كتبت النهار
لأن لبنان هو البلد العربي الأكثر ارتباطاً أو ربطاً، طبيعياً كان أم قسرياً، بمجريات كل حرب أو مواجهة أو تحوّل في مسار الصراع “الأبدي” الفلسطيني – الاسرائيلي، ترانا لا نملك أكثر من سائر “الشعوب” العربية، اذا كانت التسمية لا تزال جائزة، إلا التساؤل: ماذا بعد دفن آخر الرهانات الواهية على الحل السلمي لأقدم القضايا المزمنة في العالم، القضية الفلسطينية؟
لم يصدر بيان أو موقف أو تعبير سياسي أو شعبي في لبنان منذ اندلاع آخر الحروب وأشدها شراسة بين إسرائيل وحركة “حماس” في السابع من تشرين الأول الحالي إلا واقترن بتعبيرين متلازمين: التمسك بحلّ الدولتين لقضية فلسطين والتحذير من انجرار أو انزلاق أو استدراج لبنان الى الحرب المتفجرة بأشرس المواجهات وشلالات الدماء. ليس هذا أمراً غريباً في لبنان بعد عقود عمرها من عمر نشوء القضية الفلسطينية غالباً ما كانت تردداتها الهائلة السبب الأول والاساسي في اهتزازاته وحروبه وعدم استقراره، فيما تتكفل الانقسامات العمودية في تركيبته بالحيّز الأساسي الآخر الذي حال ويحول دون قيام بنية موحدة قوية ومستقرة لدولة ترسم الثوابت بلا أيّ خوف من أي حروب في المنطقة ترتد وبالاً على لبنان.
ومع أننا نغالي إن اعتبرنا ان التعاطف اللبناني العارم مع معاناة الفلسطينيين في غزة والتمسك بحل الدولتين كما التخوف من انزلاق لبنان الى الحرب “ثوابت” لإجماع لبناني بإزاء الاهوال التي ترسمها تطورات الحرب، خصوصا مع التطور المتدرج الخطِر للمواجهات على الجبهة الجنوبية مع إسرائيل، فإن مرور 24 يوماً على هذه الحرب منذ عملية “طوفان الأقصى” في غلاف غزة وصولاً الى بداية المرحلة الثانية من الحرب الإسرائيلية المتدحرجة، باتت تختصر أمام شعوب هذه المنطقة أشد الخلاصات قتامة وتشاؤماً على الاطلاق، وهي ان لا نهاية فعلاً للصراع التاريخي هذا. في كل الحروب والمواجهات السابقة كانت ثمة مجازر مروعة اهتز لها العالم وسار ملايين المتظاهرين في الغرب والشرق وسائر انحاء العالم اهتزازاً لأهوالها. لن نعود الى حقائق التاريخ العالمي في الحروب التي تُثقل ضمير البشرية كلها بمذابح ومجازر ضد الإنسانية على امتداد القرون، ويكفي ان ترغمنا المجازر التي حصلت وتحصل الآن في غزة على نبش هذه الذاكرة لتبيّن مدى التوحش الإسرائيلي في الدمار والقتل ضد المدنيين في غزة لأن اسرائيل عجزت عن استئصال “حماس” فكان الثمانية آلاف فلسطيني الذين دُفنوا حتى الساعة بين الأنقاض والركام عنوان هذا الخزي العالمي الذي لا يزال عاجزا عن حماية البشرية من مذابح الإبادة كما فعل منذ التاريخ القديم في مجازر النازية ومذبحة الأرمن في تركيا، وكما تفرّج عاجزاً على مئات المذابح في افريقيا والشرق الأوسط ولا إمكان اطلاقاً في هذه العجالة للإلمام بما تختزنه مجلدات عن تاريخ المذابح.
مفاد ذلك أن اخطر تحولات الحرب الجارية الآن صارت في تطبّع المجتمع الدولي بشكل مرعب مع حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وتركها تراكم ألوف الضحايا بما سيستحيل معه ليس وقف اتساع الحرب الى لبنان وربما أوسع من لبنان، بل أيضا دفن كل المجتمع الدولي كناظم رادع لمجازر ضد البشرية في القرن الحادي والعشرين كما كان في الماضي الغابر وأسوأ. وما كان “يتجرأ” بعض العالم على تبريره زوراً صار الآن تحريضاً على المذابح الابدية!