كتبت النهار
لم يخل المؤتمر الصحافي لحاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري من تهديدات مباشرة للسلطة السياسية، بما فيها المجلس النيابي والحكومة ووزارة المال والقوى السياسية، بزعزعة الاستقرار الاقتصادي والنقدي في البلاد وتعرضها لمخاطر العزلة عن النظام المالي الدولي، ما لم تبادر الى التعاون وإخراج السلطة النقدية واحتياجاتها من أي تجاذب سياسي.
ورغم النبرة العالية التي تحدث بها منصوري، مدعِماً أقواله بالمعطيات التي تؤكد صحة مخاوفه، لم تلق تلك الاقوال اي ردة فعل على المستوى الرسمي او السياسي، على نحو يؤشر بأن ثمة من يفكر بالمخاطر المحيطة، ويبحث عن مخارج لعدم وقوع البلاد ضحيتها، سيما وان منصوري كان شديد الوضوح لجهة تأكيده بأن قدرات المركزي ستنفد في فترة لا تتجاوز الشهرين، ادراكاً منه انه مع نهاية الموسم السياحي سيتراجع تدفق الدولار في السوق المحلية، وسيتوجب على الحكومة البحث عن موارد جديدة لاستقطاب العملة الأجنبية.
واكثر ما يثير القلق ان الواقع المالي والنقدي الذي ينذر بانفجار قريب، لا يشكل أولوية على اجندة السلطة السياسية التي توزع انشغالاتها ما بين الرد على رسالة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، او على الموقف الاممي من التمديد لقوات حفظ السلام الدولية في الجنوب، او على ما سيكون عليه مصير الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة بعد جلسة الاستجواب المقررة اليوم في ظل معلومات شبه مؤكدة ان سلامة لن يحضر وان القضاء يتجه الى اصدار مذكرة توقيف غيابية في حقه. ويعود اهتمام الطبقة السياسية بمصير سلامة، لارتباطه بمصير عدد غير قليل منها ممن يخشون ان تنسحب العقوبات الأميركية عليهم، في ظل توقعات داخلية وخارجية عن وجود دفعة جديدة من الأسماء المرشحة الدخول الى لائحة “اوفاك” للعقوبات.
صادف المؤتمر الصحافي لمنصوري بعد نحو أسبوعين على التهديد المبطن الذي اطلقه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي خلال الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، والتي انعقدت غداة تطيير جلسة نصاب الهيئة العامة في المجلس النيابي، حيث اكد ضرورة انعقاد المجلس لاقرار مشاريع واقتراحات القوانين المتعلقة بخطة التعافي وإعادة هيكلة المصارف والفجوة المالية والكابيتال كونترول. وقد نبه ميقاتي في حينه الى ان الإمكانات بدأت تنفد ودخلت البلاد في مرحلة صعبة، كاشفاً عن انه ابلغ رئيس المجلس بالوضع لافتاً نظره الى استحالة الاستمرار على هذا المنوال، محذراً بأن الحكومة لم تعد قادرة على تحمل المسؤولية وحدها، والا “سيأتي يوم ابلغكم فيه ان هناك قرارا. اساسياً وحساساً يتعلق باستمرارنا في العمل، ينبغي اتخاذه”.
وما بين تهديدات ميقاتي وتحذيرات منصوري، تستمر حال المراوحة وشراء الوقت، فيما الدولة بكل مؤسساتها تتآكل وتتحلل، والسؤال من يفجرها اولاً ميقاتي او منصوري؟
بحسب أوساط قريبة من رئيس الحكومة، لا يملك ميقاتي خياراً سوى الاستمرار في تصريف اعمال حكومته المستقيلة. وكل الكلام عن إمكانية اعتكافه لا تصح لأنه في وضع الاستقالة ليس هناك اعتكافاً، بل الاصح التوقف عن العمل. لم يصل ميقاتي بعد الى مرحلة التوقف عن العمل طالما لا يزال هناك إمكانية لذلك. لكنه يدرك، تماما كما منصوري الذي سبق ان وضعه في صورة الوضع المالي والنقدي ان حال المراوحة لا يمكن ان تستمر طويلاً وان البلاد وصلت الى خط النهاية، والخيارات لمواجهة النقص في التمويل، في غياب أي اجراءات جذرية او إصلاحات مطلوبة، تكمن في اثنين لا ثالث لهما: اما الضغط على سوق القطع لتأمين الاحتياجات المالية لتمويل الدولة من العملة الأجنبية، ما يعني عملياً تفلت الدولار وخروجه عن السيطرة، ما سيرتد في شكل خطير وجنوني على انهيار العملة الوطنية، واما اعلان توقف المؤسسات الرسمية عن العمل، كما هو حاصل في البعض منها، حيث الخدمات متوقفة اما جزئيًا واما بالكامل. وعندها، يكون الانهيار قد استكمل آخر حلقاته. عندها فقط يخرج ميقاتي ليقول اللهم اني بلغت، ولكن بعد ان يكون الأوان قد فات.
لا تقتنع الأوساط القريبة من ميقاتي ان أي موقف تصعيدي اليوم سيفيد، بل على العكس سيزيد التعقيد. ذلك ان أي اعتكاف لميقاتي عن ممارسة عمله على رأس الحكومة المستقيلة والفاقدة لأي صلاحية لن يحدث الصدمة المطلوبة لقلب الطاولة وتغيير الواقع. فالمطلوب اليوم وقف الحملات على الحكومة ومساعدتها على الإنجاز وان في الحد الأدنى المتاح، على ان يقابل ذلك فتح أبواب المجلس امام التشريع وإقرار القوانين الملحة التي توجه رسالة جدية عن التزام لبنان السير على طريق الإنقاذ والتعافي. ولكن بما ان التعطيل هو هدف وليس نتيجة، فإن هذا المسار لا يمكن عكسه باعتكاف رئيس حكومة مستقيلة، بل بالدفع نحو انتخاب رئيس للجمهورية يعيد الانتظام الى الحياة السياسية والدستورية، وما عدا ذلك كله يبقى في اطار المعالجات الترقيعية.