لذلك لا يجوز للدولة الانسحاب بشكل دائم من المفاوضات على الرّغم من أنّها قد تشكّل شرطًا لمواصلة امتثال الدول الأخرى لالتزاماتها ووقف السلوك غير القانوني. هذه الالتزامات قابلة للتطبيق على الأطراف طالما لم يتم تسوية النزاع، إمّا عن طريق الاتفاق أو بقرارٍ ملزم . تبرز قضيّة معقدّة حيّز الوجود عندما يتعلّق الأمر باللجوء إلى التدابير المضادّة من أجل حثّ الدولة الأخرى على الامتثال بأحكام المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار. يسمح بالتدابير المضادّة  بشكلٍ عام ما دامت متناسبة  ولا تنتهك الالتزامات المنصوص عليها في القواعد الآمرة للقانون الدولي، بما في ذلك الالتزام بالامتناع عن التهديد باستعمال القوّة أو استخدامها . لذلك، يُصرّح للدولة بعدم الامتثال لالتزاماتها بموجب المادتين 74.3 و83.3 كتدبيرٍ مضاد، ولكن فقط في حالة عدم امتثال الدولة الأخرى .  قد تتكوّن التدابير المضادّة بالتأكيد من سلوكيات سلبيّة مثل الانسحاب من المفاوضات وتعليق الترتيبات المؤقتة المشتركة . بيد أنّه هل يمكن أن تتكوّن هذه التدابير أيضًا من سلوك إيجابي؟  قد يكون الأمر قابلًا للنقاش إزاء مدى امكانيّة الدولة بمنح حقوق الاستغلال في منطقة متنازع عليها كتدبير مضاد. في الواقع، قد تتمثّل أنشطة الاستغلال في انتهاك خطير للالتزامات المنصوص عليها في المادتين 74.3 و83.3، وقد تضرّ باستئناف أداء الالتزامات . على الرّغم من أنّ الدولة قد تجادل في ظلّ ظروف معيّنة بأنّ الاستغلال يمكن اعتباره تدبيرًا مضادًّا مشروعًا ومتناسبًا، وهذا ما يمكن للبنان القيام به في ظل عدم التزام قبرص بالاتفاقية الثنائية التي حددت المنطقة الاقتصادية بين الدولتين، وعدم احترامها لفحوى الاتفاقية، كما أيضا، في ظل الانتهاكات التي يقوم بها الكيان المؤقت وفشل الوسيط الأمريكي في إدارة المفاوضات التي من المفترض انها أنشأت لتثبيت الحقوق البحرية اللبنانية.

أعلنت شركة “ENERGEAN” بأنّ وحدة التفريغ، التخزين والإنتاج العائمة “Energean Power FPSO” (سفينة البترول البحريّة) قد أبحرت بعيدًا عن شواطئ سنغافورة نحو وجهتها المؤكّدة ألا وهي حقل “Karish” في مياه فلسطين المحتلة الذي يقع الجزء الشمالي منه ضمن المنطقة المتنازع عليها  (وفق ما بيّنتها الخرائط الجغرافيّة لخط (29)، كما أعلنت الشركة بأنّها على المسار الصحيح وفق ما هو مخطّط له بإتمام أوّل انتاج متر مكعّب من الغاز من مشروع “Karish” في الربع الثالث من سنة 2022 .

تستدعي هذه الوقائع الخطيرة سؤال رئيسي يتعلّق باستمرار أنشطة المسوحات الزلزاليّة وحفر الآبار البتروليّة من قبل الكيان المؤقت في المنطقة البحريّة المتنازع عليها بينما النزاع بانتظار التسوية النهائيّة لترسيم الحدود عبر المفاوضات غير المباشرة. في ضوء التزامات الدول القانونيّة المجاورة بموجب أحكام اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار ، يجد لبنان نفسه أمام سيناريو مزدوج يتعلّق بالأنشطة البتروليّة البحريّة الأحاديّة، يتعلّق الأوّل حول مدى انتهاك الكيان المؤقت  لسيادة لبنان فوق بحره الإقليمي وحقوقه السياديّة وولايته القضائيّة في المنطقة الاقتصاديّة والجرف القارّي ، أمّا الثاني فيتعلّق بانتهاك الكيان المؤقت لأحكام المادتين 74.3 و83.3 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار.

السيناريو الأوّل: الانتهاك الإسرائيلي للحقوق السيادية اللبنانية في المنطقة المتنازع عليها

أشارت قضيّتي “المحيط الهندي (صومال/كينيا)” و”المحيط الأطلسي (غانا/ساحل العاج)” الى أنّه “عندما تتداخل الادعاءات البحريّة للدول، فإنّ الأنشطة البحريّة التي تقوم بها دولة في منطقة وتُنسب لاحقا إلى دولةٍ أخرى بموجب قرار قضائي لا يمكن اعتبارها انتهاكًا للحقوق السياديّة لهذه الأخيرة، إذا تمّ تنفيذ تلك الأنشطة قبل إصدار القرار وإذا كانت المنطقة المعنيّة موضوع مطالبات قدمتها الدولتان بحسن نيّة” . لكن في الحالة اللبنانية وجب التحفظ على عبارة “لا يمكن اعتبارها انتهاكًا […] إذا تمّ تنفيذ الأنشطة قبل إصدار القرار”، التي يمكن للكيان المؤقت التمسّك بها، والقول بان أي نشاط يقوم به في المنطقة المتنازع عليها قبل صدور القرار النهائي بشأن ترسيم الحدود وتثبيت الحقوق السيادية للبنان في بحره هو قانوني ولا يعتبر انتهاكا. وقد أيّدت المحكمة هنا الرأي القائل: بأنّ لترسيم الحدود وظيفة تأسيسيّة، فهو عمل يولّد حقوقًا سياديّة . بالمقابل، هذا الأمر يقلب رأسًا على عقب البديهيّة الأساسيّة التي بموجبها تتمتّع الدول بحقوق متأصّلة على الجرف القارّي. هذا ما أكّدته قضيّة الجرف القارّي الشمالي لعام 1969، حيث أشارت المحكمة إلى أنّ “حقوق الدولة الساحليّة فيما يتعلّق بمنطقة الجرف القارّي التي تشكّل امتدادًا طبيعيًّا لأراضيها البريّة داخل البحر وتحته، قائمة بحكم الواقع وبحكم البداية من خلال مقتضى سيادتها على البرّ، وامتدادًا لها في ممارسة حقوقها السياديّة بهدف استكشاف البحر واستغلال موارده الطبيعيّة”.

علاوة على ذلك، أشارت اتفاقيّة جنيف بشأن الجرف القارّي  لعام 1958 المُصادق عليها من قبل الكيان المؤقت نفسه، بأنّ الحقوق السياديّة على الجرف القارّي بغرض استكشافها واستغلال مواردها الطبيعيّة الحصريّة، لا تتوقّف على احتلالٍ، فعلي أو حكمي، أو على أي إعلانٍ صريح ، وهذا ما أشارت إليه صراحة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار . إضافةً إلى ذلك، قدّم القاضي “Oda” رأيه المخالف لقضيّة تونس/ليبيا ، حيث أعرب عن “أنّ منطقة قاع البحر لا يُقصد بتقسيمها مثل الإقطاعيات، إذ أنّ وظيفة تحديد حدود الجرف القاري تتمثّل فقط في تمييز وإلقاء الضوء على خطٍّ وجود محتمل بالفعل”. أمّا بالنسبة إلى عبارة “[…] المنطقة المعنيّة موضوع مطالبات قدمتها الدولتان بحسن نيّة”، فمن الجليّ لنا من أنّ أنشطة الكيان المؤقت (عمليات التنقيب عبر تلزيم شركة “Energean” وغيرها لحفر وتطوير آبار بتروليّة وإنتاج النفط والغاز من شمال حقل “Karish” المتنازع عليه أثناء المفاوضات غير المباشرة) التي تغطي كامل المنطقة المتنازع عليها، في ضوء أحكام الالتزام الإيجابي المتمثّل ببذل الدول قصارى جهودها للدخول بترتيبات مؤقتة ذات طابع عملي تحت عنوان عام “بروح من التعاون والتفاهم”، قد انتُهك، بسبب عدم توقّف تلك الأنشطة في المناطق البحريّة المتنازع عليها (الممتدّة بين الخط (1) والخط (29))، وهذه دلالة على سوء نيّة الكيان المؤقت في التعامل مع ملف ترسيم الحدود البحريّة. بمعنى آخر، على الرّغم من أنّ الكيان المؤقت قد شكّل وفودًا مفاوضة، لكنه من ناحية أخرى لم يوقف أي عمليات تنقيب في المنطقة المتنازع عليها (حفر بئر استكشافي في حقل كاريش، وإبرام اتفاقيّة شراء وبيع الغاز مع شركة “Energean” أعلن عنها في 3/5/2022).

السيناريو الثاني: انتهاك الكيان المؤقت لأحكام المادتين 74/3 والمادة 83/3 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار:

أشارت المادتين إلى التزام الدول المعنيّة ببذل قصارى جهودها للدخول بترتيبات مؤقتة ذات طابع عملي وعلى ألّا يتم تعريض التوصّل إلى الاتفاق النهائي للخطر أو إعاقته. كما أوردنا سابقًا، إنّ الإرشادات المُقدّمة من السوابق القضائيّة، علاوة على المعايير الموضوعيّة التي وُضعت بشأن الأنشطة ذات الطابع العابر المؤقت غير المؤدية إلى تغييرٍ مادّي دائم للبيئة البحريّة، مفيدة في تقييم سلوك الدول على أساس دراسة كل حالة على حدة. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكيان المؤقت هو عدو للبنان، ستكون تلك المعايير (السلوكيّة والموضوعيّة) مربكة إلى حدٍّ ما. بمعنى إنّ أي نشاط من أنشطة الحفر سيكون لديه تداعياته من الجانب اللبناني، حيث يمكنه الارتقاء إلى إمكانية استخدام القوّة للدفاع عن ثروات الدولة، وهذا الأمر يبقى ضمن المنطقة الرماديّة للاجتهاد الدولي، بالتالي يبرز التساؤل حول مدى إمكانيّة لجوء لبنان إلى منطق القوّة لتطبيق تشريعاته السياديّة؟ بشكل عام، فإنّ الاستخدام المحدود للقوّة الذي قد يكون ضروريًّا من أجل تطبيق تشريعات الدولة الساحليّة في منطقة بحريّة تطالب بها يختلف من الناحية المفاهيميّة عن استخدام القوّة في العلاقات الدوليّة التي تحظرها المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة. يتمثّل استخدام القوّة عند تطبيق تشريعات الدولة الساحليّة في ردع التصرّفات التي لا تمتثل لها والمعاقبة عليها. قد تكون بعض المعايير، كالهدف الوظيفي للنشاط البحري المُتّخذ، حالة السفينة المعرّضة وموقع الحادث، مفيدة في التمييز بين الإنفاذ القانوني والاستخدام غير القانوني للقوّة. من الناحية العمليّة، من الصعب التمييز بين هاتين الحالتين، حيث أنّه في حالة المناطق البحريّة المتنازع عليها، يمكن إنفاذ التشريعات الوطنيّة كذريعة لاتخاذ إجراءات استعراض “حقيقي” للقوّة ضدّ السفن والأطراف المعتدية، في محاولة لتعزيز المطالبة بالمنطقة البحريّة. كما بيّنا سابقًا، في قضيّة “Guyana/Suriname”، اعتبرت هيئة التحكيم بأنّ الإجراء المُتّخذ من قبل دولة “سورينام” ضدّ منصّة البترول البحريّة “CGX” عبارة عن تهديد غير قانوني باستخدام القوّة، وليس نشاطًا لإنفاذ القانون. لكن الصراع مع العدو الصهيوني يشكّل حالة استثنائيّة، وهذا ما يزيد مسألة استخدام القوّة المحدودة تعقيدًا “كملاذ أخير” من أجل فرض سيادة الدولة اللبنانيّة على ترسيم الحدود البحريّة.

في الخلاصة، بالإمكان الاستفادة من التطوّر الكبير الذي تشهده الأحكام والأعراف الدولية بما يتعلق بحقوق الجزر وتأثيرها في المناطق البحرية المتنازع عليها بين الدول المتلاصقة أو المتقابلة، وبخاصة بعد تحييد محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر بتاريخ 12 تشرين الأول 2021 أي تأثير لجزيرة “ديوا داماسياكا” ونتوء “رأس كامبوني” على خط الترسيم البحري بين الصومال وكينيا،  من خلال وضع تصوّرات ومحاكاة لمختلف الفرضيات المتوقّعة. إن التركيز على حماية حقوق لبنان في وجه العدوّ لا يجب أن يلهينا عن دراسة إمكانية الاستفادة من انخفاض تأثير الجزر بشكلٍ عام في ترسيم الحدود البحرية والاستناد إلى قاعدة التناسب لإعادة التفاوض مع الجانب القبرصي بما يحقّق المصلحة اللبنانية بدفع خط الوسط نحو شاطئ قبرص.  اضافة الى الإمكانيات المتعلقة بتحميل المسؤولية للكيان المؤقت بسبب عدم التزامه بمحاولة الدخول في ترتيبات مؤقتة ذات طابع عملي، الى جانب تعريضه التوصل إلى الاتفاق النهائي للخطر أو إعاقته وفقا لما اقرته اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وقرارات محكمة العدل الدولية المرتبطة بذات الموضوع.

الكاتب: سهام محمد – باحثة قانونية

شاهد أيضاً

توقعات الابراج ليوم الخميس

الحمل مهنياً: يساعدك المخلصون على إحراز النجاح والأرباح في الاستثمارات إلاّ أنّ عليك التصرّف بجدّية. …

الاشترك بخدمة الخبر العاجل