صارت الكتابة مهمة شاقة. جرى ترويضنا. أصبحنا نشعر بعجزنا عن التأثير. صرنا جزءاً من الأمر الواقع. مجرد شهود على جريمة متمادية. نصرخ ونكتب. نكتب ونصرخ. ندور في حلقة مفرغة. نراهن على ماذا؟ على العدم. ليست عكار إلا عنواناً. ما الفرق بينها وبين بيروت التي دُمّرت قبل سنة؟ بينها وبين مدن وقرى لبنانية أخرى مرشحة لأن تُدمّر ـ لا سمح الله ـ في الأسابيع والأشهر الآتية؟ ما هي الخيارات المتاحة؟ -إذا قلنا أن زمن الثورة والثوار قد هلّ، فكل من يعرف لبنان بماضيه وحاضره يدرك أن هذا المستقبل الموعود لن يأتي لا الآن ولا بعد حين.. اللهم إلا إذا كنت مُخطئاً وعندها من واجبي الإعتذار من كل التوّاقين إلى غد لبناني جميل. -أن يستمر الموت والدمار ويذهب لبنان إلى فوضى سياسية وأمنية وإجتماعية تنتج في نهاية مآلاتها نظاماً (مسخاً) طائفياً لكن بمسميات جديدة. -أن يحصل تدخل دولي وعربي بعنوان “إنقاذ الشعب اللبناني”، وعدا عن أنه خيار غير وطني وغير واقعي، فإن الأمم البعيدة والقريبة تنأى بنفسها عن لبنان. نحن في زمن “يضبضب” فيه الأميركيون وغيرهم قواتهم وقواعدهم.. والأهم من ذلك أن تبقى حاضرة في البال صورة النموذجين العراقي والأفغاني! -لقد إنطفأ لبنان. إنطفأت الكهرباء والروح، لكن إذا كان لا يحك جلدك إلا ظفرك، هل يمكن وقف هذا الموت البطيء، وماذا يمكن أن نسمي بلداً بلا مستشفيات. بلا مدارس وجامعات. بلا متاجر ولا صيدليات ولا أفران. بلا محروقات هي شريان حياة كل الناس؟ ننتقل من المقدمة ـ الشكوى إلى الوقائع والمعطيات وبعض التحليل: أولاً، نعم هناك فرصة لبنانية لإنقاذ المريض بتوفير محروقات تؤمن وصوله إلى مستشفى لم يغلق أبوابه، وأن نحاول إنقاذ حياته، وبعدها نتبادل المسؤوليات في من هو المسؤول عن مصيرنا الأسود، وحتماً لن يكون هناك أبرياء. هذه الفرصة لا ترجمة لها سوى بتأليف حكومة بأسرع وقت ممكن. في اللقاء الأخير الذي جمع رئيس الجمهورية ميشال عون بالرئيس المكلف نجيب ميقاتي، كان “الجنرال” صريحاً للمرة الأولى بإستعجاله تأليف الحكومة. حالة الغضب في الشارع اللبناني تكبر. الوقائع تتدحرج ولا أحد يستطيع التنبؤ منذ الآن بردة فعل الشارع. زدْ على ذلك أن حالة التململ بدأت تنتقل إلى المؤسسات العسكرية والأمنية التي لا يختلف واقعها عن واقع كل المؤسسات العامة. وناهيك عن الإستقالات وحالات الفرار والإجازات المفتوحة، يكاد راتب العسكري الذي يملك سيارة يوفر له فقط أربع تنكات بنزين شهرياً، وبالتالي لن يكون قادراً سوى على الإلتحاق بمركز عمله من دون مأكل ومشرب. يسري ذلك على كل إدارات الدولة اللبنانية، ما يضع الجميع أمام حقيقة مفجعة: إنحلال الدولة وتلاشيها! ثانياً، من خلال مجريات الجلسات الأخيرة للمجلس الأعلى للدفاع (عملياً المجلس الرئاسي) وصولاً إلى جلسة اليوم بحضور رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، يتعرض الجيش اللبناني إلى ضغط رئاسي كبير وصولاً إلى محاولة وضعه في مواجهة ملفات حساسة آخرها إعلان حالة الطوارىء في محافظة عكار، وهو الأمر الذي جعل قائد الجيش العماد جوزف عون يعلن للمرة الأولى في هكذا إجتماعات رفضه زج الجيش في مواجهة الناس، معتبراً أن العلاج يجب أن يكون سياسياً ومدخله تشكيل حكومة جديدة وليس إعلان الطوارىء، وهو الأمر الذي أكد عليه معظم القادة الأمنيين، في معرض التحذير من رمي المسؤوليات على المؤسسات العسكرية والأمنية بدل أن تتحمل الطبقة السياسية مسؤولية ما يحصل سياسياً وإقتصاديا وإجتماعياً.. في هذا السياق، يقول مرجع أمني لبناني كبير “نحن بدأنا نفقد القدرة على السيطرة ولا يجوز تحميلنا ما لا قدرة لنا على إحتماله”. صرخة الأجهزة الأمنية بدأت تفعل مفعولها سياسياً، وكل تدحرج أمني ـ إجتماعي حدث أو سيحدث، سيتحول قوة دفع لإنتاج واقع سياسي لبناني جديد، فإما تجري ملاقاته بحكومة جديدة (غير مضمونة النتائج) وإما الذهاب نحو ما هو أبعد وأخطر من الفوضى والإرتطام الكبير! ثالثاً، هناك فرصة دولية لاحت مؤشراتها من أكثر من إتجاه، فالفرنسيون ـ بغطاء أميركي وأوروبي ـ دخلوا على خط تكليف نجيب ميقاتي (إتصال إيمانويل ماكرون بميشال عون). صحيح أن مواقفهم وعنترياتهم الفارغة لم تنته، لكنهم إعتبروا أن ميقاتي هو “الفرصة الأخيرة”. لذلك، شجّعوا على إتباع آليات لبنانية قادرة على إنتاج حكومة يستطيع العالم التعامل معها ومعها رزمة إغراءات أبرزها الطلب من صندوق النقد تسريع المفاوضات مع لبنان والتوصل إلى إتفاق برنامج خلال شهور قليلة من تاريخ تأليف الحكومة. وكان لافتاً للإنتباه دخول السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا على خط بيروت (اللواء عباس إبراهيم) ـ بغداد (رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي)، لتذليل الكثير من الصعوبات التي أدت إلى تأمين الفيول العراقي للبنان وصولاً إلى توقيع أول إتفاق يؤمن وصول 80 ألف طن (نحو 10% من كمية المليون طن المقررة للبنان) من المحروقات العراقية للبنان خلال الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر المقبل. قد يكون أحد المؤشرات أيضاً إستئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية فور تشكيل الحكومة الجديدة. هذه “الفرصة الدولية”، وعنوانها “نجيب ميقاتي”، يقول الأميركيون إن لها تتمتها العربية، وتحديداً الخليجية، لكنها مرهونة بتأليف الحكومة، رئيساً ووزراء وبياناً وزارياً، من دون تحديد ماهية ذلك أو كيفية ترجمته بالتحديد. رابعاً، لم يبادر ميقاتي إلى تلقف الفرصة الحكومية لولا “الضوء الأخضر” الذي حصل عليه من “الثنائي الشيعي”، وتحديداً من حزب الله الذي فاجأ الحلفاء والخصوم بتسمية رئيس تيار العزم وتعهده بمنحه الثقة لحكومته لاحقاً. يسري ذلك على تسهيلات أخرى، ليس بينها بطبيعة الحال ممارسة أي ضغط على رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. ومن الملاحظ أن ميقاتي يراعي في مسار التأليف عدم إستفزاز “الثنائي” ليس فقط في ما يتصل بحقائب وأسماء الوزراء الشيعة الخمسة، بل في عدم الإتيان برموز “إستفزازية” إلى مواقع حكومية حساسة. إقرأ على موقع 180 السعودية وآل الحريري.. شتّان ما بين الأب والإبن ومن إستمع إلى خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، هذه الليلة، يدرك أن حزب الله يريد لميقاتي أن تتألف حكومته الليلة وليس غداً، وأن المطلوب من الجميع تقديم تنازلات لمصلحة تشكيل حكومة “خلال أيام” تأخذ على عاتقها إدارة الأزمة، وهذه العبارة موجهة للحليف وللصديق أولاً، ولا سيما من يراهن على أن تستمر حكومة تصريف الأعمال الحالية حتى نهاية العهد! خامساً، إستطاع ميقاتي على مدى الجلسات التي عقدها مع رئيس الجمهورية بناء مناخ مقبول من التواصل (وليس من الثقة الكاملة)، أن يرسي قواعد جديدة للتأليف التي لم تتوفر في الفرصتين السابقتين (مصطفى أديب وسعد الحريري): لكل من عون وميقاتي أن يكونا شريكين في تسمية الوزراء الثلاثة والعشرين، اي أن حق الفيتو ليس محصوراً بوزراء هذه الطائفة أو تلك. نموذج التعامل مع عدد من أسماء الوزراء المقترحين لوزارات المال والعدل والداخلية والشؤون الإجتماعية يصب في هذا الإتجاه تحديداً. جرى الإتفاق على التسمية حتى يكون هناك توافق على جميع الوزراء، لكن اللغم الذي ينتظر الإثنين هو مجدداً محاولة سرقة الثلث المعطل بعنوان “الحقوق المسيحية”! سادساً، لميشال عون مطالبه. غير المعلن منها هو الرغبة بما ومن يطمئنه إلى مستقبل جبران باسيل. بهذا المعنى، لا يملك ميقاتي “وصفة سحرية”. قرر الرجل أن يوفر التطمينات حيث يمكن تقديمها. مثلاً، أدخل “التدقيق الجنائي” (forensic Audit) في صلب مهمته الحكومية، لكن ذلك ليس كافياً. الدعوة الرئاسية إلى جلسة حكومية إستثنائية غداة قرار رفع الدعم عن المحروقات كان يجب أن تفضي إلى قرار حاسم: الإطاحة برأس رياض سلامة حاكم مصرف لبنان وتعيين حارس قضائي (أحد المحامين الذين لا يثيرون حفيظة الأميركيين من جهة، وضمان عدم حلول النائب الأول (الشيعي) محل الحاكم من جهة ثانية). كانت الوصفة القانونية جاهزة لتبرير قرار الإطاحة (مخالفة القوانين ولا سيما المادة 43 من قانون النقد والتسليف). السؤال المطروح هنا ماذا إذا إشترط رئيس الجمهورية ضمانة الإطاحة بسلامة (وزجه في السجن) شرطاً لتسهيل التأليف؟ هل يستطيع ميقاتي أن يوافق على أي قرار سياسي من هذا النوع أم يشترط مساراً قضائياً محدداً وماذا إذا طلب الأميركيون من عون وميقاتي تكريس “الخروج الآمن” لرياض سلامة؟ سابعاً، من الواضح أن ميقاتي حدّد سقفاً للتأليف لا يتجاوز نهاية الشهر الحالي، فإذا أمكن للحكومة أن تولد، ثمة ورشة من الآن وحتى تاريخ إجراء الإنتخابات النيابية في السابع والعشرين من آذار/مارس 2022 (موعد أولي) أبرز بنودها الإنتخابات نفسها وصندوق النقد وملف الكهرباء وخفض سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية. أما إذا تعذرت الولادة الحكومية فإن ميقاتي سيكون آخر المعتذرين. كيف؟ لن يبادر نادي رؤساء الحكومات إلى تزكية أي مرشح جديد لرئاسة الحكومة ولن يشارك (من خلال الكتل) على الأرجح في أي إستشارات جديدة. العنصر المستجد هو موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري بتفاهمه مع الحريري، ليس على عدم تسمية أي بديل لميقاتي، بل عدم المشاركة في أي حكومة من بعد الإعتذار حتى الإنتخابات النيابية المقبلة “وليتحمل من يقبل بالتكليف كل ما سيترتب على السير بحكومة سيغطيها فقط التيار الوطني الحر (حزب الله سيكون موقفه أقرب إلى رئيس المجلس)، فهل يمكن أن يقبل فيصل كرامي أو حسان دياب (تردد أن الرجل يراهن مجدداً على إعادة التكليف) بالتكليف أكثر من ساعة واحدة؟ وهل يتحمل ميشال عون أن يكمل ولايته بحكومة ميتة قبل أن تولد”؟ مجدداً لا بد من الإشارة إلى أن الصيغة التي حكمت لبنان منذ العام 1920 حتى الآن قد إنتهت وليس مطلوباً سوى إجراء مراسم دفنها. قرار رفع الدعم يصب في هذه الخانة تحديداً. المعضلة الماثلة أمام الجميع أن بديل الصيغة الحالية (الطائف) غير واضح المعالم. يسري ذلك على الطبقة السياسية نفسها، لا سيما في ظل “الرهان الوردي” على مجتمع مدني تشير أفضل التقديرات وإستطلاعات الرأي إلى أنه لن يتمكن من حصد أكثر من ستة أو سبعة مقاعد نيابية. بإختصار، الفرصة الحكومية متاحة للمرة الأولى منذ حوالي السنة. تتساوى حظوظ التأليف من عدمها.. أما عكار الشهيدة، فلها أن تودع شهداء “الأحد الأسود” بالدموع والورود والأرز. المؤسف أن هذه النكبة قابلة لأن تتكرر في غير منطقة لبنانية ـ مجدداً لا سمح الله ـ طالما أن الوصفة اللبنانية موجودة: رسوخ مافيا الفساد والطائفية (نموذج ردود فعل بعض قيادات الصف الأول في الساعات الأخيرة وحرقها ما تبقى لها من ماء وجه ـ ليس مؤكداً أنه بقي لها ماء وجه ـ بعدما قررت الإستثمار الرخيص في دماء ضحايا عكار الأبرياء حتى قبل دفنهم). زدْ على ذلك إنعدام الأخلاق والمبادىء وحتى الدين في بيئات لبنان المؤمنة والملحدة على حد سواء.. للبحث صلة.
حسين أيوب ٢٠٢١/٨/١٥