علي حسن مراد – الأخبار
بعد تشكيله حكومته الأولى في تشرين الأول 1993، بدأ الرئيس رفيق الحريري العمل على تهيئة ظروف تدشين ورشة إعمار الوسط التجاري لمدينة بيروت، والتي مثّلت أساس مشروعه الذي أتى به إلى رئاسة الوزراء. اعتبر الحريري، مبكّراً، أنّ هناك خطوات ينبغي تنفيذها لإعطاء الدفع اللازم لإنجاح مشروعه. فقبل إطلاق «سوليدير» رسمياً عام 1994، عمل على توفير ما من شأنه أن يضاعف أرباح الشركة ويساهم في رفع قيمة العقار، وبالتالي تنافسية بيروت في جذب الاستثمارات ورؤوس الأموال.
على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 30 أيلول 1993، اجتمع الحريري برفقة وزير الخارجية فارس بويز ومندوب لبنان في الأمم المتحدة خليل مكاوي، بالأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي. يشير محضر الاجتماع إلى أنّ الحريري أثار مسألة مقرات تابعة للأمم المتحدة نُقلت من بيروت إلى عواصم أخرى بسبب الحرب الأهلية، مثل «الإسكوا» والـ«أونروا» والـ«يونيسف». بحسب المحضر، قال الحريري لغالي أنّ «هذه مسألة بالغة الأهمية بالنسبة لنا، فعودة مثل هذه المراكز ستُعطي صورة إيجابية وتساعد على بناء الثقة في بيئة لبنان الآمنة، وتشجّع المشاريع التجارية والاستثمارية».
إذاً، كان السعي لجذب الاستثمار هدف الحريري من وراء إعادة «الإسكوا» إلى بيروت. وفي سبيل ذلك، كما يشير أرشيف الأمم المتحدة، راسلت وزارة الخارجية اللبنانية وممثلية لبنان في الأمم المتحدة مكتب الأمين العام للمنظمة الدولية مراراً، بين 1993 و1997، لتخطّي العقبات التي ظهرت عقب صدور قرار «المجلس الاقتصادي والاجتماعي» التابع للأمم المتحدة رقم 43/1994 ، بتاريخ 29 تموز 1994، القاضي بتكليف الأمين العام «التواصل مع الحكومة اللبنانية للوصول إلى تفاهم مشترك حول جميع القضايا والالتزامات المتعلّقة بنقل المقر الدائم للإسكوا إلى بيروت، والتأكّد من أنّ الانتقال سيتم تمويله من الموارد الموجودة، وبشكل أساسي من المساهمات الخارجة عن الميزانية، ومن دون المساس بمدّخرات الميزانية المُقَرَّة مسبقاً». هذا القرار عنى أنّ على الأمم المتحدة أن تموّل عملية الانتقال من خارج ميزانية المنظّمة المخصّصة لـلـ«إسكوا»، وهو ما أخّر عملية الانتقال لاحقاً لسنوات.
في 29 أيلول 1994، التقى بويز بغالي، ويذكر محضر الاجتماع أنّ قرار نقل «الإسكوا» إلى بيروت، الذي ألحّ لبنان في طلبه، حظيَ بدعم من دول الخليج (باستثناء قطر) ومصر. أبلغ الأمين العام وزير الخارجية اللبناني بأنّه «من المتوقَّع إجراء مناقشات في اللجنة الخامسة بشأن الآثار المالية المترتّبة على القرار»، وذلك بناءً على ملاحظات البعثة التي أرسلتها الأمم المتحدة إلى لبنان في آذار 1994، لإجراء مناقشات أولية حول أماكن المكاتب التي اقترحتها الحكومة.
كانت الأمم المتحدة تتعاطى مع قرار نقل «الإسكوا» على أنّه لم يصبح ملزماً بعد، بانتظار عرضه للتصويت على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما حصل في كانون الأول 1994. وفق النقاط التي أثارها غالي مع بويز، في الاجتماع نفسه، يظهر أنّ الحكومة اللبنانية كانت قد عرضت بداية تخصيص «برج المرّ» كمقرّ لـلـ«إسكوا» وبقية الوكالات الأممية. وقد قال غالي لبويز «أنّ المبنى ربما يكون كافياً لاحتياجات إسكوا، لكن من الواضح أنه ليس كبيرًا بما يكفي لإيواء أيّ مكاتب أخرى للأمم المتحدة كما اقترحت الحكومة – ما لم ترتّب الحكومة لتوفير مبانٍ عدّة متجاورة لمركز الأمم المتحدة الموسَّع». وبالنظر إلى أنّ حجم مبنى «الإسكوا» في ساحة رياض الصلح في وسط بيروت أصغر بكثير من مبنى برج المرّ، فإن علامات استفهام تحيط بموقف بطرس غالي وفريقه حينها.
عقب لقاء أيلول 1994، بحث الجانب اللبناني تكليف شركة «سوليدير» تشييد مبنى جديد ليكون مقرّاً لـلـ«إسكوا» وبقية مكاتب وكالات الأمم المتحدة. في 4 تشرين الأول 1995، التقى بويز الأمين العام مجدداً، وتناول اللقاء مسألة نقل مقر «الإسكوا» من عمّان إلى بيروت. وأبلغ غالي وزير الخارجية اللبناني أنّ عملية الانتقال تخضع لعاملين رئيسيين: أولاً، استكمال تشييد المبنى (المقاول – سوليدير) وتوافر أموال تقدَّر (حينها) بنحو 9 ملايين دولار. وثانياً، الالتزام بقرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي طلب من الأمين العام «ضمان أن يتم تمويل الانتقال في حدود الموارد الحالية وبشكل أساسي من المساهمات من خارج الميزانية…»، ولذلك تبيّن أنّه لم تُدرَج أيّ موارد لهذا الغرض في الميزانية البرنامجية المقترحة لعامَي 1996-1997.
في 31 أيار 1995 أبرق الحريري إلى الأمين العام للأمم المتحدة لإبلاغه بأنّ المبنى الجديد الذي ستشغله «الإسكوا» وبقية مكاتب الوكالات الأممية سيكون جاهزاً للتسليم مطلع صيف 1996، وأنّ الحكومة اللبنانية ترغب بأخذ المبادرة من خلال الإعلان عن «استعدادها للمساهمة في تحمّل جزء من تكاليف عملية انتقال الإسكوا إلى بيروت». في 6 حزيران، رد غالي بأنّه «لاحظ بسرور الجهود الجارية لتجهيز مبنى مقر الإسكوا المزمع للإشغال، واستعداد حكومتكم لتقديم مساهمة مالية في تكاليف الانتقال». في 1 تشرين الأول 1996، التقى بويز غالي، وبحثا تسريع عمل انتقال مقرّ «الإسكوا» إلى بيروت. ويشير محضر الاجتماع إلى تنويه غالي برغبة الحريري الشخصية بتسريع عملية الانتقال، والإعراب عن «الأمل بانتهاء جميع العمليات الإدارية بحلول صيف عام 1997»، الموعد المتوقَّع للانتهاء من تشييد مبنى المقر (تأخير سنة عن الموعد الذي حدّده الحريري في رسالته في أيار 1995). لكن وفق وثائق ومراسلات الجانبين اللبناني والأممي، بقيت قضية تأمين كلفة الانتقال المالية عالقة، وبالتوازي مع حديث الجانبين حول مسألة نقل مقر «الإسكوا» إلى بيروت، كان الجانب اللبناني يبلغ الأمم المتحدة تحفّظه عن خطوة نقل بعض مكاتب وكالة «الأونروا» من فيينا إلى غزة، ويبلغ مكتب الأمين العام عدم قدرة لبنان على المساهمة المالية اللازمة لتمويل عملية نقل هذه المكاتب.
ساهمت الأمم المتحدة من ميزانيتها بمبلغ حوالي 3 ملايين دولارٍ وباقي المبلغ أي حوالي 10 ملايين دولارٍ أمّّنته الدولة اللبنانية عبر «تبرُّع»
في تقرير صادر عن «الإسكوا» في 19 آذار 1999، حول مسار عملية نقل مقر المنظمة من عمّان إلى بيروت، منذ صدور قرار النقل وحتى تنفيذه بشكل كامل أواخر عام 1997، ذُكِر أنّ تكاليف عملية الانتقال بلغت 14,911,810 دولارات أميركية، منها مليون دولار دفعتها الحكومة اللبنانية، و500,000 دولار دفعتها الكويت، فيما ساهمت الأمم المتحدة من ميزانيتها بمبلغ 2,847,689 دولاراً، وباقي المبلغ، أي حوالي 10,564،121 دولاراً أمّنتها الدولة اللبنانية عبر «تبرُّع». هوية المتبرّع لم تُذكَر في أي وثيقة أو تقرير رسمي أممي، لكن معلومات «الأخبار» تؤكّد أنّ الحريري طلب آنذاك من شركة «سوليدير» أن تقدّم المبلغ، علاوة على كلفة تشييد المبنى، التي قُدِّرَت بحوالى 35 مليون دولار على أبعد تقدير. بذلك، تكون سوليدير قد ساهمت بحوالى 45 مليون دولار، لكن في المقابل، حصلت على عقود صيانة من «الإسكوا»، والأهم، عقد تأجير المبنى للأمم المتحدة الذي تدفع بموجبه الدولة اللبنانية ممثَّلةً بوزارة الخارجية ملايين الدولارات سنوياً. بحسب أرقام مشاريع وقوانين الموازنة العامة بين 1997 و2022، بلغ حجم مبالغ الإيجار التي دفعتها الدولة عبر وزارة الخارجية لشركة «سوليدير» بدل تأجير مبنى «الإسكوا» لوكالات الأمم المتحدة حوالى 310 مليارات ليرة، أي ما يعادل 194 مليون دولار (مع احتساب مبلغ 21.18 مليار ليرة عن عامَي 2021 و2022 على سعر صرف 15,000 ليرة للدولار).
وكان مجلس الوزراء قد فوّض، في 16 نيسان 2014، وزير الخارجية والمغتربين آنذاك جبران باسيل للتفاوض مع «سوليدير» بشأن بدل إيجار مبنى «الإسكوا»، لكن المحاولة واجهت رفض سوليدير التفاوض، في تأكيد على أنّ المساس بمصالح الشركة ومالكي أسهمها، من منتفعي الطبقة السياسية الحاكمة ما بعد الطائف، يُعَدُّ من الكبائر.