يؤسّس الأمين العام لحزب الله السيد ح sن نصرالله في خطاباته عادة لكتابة تاريخ هذا الحزب أقله منذ أن تولى قيادته قبل ثلاثة عقود من الزمن. الأكيد أن خطاب نصرالله هذه الليلة سيحتل حيزاً ولو بسيطاً في سيرة حزب جدلي لبناني وأكثر. لماذا؟ لم يتعامل حزب الله أقله بالخطاب السياسي مع أي حزب لبناني، كما تعامل السيد حسن نصرالله مع حزب القوات اللبنانية و”رئيسه” (سمير جعجع)، بهذا المنسوب السياسي العالي السقف، من دون أن يلفظ إسمه على لسانه نهائياً. حتى في عز الإشتباك بين حزب الله وتيار المستقبل بين العامين 2006 و2016، لم يغادر نصرالله المفردات التقليدية لحزبه، وبدا حريصاً على عدم “شيطنة” رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، لا بل قرر هذان الحزبان في عز خصومتهما السياسية إطلاق حوار سياسي بينهما منذ نهاية العام 2014 برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري، إستمر حتى العام 2017، وأدى إلى ما يشبه “ربط النزاع”، قبل أن يتبنى الحريري العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. في خطابه هذه الليلة، أسّس نصرالله لمرحلة جديدة. إعتبر أن يوم الخميس في الرابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2021، تاريخ “حادثة الطيونة”، هو يوم مفصلي في التعاطي مع الشأن السياسي الداخلي. لم يحدد الرجل ماذا يقصد بتعبير “مفصلي”، لكن التحليل يأخذ القارىء إلى أن كل آلية تعامل حزب الله مع القوات اللبنانية، بالسياسة والأمن والعسكر والإجتماع، ستكون مختلفة حتماً. لن تغيب أنظار هذا الحزب عن القوات اللبنانية، وحتما لن يكون التعامل معه كأي حزب لبناني. عندما وضع نصرالله هذا الحزب قيادة ورئيساً في خانة “الإجرام” و”الإرهاب” و”التآمر على البلد” و”الأداة” بأيدي قوى خارجية، وعندما إعتبر أن البرنامج الوحيد لهذا الحزب هو الحرب الأهلية والتقسيم وأنه بات يشكل تهديداً للوجود المسيحي في لبنان، فإنه يقترب في خطابه كثيراً من الخطاب الذي كان يتوجه فيه إلى المجموعات التكفيرية غداة العام 2011، حتى كاد يقول إن جعجع (وحزبه) هو رديف للمجموعات التكفيرية واذا كان هناك من يريد الاستثمار مجددا في الفتنة والحرب في لبنان، ليس هناك من هو مستعد لملاقاته إلا سمير جعجع! ما سمعناه على مدى أكثر من تسعين دقيقة هو محاكمة سياسية تاريخية بكل معنى الكلمة. صحيح أنه تمت محاكمة جعجع سابقاً في قضايا عديدة أبرزها كنيسة سيدة النجاة وإغتيال رشيد كرامي وداني شمعون وغيرها، لكن محاكمة سياسية بانورامية كالتي أجراها نصرالله في خطابه لم تحصل من قبل، وحتماً كان رئيس حزب القوات ينتظرها لعلها تشكل رافعة له، أقله وسط جمهوره ومناصريه وبعض المترددين الذين يمكن أن تغريهم صورة القائد البشيري الجديد. يقود هذا الخطاب إلى القول إن لبنان ليس بخير. معطى الحرب الأهلية في لبنان باتت عناصره موجودة بشكل جدي. من جهة، بإرادة جعجع ووعيه الكاملين. يكفي أن رئيس القوات رفع دعاوى على صحف ومواقع إخبارية عندما اشارت إلى واقعة العشاء الشهير عند نعمة طعمة قبل سنتين، وكيف تحدث خلالها عن التسليح والسلاح وأنه أقوى من بشير الجميل وأن حزب الله أضعف من منظمة التحرير الفلسطينية، ثم جاءت مقابلته الأخيرة مع الزميل وليد عبود لتشكل دليلاً كافياً لإدانته من فمه عندما تحدث عن السلاح والتسليح و”مناطقنا”. ومن جهة أخرى، أراد حزب الله وأمينه العام برفع السقف إلى هذا الحد ولا سيما القول إننا نملك مائة ألف مقاتل مدربين مجهزين من النواة الصلبة (وليس من البيئة والحلفاء إلخ..) أن يضع حاجزاً فولاذياً أمام من تراوده نفسه خوض مواجهة داخلية معه أو جر لبنان إلى حرب أهلية يعتبرها حزب الله خطاً أحمر وبالتالي لا بد من العض على الجرح من خلدة إلى الطيونة.. لأن أي سلوك آخر هو إستجابة لمنطق الحرب الأهلية الذي يريده سمير جعجع، كما قال نصرالله.. وحتماً سيقرأ الإسرائيليون رسالة نصرالله العابرة للحدود. واللافت للإنتباه أن حزب الله بهجومه غير المسبوق على القوات اللبنانية، يفتح الباب أمام مواجهات سياسية ستنعكس حتماً في المناطق والقطاعات والجامعات، وربما تتحول أحياناً إلى إهتزازات أمنية، لكنه بدا مهتماً أيضاً بتحصين ساحات أخرى كساحة التيار الوطني الحر، على مسافة أشهر من إستحقاق الإنتخابات النيابية. لذلك، لا يبدو أن الطرفين، أي حزب الله والتيار الحر بوارد التحرر من التفاهم السياسي الشهير بينهما، ولو أن العونيين أصحاب مصلحة بتوسيع هوامشهم السياسية غب الإستحقاق الإنتخابي.. وحتماً لن يبخل عليهم حزب الله بقوة تجييرية تفيض عنه في العديد من الدوائر التي يمتلك نفوذا فيها مثل جبيل وكسروان والمتن وزحلة والبقاع الشمالي والبقاع الغربي وبيروت وبعبدا إلخ.. يحتاج خطاب نصرالله هذه الليلة إلى قراءة هادئة ومتأنية، لكن إشارته إلى موضوع تحصين المؤسسة العسكرية ووحدتها كانت إشارة لافتة للإنتباه، خصوصاً في ظل الحرب الإعلامية التي شنتها منصات السوشيل ميديا القريبة من “الثنائي” ضد الجيش اللبناني على خلفية حادثة الطيونة. وهذا الأمر يحتاج أيضاً إلى مقاربة قائمة بذاتها، لا سيما أن الجيش كمؤسسة هو ملاذ اللبنانيين الذين يرفضون التفريط بإستقرارهم ومؤسساتهم وسلمهم الأهلي ووحدة بلدهم. لا ينفي ذلك وجود أسئلة وأبرزها كيف يمكن لقائد الجيش اللبناني ألا ينزلق إلى حيث إنزلق من قبله حاكم مصرف لبنان المركزي الذي صار بحكم طموحاته الرئاسية أسير طبقة سياسية أفرطت في هدر المال العام وقطاع مصرفي أفرط في الفجع إلى حد إفلاس البلد!
! ثمة ملاحظة أخيرة: من بعد أحداث الخميس الماضي وخطابي رئيس القوات اللبنانية والأمين العام لحزب الله، لم يعد موعد الإنتخابات النيابية مقدساً، برغم كل الحديث الدولي عن قدسية هذا الموعد. لقد عدنا عمليا إلى المربع الأول: هل ستجري الإنتخابات النيابية في موعدها أم أنها ستؤجل، ولكل من الخيارين حساباتهما.. وللبحث صلة
بقلم حسين أيوب