محمد وهبة – الأخبار
في حال تعديل سعر الصرف ليصبح 15 ألف ليرة بدلاً من 1507 ليرات، فإن النتائج، بمعزل عن النقاشات القانونية في من يحقّ له تعديل سعر الصرف والأهداف المتوخاة من خطة إفرادية كهذه بلا سياسة نقدية واقتصادية واضحة المعالم، فإن النتائج ستكون مباشرة على الودائع والقروض وسائر عقود التجارة والعمل والسكن. أيضاً هناك نتيجة واضحة تكمن في ميزانيات المصارف ورساميلها، إنما بحسب مصادر في وزارة المال، فإن كل ما يتعلق بالمصارف ونشاطاتها واستمراريتها سيكون بيد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عبر سلسلة تعاميم تحدّد النتائج والأهداف
أثار تصريح وزير المال يوسف الخليل، الصادر أول من أمس، بشأن تعديل سعر الصرف ليصبح 15 ألف ليرة مقابل كل دولار، بدلاً من 1507 ليرات، بلبلة واسعة استدعت من وزارة المال إصدار بيان تصحيحي يلغي موعد تطبيق سعر الصرف الجديد المقرّر في نهاية تشرين الأول 2022، إلى أجل مرتبط بإقرار خطّة التعافي. سبب البلبلة أن كل ما قاله الخليل بشأن سعر الصرف الجديد لم يكن واضحاً لجهة النتائج المترتّبة عليه؛ إذ إن تعديل سعر الصرف له مفاعيل إلزامية على كل العقود في لبنان (التجارية، العمل، السكن، الديون)، وليس محصوراً فقط بغايات تطبيق الضريبة. لذا، إن الضبابية في مسألة كهذه ستترك هامشاً واسعاً من التأويل، وربما تقود نحو الاضطرابات.
حتى الآن، بات واضحاً أن استناد بيان وزارة المال الأول، إلى المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف، يهدف إلى نقل قسم كبير من الخسائر التي تراكمت في ميزانية مصرف لبنان أو التي ستتراكم لاحقاً بسبب شراء الدولار وبيعه من الجمهور مباشرة، إلى الخزينة، أي تمويل هذه الخسائر بالمال العام. كذلك، تبيّن أن هناك هدفاً آخر يقضي بأن تُلقى مسؤولية كل الخسائر في ميزانية مصرف لبنان المتعلقة بالدفاع عن ثبات سعر الصرف (بقيمة 1507.5 ليرات وسطياً) لفترة تفوق 22 سنة، على الحكومات المتعاقبة. إذ يبدو أن الحاكم رياض سلامة حاول في أكثر من مرّة القول إنه ليس الجهة التي حدّدت سعر الصرف الثابت، بل الحكومة، وإنه يدافع عن سياسات أقرّتها الحكومة. وبهذا المعنى، فإن تعديل سعر الصرف ليصبح 15 ألف ليرة أتى من الحكومة ومجلس النواب، والدفاع عنه واجب على «المركزي» في مقابل تحميل الخسائر للخزينة. وبذلك يحصل الحاكم على تغطية قانونية مقابل تبديد المليارات منذ مطلع التسعينيات لغاية اليوم.
غير أنه بمعزل عن الأهداف، فإن هذا التعديل في سعر الصرف له قوّة إلزامية تمتدّ من «غايات احتساب الضريبة في الموازنة» إلى الاقتصاد والمجتمع.
فعلى مدى الأشهر الماضية، انغمس الجميع في نقاشات متصلة بالدولار الجمركي باعتبار أنه يمثّل مورداً أساسياً للخزينة التي بات عليها التزامات إضافية تجاه رواتب موظفي القطاع العام لا يمكن إيفاؤها من دون تحصيل مالي إضافي. ومن أبرز مصادر هذا التحصيل: الرسوم الجمركية المفروضة على استيراد السلع. الرسم يقتطع على قيمة السلعة المستوردة بالعملة الأجنبية، وسعر صرف العملة الأجنبية بقيمة 1507.5 ليرات لم يعد منطقياً، ما يستدعي تعديله. هكذا انحصر النقاش في سعر الدولار الجمركي. ثم فجأة بات يشمل كل الضرائب. فعلى سبيل المثال، سيتم تعديل سعر الدولار الذي تستوفى على أساسه ضريبة القيمة المضافة تلقائياً بسبب الدولار الجمركي لأن قسماً كبيراً منها يقتطع مع الرسوم الجمركية عند استيراد السلع. لكن بالنسبة إلى ضرائب ورسوم أخرى، مثل الطابع المالي، وضريبة الأملاك المبنية، والضرائب على العقود وتسجيلها في وزارة المال وسواها، فإنها كلها ستعتمد على أساس سعر صرف للدولار يبلغ 15 ألف ليرة. بهذا المعنى، سيتم رفع قيمة الضرائب والرسوم بالاستناد إلى معيار واحد هو سعر الصرف، من دون أي اعتبار للوظائف الاقتصادية التي تؤدّيها هذه الضرائب في المجتمع. سيتم رفع قيمة التخمين العقاري، وقيمة التعاملات التجارية، وقيمة حقوق الملكية… كل ما هو متعاقد عليه بالدولار بين أطراف خاصة، سيخضع لسعر الصرف الجديد. لكن ماذا لو أن هناك اتفاقات حصلت وفق أسعار صرف متعدّدة كتلك الموجودة حالياً؟ أليس هناك عقود على سعر صرف الشيكات المصرفية؟ أليس هناك عقود مذكور فيها سعر الصرف المعتمد؟ أليس هناك عقود بالدولار النقدي؟ لذا، إن أي خلل في تنظيم العملية الانتقالية بشكل دقيق وفعال وشامل قد يكون مصدراً لإثارة مشاكل واضطرابات في ظل غياب القضاء عن الفصل في هذه الأمور، علماً بأن القضاء نفسه الذي لم يحدّد لغاية الآن موقفه من التعامل مع العقود وسعر الصرف، سيكون أمام طبقة جديدة من التعقيد إذا أراد الفصل في الدعاوى.
رغم ذلك، تقول مصادر في وزارة المال، إن التطبيق سيكون في نهاية تشرين الأول كما هو مقرّر. وتضيف إن كل العقود بالعملة الأجنبية ستخضع لهذا التعديل على جانب احتساب الضريبة، بما فيها ضريبة الدخل، وضريبة الأرباح، وضريبة التوزيع، ورسم الطابع المالي وسائر الضرائب والرسوم. «إنما بالنسبة إلى تطبيق الأمر على المؤسسات المالية، أي المصارف فإن هذا الأمر يقع على عاتق مصرف لبنان الذي سيصدر تعاميم تنظّم الأمر. كل ما يتعلق بعقود القروض والودائع وسواها، سيتم تنظيمه في مصرف لبنان، ولا سيما أن مصرف لبنان يتشاور مع وزير المال، بالاستناد إلى المادة 75 من قانون النقد والتسليف، لإصدار سعر الصرف وتحديده بقيمة 15 ألف ليرة». وبحسب المصادر، فإنّ آلية التنظيم ليست واضحةً، وإن كان هناك بعض الخطوات المتوقعة مثل رفع سعر الدولار المصرفي إلى 15 ألف ليرة، ورفع سعر تسديد القروض… إنما كل ما يتعلق بإعداد ميزانيات المصارف، وأثر ذلك على رساميلها وأموالها الخاصة سيحدّده مصرف لبنان».
إذاً، ما الذي يمكن أن نتوقعه من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة؟ ليس هناك الكثير مما يمكن توقعه، إنما ما هو واضح لغاية الآن أن خطوة تحديد سعر الصرف والاتفاق عليها لم تُعرض، ولو من باب العلم والخبر، على المجلس المركزي لمصرف لبنان. أصلاً، المجلس المركزي فيه دمى تابعون لمراجع سياسية يدافعون ليل نهار عن استمرارية سلامة وبقائه في منصبه ضمن المسار الذي رسمه لتوزيع الخسائر وإعادة هيكلة النظام المصرفي. والدمى ليست حكراً على المجلس المركزي، ففي لجنة الرقابة على المصارف دمى مماثلة، وفي الهيئة المصرفية العليا أيضاً، وفي سائر المؤسسات التي يرأسها سلامة بوصفه حاكماً لمصرف لبنان. لذا، لا يعوّل على هذه الدمى، بينما المسار الذي فرضه سلامة بات واضحاً ومعروفاً: فرض تعدّدية في سعر الصرف تتيح إطفاء جزء من الودائع، ثم تغطية السحوبات من الودائع المحجوزة عبر ضخّ النقود. الأمران يؤدّيان إلى ارتفاع مستمرّ في سعر الصرف، ولا سيما أنه لم يتم إقرار قانون كابيتال كونترول، وحصيلتهما تضخّم في الأسعار يستلزم طباعة المزيد من الليرات التي يُعاد استخدامها في سياق الهدف نفسه، بما يغذّي أيضاً ارتفاع سعر الصرف… ثم التضخم وهكذا دواليك. هذه دوامة متواصلة منذ ثلاث سنوات.
في هذا الوقت، لم يتضح إذا كان سلامة يريد فعلاً إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو أنه يريد قطاعاً «زومبي» حتى نهاية ولايته ورحيله. فلنأخذ مثلاً ما يقوم به في الهيئة المصرفية العليا التي أحيل إليها منذ فترة طويلة، خمسة مصارف لأسباب إدارية جسيمة أو لأسباب مالية جسيمة، أو لكلَي الأمرين معاً. فحتى الآن لم يتخذ أي قرار بشأن وضع اليد على أي مصرف وتعيين مدير مؤقت، بل هناك عمليات إنقاذ يتم التفاوض حولها بشأن «فدرال بنك»، إذ تشير مصادر مطلعة إلى أن مصرف لبنان ينوي إقراضه مليونَي دولار شهرياً لإنقاذه من براثن الإفلاس!
مصرف لبنان ينوي إقراض فدرال بنك مليوني دولار شهرياً لإنقاذه
فمع إقرار سعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة، سيكون الأثر واسعاً على ميزانيات المصارف. هناك مصادر تشير إلى أن دراسة لجنة الرقابة على المصارف تؤكد مسح غالبية رساميل المصارف بهذا السعر، بينما تقول مصادر أخرى إن 10 مليارات دولار من رساميل المصارف ستتبخّر مباشرة. وإذا احتسبنا خسائر توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، يتبيّن الآتي: في ميزانية المصارف نحو 80 مليار دولار (بالعملة الأجنبية) موظّفة لدى مصرف لبنان، لكن هذا الأخير ليس لديه تغطية بالعملة الأجنبية بأكثر من 25 مليار دولار (من ضمنها تقييم الذهب)، أي أن خسائر التوظيفات تبلغ 55 مليار دولار.
إذاً، أيُّ إنقاذ سيقوم به سلامة بتعاميمه، سوى استمرار مخططه السابق القاضي بضخّ السيولة وإطفاء خسائره وخسائر المصارف وتحميلها للمجتمع؟ هناك خيار آخر قد يقدم عليه، وهو إطفاء الخسائر عبر تسليم ممتلكات الدولة وأصولها للمصارف ولكبار المودعين بثمن بخس. وهذا الخيار يجري العمل عليه من خلال مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإنشاء صندوق الودائع الذي سيموّل بإيرادات من أصول الدولة!
هل تنطلي خدعة «توحيد السعر» على صندوق النقد؟
عندما صرّح وزير المال يوسف الخليل بأنه سيتبنى بالاتفاق مع مصرف لبنان سعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، ثمة من روّج للأمر باعتباره توحيداً لسعر الصرف يتواءم مع ما يطلبه صندوق النقد الدولي من لبنان كأحد الشروط المسبقة للاتفاق النهائي، فهل تنطلي هذه الخدعة على الصندوق؟ في الواقع، ثمة مستويات من الإجابة؛ أولها أن مصرف لبنان تبنّى سعر منصّة «صيرفة» باعتباره السعر الأقرب إلى السوق، وهو سعر متحرّك خلافاً لفكرة تسعير الضرائب في الموازنة العامة بقيمة 15 ألف ثابتة. وثانيها، أنه إلى جانب سعر «صيرفة»، هناك سعر السوق الحرّة، وسعر الودائع وفق التعميم 151 (8 آلاف ليرة للدولار) وسعر الودائع وفق التعميم 158 (12 ألف ليرة مقابل الدولار)، أي أن إلغاء «صيرفة» وتوحيد أسعار التعاميم لتصبح كل الودائع والضرائب بسعر 15 ألف ليرة، لا يوحّد سعر الصرف، بل يجعل سعر السوق الحرّة أعلى بضعفين ونصف من سعر الـ15 ألف ليرة، أي أنه بدلاً من أن يقترب أكثر من سعر السوق الحرّة، ابتعد كثيراً عنه. وثالثها، أنه لا أحد يشكّ للحظة بأن توحيد سعر الصرف يبدأ بخطوة ركيكة مثل إصدار بيان أو حتى تصريح لوكالة أنباء، بل يفترض أن يكون الأمر عبارة عن سياسة نقدية يتم إعلانها بشكل واضح وتكون منسجمة مع توجّه اقتصادي واضح ومحدّد الأهداف.
لهذه الأسباب لا أحد يتوقع أن تنطلي هذه الخدعة على الصندوق، لأنها ليست توحيداً لسعر الصرف، وهي ليست أكثر من خطوات مشكوك بشفافيتها وأهدافها.