إبراهيم الأمين – الأخبار
فوجئ كثيرون، في المنطقة والعالم، بالبيان الختامي للمحادثات السعودية – الإيرانية برعاية صينية. البعض لم يكن على علم بأصل التفاوض الجاري منذ مدة غير قصيرة، وفوجئ باتفاق سيُعمل على تنفيذه خلال أسابيع. فيما يتصرف آخرون بشيء من الخشية من أن يحمل الاتفاق مفاجآت ليست في الحسبان، ومتناقضة مع السياسات التي كانت تعتمدها السعودية خصوصاً.
أهمية الاتفاق بين البلدين أنهما يمثلان مركز الصراع على ملفات المنطقة، وأن الطابع التنافسي طغى دائماً على علاقاتهما حتى عندما كانت في أفضل أحوالها. وهو امر تعزز بعد سقوط نظام صدام حسين، وتغييرات المشهد اللبناني بعد اغتيال رفيق الحريري، والتطورات التي عصفت بكثير من الدول بعد 2011. وقد تواجه الطرفان بشراسة في ساحات عدة، من العراق إلى سوريا والبحرين واليمن وصولاً إلى لبنان وفلسطين، وزاد الوضع تعقيداً بينهما إثر تولي محمد بن سلمان السلطة الفعلية في السعودية.
من الأفضل العودة إلى أهداف كل طرف كي تكون مراقبة الاتفاق أكثر واقعية، وحتى لا يذهب أحد بعيداً في التحليلات أو التمنيات، خصوصاً أن مسائل كثيرة عالقة في المنطقة يعتقد كثيرون أن حلها رهن اتفاق البلدين. وهذا تقدير خاطئ، ليس لعدم رغبة الطرفين في المساعدة على فضّ النزاعات، بل لكون الأطراف الأخرى، الإقليمية والدولية، تملك من القوة والنفوذ ما يمكّنها من عرقلة التفاهم، وتفجير ساحات كثيرة، وصولاً إلى تفجير الاتفاق نفسه.
منذ تولي آل سلمان الحكم في السعودية وإمساكهم بمفاصل القرار فيها، تصرّفت الرياض كطرف قادر على المبادرة إلى خطوات كبيرة تعزز نفوذها في المنطقة. وهي قبل أن تشن حربها المدمرة ضد اليمن، شاركت بفعالية في تعزيز الاختلال الأمني والسياسي والاقتصادي في العراق، وفعلت الأمر نفسه في سوريا عندما انخرطت في معركة إطاحة النظام، كما لعبت دوراً كبيراً في الانقلاب الذي قاده الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر. وكذلك الحال في فلسطين. فإلى البرودة التي سادت علاقتها بالأردن والسلطة الفلسطينية، قادت السعودية معركة قاسية ضد ابرز قوتين في المقاومة، معتبرة ان حماس تمثل امتداداً لحركة الإخوان المسلمين، وتصرفت مع الثانية على أنها ذراع إيرانية. وفي البيت الخليجي، قبضت الرياض على مركز القرار في البحرين مانعة أي مصالحة وطنية، وعاقبت قطر وحاصرتها، وكبّلت حكام الإمارات والكويت، وحاولت مراراً فرض ضغوط على سلطنة عمان. وتمثّلت ذروة هذه السياسة في حرب وحشية وعبثية ضد الشعب اليمني، قامت على حسابات خاطئة من كل النواحي، وأدركت السعودية بنتيجتها أن الولايات المتحدة والغرب الأوروبي لن يتوليا هذه المهمة عنها.
مطالب وهواجس سعودية
بعد كل ما حصل، تريد السعودية تحقيق الآتي:
أولاً، توازن فعلي مع الدور الإيراني في العالم العربي، وتوازن أكثر فعالية على صعيد إدارة ملف التدفق النفطي عبر الممرات البحرية.
ثانياً، الخروج بمكاسب من حرب اليمن، من خلال اعتبار إيران طرفاً يمكنه المساعدة على تحقيق تسوية تجعل السعودية طرفاً رابحاً أمام الحوثيين وبقية الأطراف اليمنية.
ثالثاً، تفاهم يعطي الرياض حق الفيتو في العراق، من خلال تفاهم مع السلطات العراقية، وليس عبر نفوذ المملكة على بعض القوى والشخصيات العراقية.
رابعاً، عقد مصالحة مع الدولة السورية، مع محاولة لجعل دمشق أقرب إلى السعودية، سواء في ملف اليمن، أوفي الموقف من حركات الإخوان المسلمين وقوى المقاومة، باعتبار أن ذلك سيؤدي حكماً إلى إضعاف نفوذ إيران في سوريا، وتالياً في لبنان وفلسطين.
خامساً، التوقف عن لعب دور الثري الذي تُفرض عليه خوات في لبنان وفلسطين ومناطق أخرى. السعوديون مستعدون لإنفاق الكثير، لكنهم يريدون مقابلاً واضحاً، وهم أعطوا من يسعى إلى التحالف معهم درساً من خلال طريقة تعاملهم مع ابنهم «المدلل» سعد الحريري.
سادساً، تريد السعودية أن تثبت للغرب، وللإدارة الأميركية الحالية خصوصاً، أنها لم تعد البلد الذي لا يحرك ساكناً من دون موافقة أميركية، وأنها تجيد قراءة المتغيرات العالمية، وتريد انتزاع هامش حقيقي في السياسة والأمن والاقتصاد، من خلال طريقة تعامل مختلفة مع الأطراف الدولية المؤثرة، وفي مقدمها الصين.
على هامش هذه المطالب الجوهرية، يمكن إيراد كثير من النقاط التي يجري تقديمها كمواد سجالية يومية، من نوع أن تكبح إيران جماح حكومات وقوى محور المقاومة، وأن تضغط لإسكات قوى بارزة من أنصار الله في اليمن إلى حزب الله في لبنان إلى قوى المقاومة في فلسطين. كما يمكن، أيضاً، طرح الكثير من العناوين التفصيلية، من بينها مثلاً ملف الانتخابات الرئاسية في لبنان.
*الاسد وضع استراتيجية تمنع ابتزازه: علاقات ثنائية ومصالحات موضعية مع العرب*
… ومطالب وهواجس إيرانية
أما من جهة طهران، فإن الأمور واضحة أيضاً، وتتمثل في الآتي:
أولاً، كسر العزلة المفروضة على إيران بسبب السياسات الأميركية التي تنصاع لها دول كثيرة في المنطقة من بينها السعودية، وألا يكون هذا الكسر سياسياً فقط، بل اقتصادياً أيضاً. وهي ترى في السعودية دولة كبيرة في الإقليم، لها قدراتها الكبيرة، بما يساعد طهران في تحقيق هذا الهدف.
ثانياً، احتواء الحملة التي تصوّر الجمهورية الإسلامية رأس حربة في معركة شيعية ضد السنة في العالم الإسلامي. وهي تدرك أن للسعودية دورها الكبير في هذا السياق، خصوصاً بعد الوهن الذي أصاب مصر من جهة، وتراجع قوة الإخوان المسلمين في المنطقة، وبعد تطبيع العلاقات بين دول وقوى عربية وإسلامية مع إسرائيل.
ثالثاً، تسعى إيران إلى عزل برنامجها النووي عن أي ملفات أخرى تتعلق بعلاقاتها مع دول الجوار. وهي أكّدت دائماً للسعودية وغيرها، واستعانت بأطراف عدة من بينها الصين، لتوضيح أن برنامجها النووي وبرامجها للصواريخ الباليستية لا تستهدف دول الجوار وفق الدعاية التي يروّجها الغرب.
رابعاً، تريد إيران تحقيق استقرار مستدام في منطقة الخليج، وهو أمر يحتاج إلى تسوية واقعية مع السعودية، تمكّنها من إشهار وتطوير علاقاتها الجدية مع بقية دول الخليج. كما تدرك طهران أن الرياض قادرة، بقوة، على المساعدة في تحقيق استقرار جدي في العراق وسوريا، وحتى في ساحات حليفة لها، كلبنان وفلسطين.
خامساً، تهتم إيران ايضا، بتطويق التدخل السعودي في شؤونها الداخلية. خلال جلسات التفاوض، عرض الإيرانيون على نظرائهم السعوديين الأدلة التي تثبت تورط السعودية استخباراتياً وتمويلياً وإعلامياً في الأحداث التي تشهدها إيران بين فترة وأخرى. علماً أن طهران تتفادى حمل هذا القميص علناً، كما تفعل الرياض بالحديث عن تدخل إيران في شؤون دول المنطقة، وهي لا تريد مساعدة السعودية أو غيرها في معالجة مشاكلها الداخلية، بقدر ما تريد من هذه الأطراف عدم التورط في مثل هذه الأحداث، لأنه سيكون لهذا التدخل ثمنه الكبير مع الوقت.
سادساً، تعتقد إيران أن لتطوير العلاقات مع السعودية تأثيراً كبيراً على النفوذ الأميركي في المنطقة، ويمكن أن يؤخر – أو ربما يعطل – المساعي لضم السعودية إلى برنامج التطبيع مع العدو، وهي تراهن على أن ابتعاد الرياض عن مشاريع التطبيع سيكون له أثره على الدول التي انخرطت في هذه المشاريع، وتشعر اليوم بأنها لم تجنِ أي مكاسب منها.
أي نتائج متوقعة؟
من خارج الدولتين، ثمة حسابات ورهانات وتوقعات تتعلق بتداعيات الاتفاق على ملفات المنطقة. وفي هذا المجال، يبدو واضحاً من معطيات وصلت الى جهات معنية، بأن ايران لم تدر ظهرها لمطلب المساعدة في معالجة ملف اليمن. لكن ما لا يعرفه كثيرون، هو انه خلال جولات التفاوض المباشر بين السعوديين وأنصار الله، سواء في صنعاء والرياض او تلك التي تحصل برعاية مسقط، باتت السعودية تدرك الهامش الضيق الذي يمكن لايران ان تتحرك فيه في اليمن، وأنه لا يمكنها ان تفرض على انصار الله خيارات تتناقض مع رؤيتهم. ولذلك سارعت الى عرض مشروع اتفاق يسمح لصنعاء السير قدما في مشروع حل. وفي هذا السياق، فقط، يصبح لايران دور جدي في تعجيل الامر.
أما في سوريا، فلم تبادر ايران أساساً الى حض دمشق أو منعها من اعادة التواصل مع أحد. لكن الرئيس بشار الاسد نفسه، وهو من له مصلحة باعادة الحرارة الى علاقات بلاده مع كل العالم، وضع استراتيجية تهدف، أولاً، إلى تعطيل اي محاولة لابتزازه. ولذلك، لا يبدي حماسة كبيرة للعودة الى جامعة الدول العربية، ولا يطرح الامر كحاجة ملحة. لا بل ان الاسد الذي يعرف تماماً محدودية تأثير الجامعة، يفضل السعي الى علاقات ثنائية ذات فعالية مع الدول العربية البارزة. وهو قادر على صياغة علاقات قوية مع السعودية ومصر والاردن والامارات، من دون ان يضطر الى علاقات مع قطر ودول اخرى تورطت بقوة في الحرب ضده. أضف إلى ذلك أنه يرغب في اعادة تنظيم العلاقات الثنائية، من دون رهن ذلك بطلبات منه في ملفات اخرى. فهو لا يجد نفسه معنياً بموقف يناسب السعودية في اليمن، ولن يقبل نقاشا حول حزب الله في لبنان. وحتى في ملف الاخوان المسلمين الذين خاض معهم حرباً شرسة، فإنه يميز أولوية الملف الفلسطيني. فهو لم يقبل مصالحة حماس ليحوّلها ورقة مساومة مع الاخرين. أما في العراق، فيرى الاسد نفسه طرفاً معنياً لا طرفا ثانوياً، وكذلك الأمر في لبنان، لكنه لا يجد نفسه مضطراً الآن لتحمل هذا العبء فيما اولويته اعادة اعمار سوريا وتنظيم موقعها في المنطقة.
وعليه، فان من ينتظر من اتفاق بكين نتيجة مباشرة على صعيد المعركة الرئاسية في لبنان، يكون قد قرأ بصورة خاطئة الاتفاق. لا السعودية ستغيّر موقفها الآن، ولا ايران تعتقد ان عليها الضغط على حلفائها في لبنان. وبالتالي، فان الخطوة المنتظرة تتعلق بمراجعة مرتقبة من الرياض لكل ما قامت به في لبنان طوال عقود عدة، وخصوصا في العقد الاخير.