رلى إبراهيم – الأخبار
استنفر سفراء عدد كبير من الدول التي صدعت رؤوس اللبنانيين بشعارات الشفافية للحؤول دون محاسبة موظف رسمي لبناني تجاوز صلاحياته وتدور شبهات حول عمله. رئيس التفتيش المركزي جورج عطيّة استقدم «جيشاً» من السفراء الى السرايا لتغطية تجاوزاته.
كل شعارات «الإصلاحات» و«الشفافية» و«الحوكمة» وما لفّ لفّها، رماها سفراء دول غربية في لبنان وراءهم كرمى لعيون رئيس التفتيش المركزي جورج عطية. بطريقة مهينة لمؤسسات الدولة، وبتجاوز فاضح لكل أسس التعامل الدبلوماسي والبروتوكولات الدولية، «لمّ» سفراء بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وهولندا وألمانيا واليابان بعضهم بعضاً، وقصدوا السرايا الحكومية للضغط على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من أجل إصدار بيان يدعم، بالاسم، رئيس التفتيش الذي حوّله رئيس الحكومة إلى ديوان المحاسبة. هذا «الإنزال» الدولي في السرايا جاء بعد إصدار الديوان تقريراً مفصّلاً حول تجاوزات رئيس التفتيش، من مخالفته أصول عقد مذكرات التفاهم الدولية، الى قبول هبة مالية من السفارة البريطانية من دون التصريح عنها وعن آلية صرفها، مروراً بخلطه بين المهام الرقابية والتنفيذية عبر إدارة منصّة Impact وكشفه داتا اللبنانيين أمام مؤسسات دولية حكومية وغير حكومية.
التقرير لم يدفع عطية إلى تصحيح الخطأ واتباع الأصول القانونية، رغم أنه قاضٍ ورئيس جهاز رقابي، بل عمد إلى استدعاء «قوات متعددة الجنسيات» إلى القصر الحكومي للضغط على رئيس الحكومة لتبرئة ذمته وذمة السفارة البريطانية المتورطة معه في التجاوزات. وبحسب أحد من حضروا اللقاء، الثلاثاء الماضي، فقد أثار سلوك السفراء غضب ميقاتي، وخصوصاً بعد إصرارهم على إصدار رئيس الحكومة بياناً خلال وجودهم في السرايا يثني على عطيّة وعلى حسن عمل السفارة البريطانية ومنصّة Impact. انتهت الزيارة من دون صدور البيان. لكن، بحسب معلومات «الأخبار»، واصل السفراء في اليومين الماضيين ضغوطهم على رئيس الحكومة لإصدار البيان، ملوّحين بوقف دعم البنك الدولي لـ 75 ألف عائلة ووضع رئاسة الحكومة في مواجهة الناس. وقد أدّت الضغوط إلى الاتفاق على صيغة بيان وزّعته السفارة البريطانية أمس، وجاء فيه «نحن سفراء المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وألمانيا وهولندا ونائب سفير اليابان، التقينا دولة الرئيس نجيب ميقاتي في 7 آذار 2023 واتفقنا جميعاً ودولة الرئيس على دعمنا المستمر للشفافية والمساءلة في لبنان. كما أكدنا دعمنا الجماعي للمنصّة الرقابية (IMPACT) تحت إشراف التفتيش المركزي»، مشيداً بـ«عمل المنصة الرائد والأول من نوعه في لبنان».
بيان الدفاع عن عطيّة خطّته السفيرة الأميركية
وأضاف: «اتفقنا على أن التفتيش المركزي له دور أساسي في دعم ممارسات الحوكمة وضمان الامتثال للقوانين والأحكام في جميع المؤسسات الحكومية. ورفضنا مزاعم وسائل الإعلام المضلّلة التي تستهدف دعم المملكة المتحدة في لبنان، ورحّبنا بالدعم الذي مكّن من تطوير وتنفيذ منصة رقابية (IMPACT) ناجحة (…) كما وافق دولة رئيس مجلس الوزراء على دعم المملكة المتحدة للتفتيش المركزي من خلال التصديق على مذكرة التفاهم حسب الأحكام اللبنانية».
وبحسب المعلومات، فإن ميقاتي أصرّ على عبارة «حسب الأحكام اللبنانية» ما يعني الاستمرار بإدانة عطية وإخضاع المذكرة للأصول القانونية كما أوصى ديوان المحاسبة، لا بالطريقة التي وقّعها رئيس التفتيش وسفير بريطانيا إيان كولارد بشكل منفرد ومن دون المرور بالوزارة المعنية وبمجلس الوزراء. وكذلك التصريح عن هبة الـ 3 ملايين دولار التي قدمتها الحكومة البريطانية وعن طريقة صرفها قبل تسوية هذه المخالفات. وبحسب المعلومات، فإن البيان خطّته السفيرة الأميركية بنفسها، في حين أن حضور سفيرَيْ هولندا وألمانيا الى جانب سفير بريطانيا يأتي ضمن إطار دعم الأخير، ولا سيّما أن المؤسسة البريطانية غير الحكومة Siren التي كلّفتها السفارة البريطانية التنسيق مع التفتيش استضافت داتا اللبنانيين على خوادم أجنبية تم استئجارها في هولندا وألمانيا. وهو ما أكده تقرير الأمن العام، لافتاً الى أنه «ليس معروفاً من له حقّ الولوج والتحكم بتلك الخوادم وسحب البيانات منها. إضافة الى عدم وجود ضمانات تقنية وأمنية تؤكد عدم اختراق تلك البيانات من قبل جهات معادية، إن عبر قرصنتها وسرقة نسخة عنها أو عبر تعديلها والعبث بها».
كما كان حضور سفير كندا ونائب سفير اليابان لزيادة الضغط على رئيس الحكومة. في المحصّلة، ثمة قاضٍ برتبة رئيس جهاز رقابي يفترض أن يكون مؤتمناً على تطبيق القانون ومساءلة المخالفين والفاسدين، يمعن في تجاوز ويستقدم السفارات الأجنبية لتغطية تجاوزاته وتجاوزاتها بالابتزاز والتهديد والوعيد. حتى يكاد يبدو وكأن «الريّس» بات موظفاً لدى السفارات وينفذ أجندات السفراء، ويدير منصة لحساب السفارة البريطانية، تحتوي على كل داتا اللبنانيين وأرقام سياراتهم وحساباتهم المصرفية وعدد أفراد أسرهم وعدد غرف منازلهم ويعتمد «المحاباة» والاستنسابية على ما ورد في كتاب رئيس الحكومة نفسه… كل ذلك مقابل فتات البنك الدولي.
مخالفات التفتيش وتجاوزاته
رئيس التفتيش المركزي جورج عطية يُراقِب ولا يُراقَب، لذلك رفض طلب ديوان المحاسبة استصراحه بحجة أن لديه حصانة مطلقة. وقد تبين أن وراء هذه الحصانة، مجموعة مخالفات وتجاوزات لكل الأصول والقوانين تدين رئيس التفتيش الذي يفترض أن يحرص على حسن عمل المؤسسات العامة لا أن يرتكب ما يدينه ويشكك في عمله. بدأت القصة منذ نحو ٣ سنوات، تاريخ إنشاء منصة impact، حين وقع عطيّة مذكرة تفاهم مع السفير البريطاني بشكل منفرد ومن دون العودة الى أيٍّ من وزارتَي الخارجية والعدل ولا الى مجلس الوزراء. وتعهد في هذه المذكرة تنفيذ أوامر مؤسسة بريطانية غير حكومية تدعى siren انتدبتها السفارة البريطانية لتعمل لمصلحتها تحت عنوان «تعزيز الحوكمة والشفافية». وقد تضمّن العقد هبة مالية بقيمة ٣ ملايين دولار، صُرفت من دون أن يصرّح عنها رئيس التفتيش ضمن الأطر القانونية، وهو رفض طلب وزير المالية وديوان المحاسبة الإفصاح عن كيفية صرفها. هذه التجاوزات إضافة الى مجموعة بنود خطّها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في كتابه المرسل الى الديوان بتاريخ 1 آب ٢٠٢٢ وأبرزها تولي التفتيش التحكّم بمنصة Impact، على رغم تحديد مهامه قانوناً بالرقابة والإشراف على عمل هذه المنصة فقط؛ وما وصفه ميقاتي بـ«التلاعب والمحاباة في اختيار المستفيدين من شبكة الأمان الاجتماعي»، وبالمسّ بأمن المواطنين وخصوصيتهم بعدما تبيّن لضباط الأجهزة الأمنية أن منصة Impact تحتوي على معلومات حساسة وسرية تتعلق باللبنانيين، وأن الفريق التقني في التفتيش المركزي لا يملك قدرة على إدارة المشروع بكل جوانبه، ولا سيما أنه قد تم إدخال الداتا وحفظها على خوادم خارج لبنان. فيما رفض عطية الاستجابة لطلب الأجهزة الأمنية الاطّلاع على المنصة، وتمّ السماح فقط لموظفي Siren بالوصول إلى قاعدة البيانات الخاصة. لذلك أحالت رئاسة الحكومة ملف التجاوزات إلى ديوان المحاسبة، وصدر تقرير مفصل من الديوان الشهر الماضي يوثق كل المخالفات والتجاوزات بالتفصيل ويوصي رئيس التفتيش بالتقيد بالقوانين، وبالتوسع في التحقيق في عدة نقاط؛ أبرزها الجزء الذي يتعلق بأمن المواطنين.