منذ تنصيب حكومة بنيامين نتنياهو، وعرض وزير القضاء، ياريف ليفين، مطلع العام الجاري، بنود مخطّط «الإصلاح القضائي»، واندلاع الاحتجاجات غير المسبوقة على إثره، ينأى فلسطينيّو الـ48 بأنفسهم عن الانقسام العمودي الإسرائيلي، على الرغم من أن المخطّط المشار إليه من شأنه تعميق حالة العنصرية والاضطهاد القائمَين ضدّهم. ولعلّ السبب في ذلك يكمن في خلفيات الاحتجاج نفسها، وفي طبيعة المجموعات المشاركة فيه.
في الشق الأول، يدور الصراع حول «طابع الدولة وهويتها»، في ظلّ اتّهام المعارضة، الموالاة، بالسعي للانقلاب على «النظام الديموقراطي في إسرائيل» والتأسيس لـ«دولة شريعة يهودية». والواقع أن هذا الصراع ليس جديداً، بل هو قديم ومعقّد، لكنه بلغ أشدّه أخيراً، مع تمكّن معسكر اليمينَين المتطرّف والفاشي من حسم أزمة الحكم التي عانتها الدولة العبرية خلال السنوات القليلة الماضية، لصالحه. وتقف على طرفَي ذلك الانقسام الحادّ، مجموعة «تكافح» للسيطرة على «الأرض» كما يعرّفها التوراة (التي يَجدر التذكير هنا بأن روّاد المشروع الصهيوني من العلمانيين وحتى الملحدين على غرار ديفيد بن غوريون لطالما جيّروها لصالح حروبهم الكبرى)، أي إنها تعتبر الاستيطان «فريضة إلهية» يستجلب التخلّي عنها «العقاب الإلهي»؛ ولذا، فهي تحاول تطويع المؤسّسات المختلفة لخدمة أهدافها، متلاقيةً في ذلك مع كوكبة من ذوي المصالح الذاتية الذين يرَون في الفساد المؤسّساتي طريقة للحكم. في المقابل، تصارع المجموعة الثانية من أجل «حفظ المؤسّسات والتوازن القائم بينها»، مدافعةً في هذا السياق بأن السلطة القضائية، وفي مقدّمها «المحكمة العليا»، لعبت دور «حامي الدستور» غير الموجود أساساً، وهي التي أرست «الوضع (الاستقرار) القائم» بين مختلف شرائح المجتمع، وحافظت على وجه إسرائيل «الديموقراطي – اللبيرالي».
أمّا في شأن المجموعات المحتجّة، فيعبّر عنها أحد مراسلي «القناة 14» (اليمينية)، بالقول إن «هذه أوّل ثورة للأغنياء على الفقراء»، مستنداً في ذلك ربّما إلى أن «اليسار» و«الوسط» الإسرائيليَين لم يعودا فعلياً مرتبطَين بالطبقات العمّالية ولا نقابات الطبقة الوسطى، بل باتوا في أعلى السلم الاجتماعي، فيما مَن يقود التظاهرات اليوم هم ممثّلو «التكنولوجيا الفائقة (الهايتك)»، وموظفو ومديرو الشركات الكبرى، والجنود والضباط والقادة السابقون في الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية، ورؤساء المجالس والسلطات المحلّية يهودية، والأكاديميون، ومديرو البنوك، والقضاة والمحامون السابقون والحاليون، والسياسيون السابقون والحاليون، والفنانون من مختلف المشارب الثقافية.
على أن العِبرة «الفلسطينية» من ما تَقدّم، هي أن ما يجمع كلّ أولئك هو كونهم لبيراليين علمانيين منفتحين على نقاش أيّ شيء باستثناء إبادة الفلسطينيين، والتي تشكّل نقطة تلاقٍ بين مختلف شرائح المجتمع. بتعبير آخر، يتظاهر هؤلاء لحفظ مكانتهم في السلّم الاجتماعي – الاقتصادي، وحياتهم وفق النمط «التَلْأَبيبي»، فيما لا يبدون أدنى اكتراث لحقيقة السحق اليومي للفلسطينيين، وإعدامهم لمجرّد الشبهة، وحرمانهم من حرية التنقل. ومن هنا، لا يعود مستغرَباً لا مبالاة فلسطينيي الـ48 بما يجري، وتطنيشهم دعوة بعض نوابهم في «الكنيست» إلى الانخراط فيه.
وكان رئيس «القائمة العربية الموحّدة»، منصور عباس، دعا مواطنيه إلى المشاركة في التظاهرات، وهو ما يساوق تماماً نهجه الداعي إلى الاندماج في المجتمع الإسرائيلي. على أن المفارقة أنه طالب المتظاهرين الفلسطينيين بعدم رفع علم بلادهم، معلّلاً ذلك، في مقابلة مع «هآرتس»، بأن «حركة الاحتجاج تمثّل مصالح شرائح واسعة من المجتمع»، وبالتالي من «غير الملائم رفع العلم الفلسطيني»، كونه قد يفضي إلى صدامات مع الشرطة أو مع المتظاهرين أنفسهم.
أمّا رئيس ثنائي «الجبهة/ العربية للتغيير»، أيمن عودة، فقد حضّ، هو الآخر، على التظاهر، مطالباً برفع شعارات تنادي بـ«المساواة الاجتماعية»، وإنهاء الاحتلال، مدّعياً أن منظّمي الاحتجاجات «سرعان ما سيقنعون بأنه لا مجال لاستمرار تجاهل المجتمع الفلسطيني». لكن حتى في حزب عودة نفسه، لم يتجاوز عدد المتظاهرين الـ200 – وفق مصادر فلسطينية -، معظمهم من «الحركة الطلابية الجبهاوية» في جامعة تل أبيب، أو يهود في «الجبهة» (الحزب الشيوعي الإسرائيلي).
وإذ تتجاهل تلك الدعوات حقيقة أن المخطّط الذي يطرحه اليمينيون، من شأنه توسيع المشاريع الاستيطانية، ومضاعفة عمليات التنكيل بحق الفلسطينيين، فهي تطنّش أيضاً معاكسته كلّياً مطالب فلسطينيي الداخل. ولهذا، لم تلقَ تجاوباً لدى الحركات والأحزاب غير المنخرطة في «الكنيست»، من مثل «التجمع» و«أبناء البلد» و«الحركة الإسلامية الشمالية»، ومختلف اللجان الشعبية المحلّية، وصولاً إلى «لجنة المتابعة» التي تُعدّ أعلى هيئة تمثيلية للفلسطينيين في الداخل.
وفي هذا الإطار، يلفت عضو «اللجنة الشعبية» والقيادي في «الحراك الفحماوي الموحد»، محمد جبارين، إلى أن «نضالنا المُركّب يحتّم علينا دائماً الحذر من أيّ نشاط ميداني، ومعرفة هوية هذا النشاط والقائمين عليه»، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «عدم انخراطنا كمجتمع فلسطيني في التظاهرات يعود إلى الجهة التي تقف خلفها وإلى أهدافها». ويقول: «صحيح أن هناك أهميّة للقضاء واستقلاليته ولكن ليس بمفهوم الاحتلال، إذ ما ينشُده هؤلاء هو حماية الدولة ونظامها من أيّ تناقض ما بين ديموقراطيتها ويهوديتها».
من جهته، يوضح الناشط والصحافي، بكر جبر الزعبي، وهو من مدينة الناصرة، أن من بين أسباب عزوف «فلسطينيّي الداخل عن المشاركة في الاحتجاج، أنهم لا يعوّلون كثيراً على المحكمة العليا، التي تتماهى في معظم القضايا مع الدولة وسياستها»، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «لدى الفلسطينيين ما يهمّهم أكثر من الخلافات بين الإسرائيليين، مثل ظاهرة الإجرام المنظّم التي تنتشر بشكل مخيف داخل الخط الأخضر»، فضلاً عن «قضايا أخرى مثل أزمة السكن والأحوال الاقتصادية، وما يحصل في القدس أو في الضفة الغربية». ويلفت إلى أن «الاحتجاجات لا ترحّب بالفلسطيني أصلاً حتى لو أراد ذلك، وهذا ظهر في بعض الحالات التي شارك فيها قلّة من الفلسطينيين في التظاهرات، حيث طُلب منهم ألّا يتحدثوا عن الاحتلال ولا عن العنصرية»، مذكّراً أن «الذين يتظاهرون من أجل الديموقراطية، هم أنفسهم مَن يدعمون كلّ عملية عسكرية في غزة أو الضفة أو في أيّ مكان آخر».