كتبت النهار
الأفرقاء السياسيون الوازنون في لبنان، على تنوّعهم وتناقضهم وعدائهم لبعض، يعتقدون باختصار، استناداً الى متابعتهم الأوضاع في بلادهم ولقاءاتهم المستمرة بأطراف النزاع من لبنانيين وغير لبنانيين وهم كثيرون ومعروفون، أن لا مجال لأي حل في لبنان الآن وحتى في المستقبل القريب. ويقولون مع شيء من الجزم أن لا “فدرلة” في لبنان ولا تقسيم له، ولا انتخاب لرئيس جمهورية فيه يُنهي الشغور الرئاسي الذي قارب الشهرين، ولا حلحلة فعلية للأوضاع المتردّية فيه قبل التوصّل الى حل نهائي وثابت وربما جذري لأزماته الجوهرية وللمشكلات الناتجة عنها. فالولايات المتحدة تهتم بلبنان نظرياً وإنسانياً واجتماعياً وشبابياً و”عسكرياً وأمنياً”، لكنها مشغولة الى أبعد الحدود بالتطورات الدولية المقلقة وأهمها على الإطلاق حرب روسيا على أوكرانيا وردّها هي مع الاتحاد الأوروبي على هذه الحرب بتزويد الأوكرانيين بكل ما يحتاجون إليه للصمود ولتحقيق انتصارات مهمة ولكن جزئية وغير حاسمة. لكنها في الوقت نفسه تسعى الى إعداد أرضية تفاوض لا تخرج منه روسيا مهزومةً بالكامل وذلك مستحيل لأنها قد تتداركه باللجوء الى السلاح النووي التكتي أو غيره، ولا تخرج منه أوكرانيا محققةً انتصاراً كاملاً بل صموداً رائعاً ووضعاً إقليمياً يجنّبها مستقبلاً أيّ تحدٍّ روسي. الولايات المتحدة مشغولة أيضاً بأوضاعٍ إقليمية عدّة أهمها الشرق الأوسط بإسرائيلييه وعربه وعجمه، كما بقضايا آسيوية أهمها عدم تمكين الصين من تحقيق حلمها بالسيطرة على محيطها الآسيوي. من جرّاء ذلك كله كلّفت واشنطن فرنسا القيام بالتحرّك اللازم في لبنان مع قادة شعوبه المنقسمة والمتناحرة ومع الجهات الإقليمية المتدخلة فيه بل المتصارعة فيه بواسطتها. لكنها تعرف أن رغبة فرنسا في مساعدة لبنان قديمة جداً ومستمرة لتعلّقها به من زمانٍ سحيق، وتعرف أيضاً أنها بذلت على الأقل منذ تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 أو انفجاره أكثر من محاولة جدّية لإقناع قادة شعوبه بالتفاهم ليس فقط لحل لغز جريمة المرفأ بل أيضاً لإعادة الاستقرار الى لبنان وبناء دولته المنهارة والفاشلة. وتعرف أخيراً أن الفشل كان حليفها في مهمتها. لهذا السبب كال المسؤولون الفرنسيون لقادة الشعوب اللبنانية الاتهامات بالعجز والتقصير وتعمّد عدم التعاون. وقرّر الرئيس الفرنسي ماكرون الامتناع عن اقتراح أي حل لأزمة الكهرباء ولانهيار العملة الوطنية ولجمع الأفرقاء اللبنانيين خارج بلادهم للتشاور والاتفاق، كما الامتناع عن تسمية أيّ مرشّح من أصدقاء فرنسا اللبنانيين ومن اللبنانيين الفرنسيين لرئاسة الجمهورية أو لرئاسة الحكومة أو لاحتلال مواقع مهمة في الإدارات العامة وعن تزكية أي شركة فرنسية لإعادة بناء ما تهدّم من بنى تحتية وفوقية.
أما المملكة العربية السعودية المهتمة والمقدمة له من زمان المساعدات المالية والاقتصادية والسياسية المهمة وأبرزها “اتفاق الطائف” الذي أنهى حرب 1975-1990 فلا تزال على اهتمامها به ولكن من منطلق آخر. فهي غير مستعدة لتقديم المال والمساعدات المتنوّعة كما في السابق إلا بعد انتخاب رئيس للجمهورية غير معادٍ لها “وتابعٍ لحزب الله” وتأليف حكومة لا تعمل بإيحاءاته وتخدم سياسته ومصالحه وإن على حساب مصلحة لبنان واللبنانيين الآخرين. وهي ربما تكون محقّة بذلك من وجهة نظرها، إذ إن “الحزب” حليف إيران “عدوّتها” منذ 1979، وينفّذ سياسة إقليمية معادية لها، وهو شريك مهم في حرب الحوثيين داخل اليمن لكونهم حلفاء للقائدة الأكبر إيران. إلا أن قدرة المملكة على إقناع أخصامها أو أعدائها في لبنان بقبول “شروطها” لمساعدته ضئيلة جداً. كما أن قدرة حلفائه وهم كثيرون على إقناع أعدائها بالتعاون الجدي أو على فرض التعاون عليهم ضئيلة جداً بل ربما تكون غير موجودة.
تبقى دولة قطر، وهي أيضاً لا تستطيع القيام بشيء مهم ومفيد على صعيد وضع لبنان على طريق العافية رغم محبتها له وعلاقتها “الجيدة” مع قادة شعوبه المتناحرة، ورغم تكليف السعودية لها أخيراً مساعدتها في البحث مع اللبنانيين عن تسوية أو تسويات لمشكلاتهم المعقّدة قبل الانهيار التام للهيكل على الجميع، علماً بأنها قامت بدور مهم عام 2008 إذ جمعت أطراف “المشكلة” اللبنانية في الدوحة ونجحت من جهة في إقناع “حزب الله” بسحب جمهوره من ساحة رياض الصلح الرئيسية في العاصمة وقسم من ساحة الشهداء، وفي إقناع قادة “فريق 14 آذار” بسحب جمهورهم من القسم الأكبر من الساحة الأخيرة، وأخيراً في إقناع القيادات الكبيرة بتسوية أدّت الى ملء الفراغ الرئاسي بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وبتكوين المؤسسات الأخرى. لكن هذا النجاح رافقه أمرٌ أثّر سلباً على لبنان لاحقاً وتسبّب بالتدهور الذي وصل إليه اليوم على كل الصعد، إذ إن بدعة “الوزير الملك” و”الثلث المعطّل” في الحكومة كانت قطر وراءها. لكن هل قصدت قطر ذلك مسايرة لـ”حزب الله” وإيران التي لها معها علاقة جيّدة للإمساك أكثر بالوضع السياسي بامتلاك حق “الفيتو”، أم وقعت ضحيّة “تشاطر اللبنانيين وشعاراتهم”؟ لا أحد يعرف الجواب. لكن ما يعرفه الجميع هو أن فريق 14 آذار لم يكن على المستوى المطلوب للمواجهة السياسية في الدوحة بحيث يكتشف ما حيك في أكثر من عاصمة عربية وأُلبس للبنانيين في الاجتماع المشهور. ما يعرفه الجميع أيضاً هو أن قطر والمستفيدين من أفرقاء النزاع ممّا اتُفق عليه فيها اعتبروا “اتفاق الدوحة” جزءاً من “اتفاق الطائف” رغم عدم صحّة ذلك لأن الأخير لم يُعطِ أحداً من شعوب لبنان أو من أحزابه الطائفية والمذهبية حق “الفيتو”.
هل من جديد في العلاقة بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” الحليفين منذ “تفاهم مار مخايل” في شباط 2006 بعد اختلافهما الواسع على من يُنهي الشغور الرئاسي، كما بعد إطاحة رئيس الثاني النائب جبران باسيل كل الحدود على هذا الصعيد، الأمر الذي جعل اللبنانيين يظنون أن أوان “الفِراق” بين الحليفين قد حان؟ تفيد معلومات متابعين لبنانيين جدّيين لـ”حزب الله” داخلاً وخارجاً أن العلاقة بين الحليفين مقطوعة أو بالأحرى شبه مقطوعة. وتعليمات قيادة “الحزب” في هذا الموضوع هي الآتية: “لا اتصال مع “التيار” ولا معايدة حتى الآن للرئيس السابق ميشال عون أو لباسيل”. وعندما يُسأل المسؤولون عن هذا الموضوع يقولون: “في وقت بعد عندنا كم يوم”. (قيل أخيراً إن وفيق صفا أحد القادة في “حزب الله” اتصل بباسيل وعايده). ومن التعليمات أيضاً “إذا جرى اتصال عوني بأحد من “الحزب” فإن عليه عدم التعليق على مضمون الاتصال بل إيصال الرسالة فوراً الى المعنيين داخله”. الى ذلك يعرف الجميع أن هناك قدرة عند “الحزب” على خفض عدد أعضاء الكتلة النيابية لـ”التيار” ورئيسه باسيل بحيث لا يبقى معه في النهاية إلا تسعة نواب أو عشرة. لا أحد يعرف ماذا يجري حتى الآن، يضيف المتابعون أنفسهم، واللبنانيون كلّهم ينتظرون ماذا سيقوله (أو قاله) الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله مساء أمس الجمعة.