لا يمكن فهم السياسة الأمريكية تجاه العديد من الساحات من دون وضع المتغيرات الإقليمية والدولية على الطاولة. فعلى الصعيد الدولي، ما قبل الحرب الأوكرانية ليس كما بعدها؛ وعلى الصعيد الإقليمي، ما قبل الاتفاق السعودي الإيراني ليس كما بعده، خصوصًا أنه برعاية صينية والتي يزداد نشاطها في المنطقة. من هنا لا بد من فهم أحداث السودان ضمن هذا السياق، وفهم سياسة الولايات المتحدة بالخصوص.
في هذا الصدد، أصدر مركز دراسات غرب آسيا مفهومًا تحت عنوان “تشكيل بيئة النزاع في السودان” للمساعدة على فهم تحركات الولايات الأمريكية في الساحة السودانية، إذ يشير هذا المفهوم إلى عملية إدارة وتشكيل وتوجيه النزاع الحاصل في ساحة معينة من خلال بيئته العامة وعناصره الأساسية من دون الدخول في العناصر المباشرة بالصراع والتنافس. ولهذه السياسة خاصيتها لناحية الكلفة، ومشروعية التحرك، وضمان تحقيق الأهداف. من هنا سنسعى للإشارة إلى أساسيات تشكيل بيئة النزاع وتطبيقه على الحالة السودانية، على أن المعالجة الأوسع للمفهوم قد بُحث سابقًا في الحالة العراقية.
المبادئ العامة لإدارة بيئة النزاع:
إن إدارة بيئة النزاع مرحلة يبذل فيها المؤثر الأساسي الجهود للمحافظة على مرحلة وسطية، بمعنى يمنع طرح الحلول الجذرية، كما يمنع تطور النزاع من الوصول إلى مواجهة مباشرة أو صدام بين الأطراف. أما إيجابيات هذه السياسة فهي تتجلى بـالتالي: كلفة أقل، عدم وجود بصمة مباشرة، خسائر أقل. ولهذا النهج مبادئ أساسية، تحكم كل الخطوات والسياسات التي يمكن أن يقوم بها الفاعل، هذه المبادئ هي:
– أولاً لا يتدخل “المُشكّل” في النزاع القائم مباشرةً ولا في عناصره ومشكّلاته المباشرة.
– ثانيًا لابد من التمييز بين الذين لديهم القدرة على تشكيل وصياغة بيئة النزاع، وبين الذين يتفاعلون فيها ويؤثرون بها.
– ثالثًا من الضروري تحديد نطاق التأثير التي يمكن أن تحدثه تشكيل بيئة النزاع وإدارتها في نفس النزاع.
الدوافع الأمريكية لاتباع هذه السياسة:
يسعى الأمريكي في سياساته الحالية، وبعد تكبده خسائر عالية في العراق وأفغانستان مثلاً إلى تغيير أسلوبه في الدخول إلى الدول، إذ إنه يدخل من خلال بيئة الفوضى بصيغة أمن واستقرار وليس بصيغة محتل، لكنه يسعى من خلال هذه الصفة المستجدة أن يديم الصراع والنزاع القائم لإدامة نفوذه وتعزيزه في الساحة المستهدفة. أما الاهتمام الأمريكي على مستوى السودان فإنه يمكن تلخيصه بالتالي:
– السعي لتفكيك الجيش السوداني الأمر الذي سيؤدي تلقائيا إلى تقسيم السودان، وهو هدف أمريكي صهيوني.
– تطوير الحضور العسكري الأمريكي الإسرائيلي للتأثير على التوازنات في البحر الأحمر.
– السعي لتعويض التراجع الأمريكي في منطقة غرب آسيا، خصوصًا بعد الاتفاق السعودي الإيراني.
– محاصرة النفوذ الصيني والروسي المتزايد في أفريقيا عمومًا.
الإجراءات الأساسية لتشكيل بيئة النزاع:
أما الإجراءات الأساسية في تشكيل وإدارة بيئة النزاع التي تعمل الولايات الأمريكية على تنشيطها في الساحة السودانية:
– تحفيز بيئة النزاعات:
إن إبقاء بيئة النزاع متوترة وغير مستقرة أمر أساسي للحيلولة دون حصول أي استقرار أو حل للمشكلة. ولتحقيق هذا الأمر فإن الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً امتنعت عن اتخاذ بعض الإجراءات التي من شأنها تقويض الصراع والحدّ من تطوره، فمثلاً بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية يرون أن عدم اتخاذ عقوبات أساسية تجاه بعض الأطراف يديم الصراع والنزاعات، خصوصًا بعد الانقلاب الذي حدث عام 2021.
– الدعاية السلبية والتحريض:
لن تكون الدعاية السلبية والتحريض بشكل مباشر في ساحة معقّدة كالساحة السودانية، خصوصًا مع تنوع الأطراف وتعقيد التركيبة الاجتماعية فيه، لذا فإن الخطاب الموجه تجاه السودان، يعمل على ما يسميه البعض بـ “صياغة العقل العام” للمجتمع المُستهدف، وذلك من خلال السيطرة على المفاهيم الخاصة فيه، وإثارة الانشقاقات فيه.
من هنا يمكن فهم الدعم الإعلامي المقدّم للطرفين، خصوصًا أن هذه الوسيلة تعمل على توجيه الأحزاب السياسية من خلال استثارة عواطف وغرائز جماهير هذا الحزب أو ذاك.
– تعديل التمثيل والأحجام:
من القواعد الأساسية التي تديم بيئة النزاع على إشكالياتها هو إثارة قضية التمثيل والأحجام، وهنا يبرز الحديث عن المقارنة ما بين قوات البرهان وحميدتي وانتشار كل منهما والمدن التي يسيطرون عليها، الأمر الذي يرسل رسالة إلى الطرفين أن من يسيطر أكثر ويحقق تقدمًا على أرض الميدان، ستعزز فرصه في المجال السياسي وفي علاقته مع الدول الخارجية. هذا الأمر بطبيعة الحال سيُترجم في إدامة الاقتتال لتحقيق انتصار حاسم في الميدان.
– تعطيل عمليات بناء الثقة:
تبرز هذه الخطوة على أنها خطوة تعطيلية، بمعنى أنها تعطّل أي مسار من الممكن أن يؤدي إلى الخروج من النزاع إلى الحل. تقوم هذه الخطوة على منع تبلور البيئة التي يمكن أن تؤدي إلى بناء الثقة (حدث أمني، تسريبات صوتية، نبش الماضي…)، أو تعطيل أي مساعٍ مباشرة للخروج من الأزمة.
– التحكم بالوساطات والوسطاء:
تشير العديد من المقالات وآراء الخبراء على أن الفاعل الأكثر تأثيرًا في الساحة السودانية هو الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تؤثر بشكل مباشر أو من خلال وسطاء سواء “مصر، أم الإمارات، أم السعودية”.
لذا قد تستغل الولايات المتحدة موقعيتها هذه لإطالة أمد الأزمة والتحكم بمسارها عبر زعزعة الثقة بين الأطراف وتصوير الأزمة على أنها أزمة بنيوية ومعقّدة وبالتالي يصعب احتوائها.
موقعية الوسيط في حل الأزمة يعطي المُشكّل جهة إشراف على الأطراف وسلطة معنوية عليهم، وبالتالي على صياغة المناخ العام لمسار المفاوضات. خصوصًا أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها اتصال مع طرفي الأزمة في السودان.
– توظيف الوكلاء في إدامة النزاع:
تمتلك الولايات المتحدة الـتأثير في الساحة السودانية وعلى أطراف النزاع، وهي إضافةً لذلك لديها حلفاء/وكلاء على مستوى المنطقة تشكّل مفاتيح في الأزمة السودانية يمكن من خلالهم تنفيذ والتأثير على مجريات الأحداث، وهذا الأمر يعطيها هامشًا أوسع من التحرك وعدم تحمل المسؤولية.
سياسات عملية لتشكيل بيئة النزاع:
– المحافظة (سواء من قبل الطرف الذي يدير بيئة النزاع أم أطراف النزاع) على اتصال مع مختلف الأطراف، وعدم تحويل أي خصم إلى عدو مباشر. إذ إن المحافظة على اتصال مع الجميع يمنع من تدهور النزاع ووصوله إلى الصدام المباشر، هذا الأمر يمنع الجهة التي تدير بيئة النزاع من أن تتحول إلى طرف مباشر في النزاع. وما يمكن ملاحظته في سياسة أميركا تجاه الفاعلين أنها تحافظ على اتصالها مع مختلف الأطراف في السودان.
– تشخيص الأسباب الجوهرية للمشكلة، وفصلها عن تداعيتها وآثارها. وتوجيه أطراف النزاع للعمل على معالجة الآثار والتداعيات دون الأسباب الجوهرية للمشكلة، وذلك باستخدام وسائل وطرق عديدة منها (تضخيم الأسباب والكلفة الباهظة في معالجتها وغيرها)
– امتلاك أوراق ضغط على مختلف الأطراف منعًا من أي خطوة تصعيدية يمكن أن يقوم بها هذا الطرف، على ألا يتم توظيف هذه الأوراق بشكل دائم، تجنبًا من سعي الطرف المقابل لتطوير أساليب ردع أو تفريغ لأوراق الضغط التي كان يمتلكها مشكّل بيئة النزاع.
– كثير من الإجراءات التي سبق ذكرها إنما يجب ومن الأساس أن تكون بطريقة غير مباشرة، ذلك أن من أساسيات إدارة وتشكيل بيئة النزاع هو ألا يكون هذه الجهة طرفًا مباشرًا في النزاع ذلك أنها ستفقد خاصية أساسية في نجاح الخطوات.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا