لطالما أخذت الأزمات اللبنانية السياسية والاقتصادية منها حيزاً كبيراً من حياة واهتمامات المواطن. فأصبحت الشؤون الاجتماعية، كقضايا الطلاق والحضانة والتحرش… أموراً ثانوية وفي آخر سلّم اهتمامات الناس.
فما مصير تلك القضايا مع تراجع دور الدولة وارتفاع ذروة التفلّت؟
مع كثرة الأزمات والمشكلات التي حلّت على لبنان، تراجع دور الدولة بشكلٍ كبيرٍ، حيث صعب عليها الإلمام بكل جوانب حياة المواطن.
ففي الجانب الأول هرجٌ ومرجٌ حول سعر صرف الدولار، وأزمة شغور المنصب الرئاسي…
أما الجانب الثاني، والذي لا تراه إلا قلّة، هو التفلّت الأمني الذي يهدّد حياة المواطن اللبناني، ويضع النساء تحديداً بخطرٍ. فالتحرش والاغتصاب أصبحا في الشوارع وعلى الطرقات. ناهيك عن العنف والسلاح غير الشرعي والخطف وما إلى هنالك.
عرف المجتمع اللبناني بالعقلية الشرقية الذكورية التي شرعت له بتلبية رغباته ولو بالقوة. فأصبح محرمٌ على المرأة، فتاة صغيرة كانت أم كبيرة، أن تخرج ليلاً وحدها.
حتّى لاحقها الخوف في النهار، على الطرقات، في مواقف السيارات، وفي متاجر التسوق أيضاً. فانعدم الأمان وانعدمت معه حرية النساء واستقلاليتهن، حيث تقيّدن بأفكار الخوف الدائم، وأصبحن مجبرات على امتلاك أيّة آلة حادّة تساعدهن على الدفاع عن أنفسهن، ولا شك أن أغلبهن أصبحن لا يخرجن دون رجل إلى جانبهن.
تقول مقولة عربية عامية تهدف إلى التوعية بطريقة لافتة، بأننا نحارب التحرش لأنه جريمة، وليس لأن المرأة هي أمك أو أختك أو أنثى رقيقة مكسورة الجانح، تنتظر الفارس الشجاع لإنقاذها.
كانت الثقة بالقضاء اللبناني كبيرة، وكان القانون مرجعنا الأوّل والأساسي لاستنباط حقنا. لكن القانون هذا لم يوفر مرّة إلا ويخذل بها النساء الضحايا. فالقانون اللبناني ينص على تجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه. ويضع فترة محددة لكي يحاكم المجرم في الحبس بالإضافة إلى دفع غرامة مالية معينة.
وهكذا يعتبر القضاء اللبناني أن حق الضحية قد أُخذ، والمجرم لُقّن درساً، وأنه عمل على محاربة التحرش الجنسي والعنف. لكن دولياً هذا القانون لا يستوفي الشروط والمعايير الدولية بتاتاً، لأنه لا يتضمن خطة إصلاح محكمة وتدابير وقائية تضمن أمان نساء أخريات، فعلى الحكومة اللبنانية الموافقة على اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرّش، وتطبيقها.
فالتحرش الجنسي لا يقتصر فقط على التحرش المباشر والذي يمكن أن يؤدي إلى الاغتصاب. لكن للتحرش وجوهاً عديدة، فيمكن أن يكون بالقول أو بالفعل، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية التي تؤدي إلى الابتزاز حيث تقع ضحيته كثيرات ويصنف تحت تسمية جرائم المعلوماتية التي يتولّى معالجتها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي. وفي أي حال هو انتهاك للجسد والخصوصية والمشاعر، ويؤدي إلى دخول الضحية في حالات نفسية صعبة وخوف من كل ما يمكن أن تواجهه في المستقبل.
نعم، هذا كابوسٌ حدوده واسعةٌ جداً، وأصبحت أخبار جرائم التحرش الجنسي والاغتصاب سهلةً على سمع اللبناني الذي اعتاد عليها وأصبح يعتبرها طبيعية ولا مفر منها. وأصبح يبررها باتهامات موجهة إلى المرأة مباشرة ينتقد بها أسلوب لباسها أو تصرفاتها أو كلامها. أو ينسب الحجة للمجرم ويعطيه التبرير بأن الظروف الاقتصادية والضغوطات النفسية والكبت الجنسي قد تدفعه جميعها للقيام بهذا العمل وأنه لا يُلام ولا يجب تحميل الموضوع أكثر من ذلك.
في لبنان أصبحت هذه الظاهرة منتشرة في كل المناطق وتطال كل المستويات والأعمار والأجناس حتى الجنسيات. فالجمعيات والمؤسسات تلعب دوراً مهماً في القضاء على التحرش والاعتداء الجنسي والاغتصاب. فتقوم بحملات عامة بهدف التوعية ولكسر المحظورات التي يمنع التحدث عنها في المجتمع وعلناً. بالاضافة إلى حملات التبرع التي تقوم بها هذه الجمعيات للاستفادة منها بدعم النساء الضحايا وإعادة تأهيلهن بكافة الطرق والأشكال الممكنة.
لكن الخوف من المجتمع وحكمه وهرباً من العار تدخل الضحايا في مأزق عدم التبليغ وعدم التحدث عن تجربتهن. فالإحصاءات تقول بان 75% من الأشخاص يعتبرون أن الاعتداء الجنسي هو اعتداء جسديٌّ ونفسيٌّ، و71% يعتبرونه اعتداءً على شرف وعرض العائلة بأكملها. فهذه الأرقام كلها تفيد بأن الاعتداء الجنسي لايزال يخضع إلى نظرة المجتمع الظالمة.
تجدر الاشارة إلى أن الضحايا يمكن أن تكون نساء أم فتيات صغيرات أم حتى ذكوراً.
ومكان التحرش الأكثر معرفة هو في مكان العمل، بين رب العمل وموظفاته حيث يحتمي المجرم بمنصبه ويجبر الضحية على التزام الصمت وإلا خسرت عملها. فلا يمكن اعتبار أن قانون التحرش فقط هو غير العادل، لاسيما قانون العمل أيضاً الذي لا ينصف المرأة ولا يصب في مصلحتها، وبالأخص النساء الأجنبيات العاملات بلا وصاية أو كفالة يتعرضن يومياً لحالات اعتداءٍ جنسيٍ من قبل رب البيت أو العمل.
بقدر ما يزيد الوعي التربوي والثقافي والاجتماعي في مجتمع تفتك به أمراضٍ وعقد نفسيةٍ، بقدر ما تتقلّص معدلات التحرّش من الناحية النظرية.
أما عملياً، فبالنسبة للمجرم مهما علا شأنه ومنصبه إلا أن غريزته أقوى بكثيرٍ من قدرته
على التحكم برغباته. فيبقى القانون إذاً الرادع الأمثل مهما ضعفت إمكانياته، ويمكن أن نسأل هنا من هو المسؤول عن انتشار التحرش الجنسي في المجتمع اللبناني؟
المصدر : النهار