هيام القصيفي – الأخبار
ليس تعداد الأصوات السنية في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وحده معيار مراقبة الواقع السني. ما اختلف عن السنوات الماضية، ليس العدد، وهو نفسه، إنما الحضور السياسي في أول استحقاق فعلي في مسار الانتخابات الرئاسية. فقد تجلّت الارتجالية في واقع هذه القوى بعد ما أفرزته الانتخابات النيابية، وإلى حد كبير ما قبلها، تشرذماً وانكفاءً تدريجياً عن التأثير في القرار السياسي. لم تكن الأصوات السنية الـ27 حالة خاصة، بتوزّعها في صندوق الاقتراع، إلا لأنها شكّلت هاجساً للقوى السياسية المعارضة مع التيار الوطني الحر عشية الجلسة، مقابل ارتياح لدى الثنائي، فعكست حالة خطرة بالمفهوم السياسي والطائفي.
فما جرى في الجلسة تتمة لمسار تراجع تدريجي للقوة السنية في انتخابات رئاسة الجمهورية. منذ أشهر والتأثير مفقود، بالمعنى العملي، في صياغة قرار المشاركة الفعلية في انتخاب الرئيس. لا قبل الحرب ولا بعدها غابت القيادات السنية عن هذا الدور. وحديثاً، لم يكن الرئيس سعد الحريري، لمرتين، إلا حاضراً، سواء في اتفاق الدوحة رغم الحالة السلبية التي سبقته وأدّت إلى انتخاب الرئيس ميشال سليمان، أو مع تسوية الرئيس ميشال عون وكان مشاركاً في العمليتين الانتخابيتين. لكن خروج الحريري من الحياة السياسية نتيجة أداء فوضوي أنتج تفاهمات مع خصومه على حساب حلفائه، أدّى لاحقاً إلى ما جرى في الانتخابات النيابية من توزّع أصوات سنية في اتجاهات مختلفة. وتضافرت كل العوامل اللازمة لجعل هذه القوى تترنّح منذ أشهر، فلا يكون لها تأثير مباشر في قرار اختيار المرشح والاقتراع له. ما تبيّن بعد مشاورات الأيام الأخيرة، أن «التكتيك اليومي أطاح الاستراتيجية»، بحسب تعبير إحدى الشخصيات السياسية.
استبق الحريري الضغوط العربية، ولعب لعبته ونجح في تحويل قرار السعودية ترك الخيار للناخبين السنة في اختيار من يريدون وتحمّل مسؤوليتهم تبعاً لذلك، كما حصل عند انتخاب عون، ورقة رابحة في تحييد الصوت السني إلى حد تغييبه. لكنّ السؤال: كيف أمكن لهذه الشريحة من النواب الخروج من العباءة السعودية والعربية؟ ففي خريطة الأصوات السنية، بين مؤيدي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية وشعارات وأسماء مرشحين خارج الإطار التنافسي بين فرنجية والمرشح جهاد أزعور، نجح الثنائي، ومعه داعمون معروفون لفرنجية خارج الوسط السياسي، في كسب مجموعة أصوات سنية، بينها من هم موالون تقليديون له، وتحييد أصوات نواب سنة بين «تغييريين»، في مقدّمهم النائبة حليمة قعقور التي يعدّها فريق المعارضة أساساً مؤيدة لحزب الله، وتحرك نواب مستقلين كانوا أقرب إلى فريق المعارضة في السياسة العامة، فصار تصويتهم بالطريقة التي حصل فيها يوازي تصويتاً إلى جانب الثنائي. فيما عبّر النواب أشرف ريفي وفؤاد مخزومي وبلال حشيمي عن الاتجاه الآخر الأكثر التزاماً ليس فقط بتأييد مرشح المعارضة، بل بتكريس واقع الاتجاه العام الذي يسعى إلى تشكيل استمرارية للخط السني التقليدي. أما النواب «التغييريون» فحالة أخرى، قد يكون الأكثر تعبيراً عن تناقضاتها تصريحات النائب إبراهيم منيمنة.
استكمل الفريق السني إظهار حالة التخبط الذي بدأ يترك تأثيراته في الموقع الحكومي منذ حكومة الرئيس حسان دياب إلى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، متموضعاً إلى جانب الثنائي، حتى في موضوع التوقيت الصيفي والشتوي، بما يذكّر بتجارب التسليم بالثلث المعطل للثنائي في اتفاق الدوحة، ولاحقاً تطيير الحريري من حكومة الشراكة. مع ذلك، دافع الحريري مراراً عن هذا الاتجاه التسووي ولا سيما عندما عاد بعد سنوات إلى الحكومة وإقراره التفاهم مع الثنائي.
هذا يؤدي إلى النقطة الأكثر أهمية، وهي أن ارتجالية هذه القوى لا يمكن تلقائياً إلا أن تُسحب من دور مؤثر في اتفاق الطائف. في المبدأ كان السنة هم الشريك الأساسي والمستفيد من تطبيق الطائف، رغم سلبيات تطبيقه سورياً ولبنانياً. وبعد عام 2005، حاول الأفرقاء المسيحيون المدافعون عن الطائف التمسك به، من منطلق الحفاظ على الشراكة مع الفريق الذي أصبح بعد عام 2005، على يمين هؤلاء الأفرقاء. لكن، رغم العثرات المتتالية، تراجع أداء دور القوى السنية على مدى سنوات بعد عامي 2005 و2009. ليس سهلاً أن تحصر الإضاءة على شخصيات سنية لا تزال تتمسّك بالاتفاق، من الرئيس السنيورة إلى النائبين السابقين مصطفى علوش وأحمد فتفت. هذا يعكس وجهاً من وجوه الانفصال التدريجي عن اتفاق الشراكة، ويذكّر بما كان يقال في دوائر لصيقة بالرئيس سعد الحريري عن ضرورة فك التفاهم مع حلفائه المسيحيين، في وقت يكثر الكلام عند المسيحيين عن ضبابية مستقبل هذا الاتفاق.
ما جرى في الجلسة تتمة لمسار التراجع التدريجي للقوة السنية
حاول المسيحيون مرات عدة تضييق الفجوة بين معارضة الاتفاق والتمسك به، خصوصاً في مرحلة قرنة شهوان التي فرضت إيقاع التمسك به آنذاك مع بكركي، إلى أن بدأت أصوات تطالب بتعديله وبإعادة النظر فيه وصولاً إلى المطالبات الأخيرة باللامركزية الموسّعة إدارياً ومالياً، وبالانفصال عن شكل الدولة الحالي وبالفيدرالية، مقابل سلوكيات تنفيذه في شكل مجتزأ. هذا وحده يشكل خطراً على الطائف، في نظرة مستجدّة للمسيحيين له. فكيف إذا كان مسار السنّة يسير نحو إخراج أنفسهم تلقائياً من هذه المعادلة التي تجعل من الصعب إحياءها.
ما أفرزته جلسة الانتخاب أن خريطة توزع الأصوات السنية عكست خطورة ستظهر مستقبلاً في حجم الانقسام الأفقي بين مسيحيين ومسلمين. وإذا كان اللقاء الديموقراطي التقط فرصة الانحياز إلى الإجماع المسيحي، إنما لإدراكه أن بيضة القبان هذه المرة تعني إيجاد مساحة التقاء بين المسيحيين والمسلمين، ولاقاه عدد من النواب السنة. ثمة خلاصات أولى حذّرت من هذا الانكشاف الذي وضع أكثرية الأصوات السنية وكأنها في سلة واحدة مع الثنائي، للمرة الأولى بهذا الوضوح منذ عام 2005. لم يحصل ذلك عبثاً، لكن نتيجته قد تكون عبثية أيضاً، في العلاقة بين الطوائف وفي ما تتركه من تفسّخات في النظرة إلى اتفاق الطائف والكلام عن مستقبله.