الحريري بين إغتيالين أو.. أكثر
سليم الأسمر
يتردد مؤخراً كلام كثير في بيروت عن تسوية أبرمها زعيم تيار المستقبل سعد الحريري مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان برعاية ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، جوهرها إبتعاد الأول عن العمل السياسي لمصلحة ترتيب أوضاعه الشخصية.
إذا صحت هذه التسوية، فإن الإقصاء عن السياسة أفضى إلى عكسه تماماً: حضور الحريري في السياسة صار أكثر فجاجةً بمضامينه السياسية. إقصاؤه للمرة الثانية بعد “أزمة الرياض” في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2017، لا يعني عند جزء وازن من اللبنانيين غير إغتيال الإبن بعد مقتلة الأب رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005.
وإذا صحت فرضية الإقصاء، فإن من دبّر هكذا “تسوية” هو “عقل” لا يتردد في الإرتجال السياسي ولا يعرف التركيبة اللبنانية بتعقيداتها وزواريبها وتفاصيلها. ألم يُجبر سعد الحريري على إطلالة تلفزيونية قبل أربع سنوات، في خطاب بدا غريباً عنه، لم يكن يتوخى، سواء من خلال “الإستقالة” وباقي متمماتها، إلا إستلحاق لبنان بـ”الربيع العربي” الذي أشعل المنطقة ولم يبقِ ولم يُذر؟ ألم يستثمر قادة سياسيون من “بلاد الأرز” في “خطاب الإستقالة” بينما كان يتحضر مسرح الجريمة لشروط حربٍ أهلية أعلى من القدرة على محاصرتها؟ كان المُراد يومها الحض على قتال أشد فظاعة وأعلى كلفةً من التسويات المتقطعة التي كان يعقدها وريث الحريرية هنا وهناك للنجاة بالبلد وأهله.
اليوم أيضاً، كثر سيستثمرون في ما يحيط بالرجل وينتظره. بعضهم سيجعلها مناسبة لتصعيد أعنف مع السعودية. سيرد آخرون بالكتابة على جدرانهم الإلكترونية عواطف تمجيدية لا تثمر في السياسة. والعاطفة رخيصة حين تكون قبلية ترى إلى الرجل عصباً أهلياً لا سياسياً وطنياً كابد ما كابده على خط المشقات المحلية والإقليمية والدولية.
لقد قيل مراراً إن المشكلة في لبنان هي في سياسيين طوّروا أسوأ ما في الإجتماع الأهلي اللبناني: الطائفية وفرعها المذهبية. لكن لئن بات يستحيل الشك برغبة عميقة عند هؤلاء للإستثمار في العصب الأهلي، فقد شاع التركيز على أنهم متآمرون أو سُذج في السياسة.
قصة سعد الحريري في السياسة، تشبه، بمعنى من المعاني، قصة يوسف وإخوته. فالحريري الذي ولج أهوال السياسة اللبنانية وتناقضاتها رافعاً نعش أبيه في شوارع بيروت، لم يُدرك أن إخوته، أو أقرب المقربين إليه، أو أبرز حلفائه، سيرمونه في البئر. والشاب الآتي من عالم الأعمال والرحلات وحب التزلج وإطعام أسماك القرش، لم يدرك أنه سيكون بين مجموعة من أسماك القرش المتوحشة سياسياً أو الراغبين في الترحال السياسي من حضن هذا القنصل إلى ذاك. ففي لحظة صعبة وجد نفسه مُجبراً على الذهاب الى قصر رئيس سوريا في دمشق بطلب سعودي. يومها عاكس مشيئة جمهوره وناسه ومواقفه، وهذه أيضاً كانت خطوة مرتجلة وبلا أساسات بدليل أن محيطه وجمهوره يعتبرها إحدى أكبر الخطايا التي ستلاحقه دائماً.
كان على سعد الحريري حينها الإدراك أن من يلبي رغبةً عليه لاحقاً الإنصياع للشهوات. آنذاك رفض الإستماع إلى بعض مستشاريه بالتنحي وعدم الذهاب، لكن الرجل كان كالطير المذبوح. ردوده على “التحذيرات” كانت بوجه شاحب حد السواد.. وكانت أيضاً بالنظر إلى صورة والده والإستدارة يميناً ويساراً بحثاً عن موتٍ يُنقذه بما يمثل ومع من يمثل. الموقف الذي وضعه السعوديون فيه، سيستدرج ما لا حصر له من انتقادات وكراهيات وشماتات. لقد شكّلت هذه اللحظة أبرز المحطات السياسية قساوةً عليه وصدّعت مساره وجمهوره. مسراه اللاحق جعله مُجبَراً على الإستقالة والمسدس في رأسه وهو يقرأ إستقالته وحكومته عبر شاشة قناة “العربية” السعودية قبل أربع سنوات.
تردد آنذاك أنه كان مُخيراً بين تنفيذ الأوامر وبين الالغاء، وهذا كان الأخطر. كان الهدف تحويل لبنان الى شبيه محيطه من سوريا إلى العراق فاليمن. وكالعادة، لم يواجه الرجل، لا بل ذهب إلى تسويةٍ حاول من خلالها ممارسة فائض من البراغماتية والمصالح، لكن قواعد السياسة اللبنانية جعلته “صانع الخيبات وحاصدها”. وإذا كان تأريخ الخيبة في مسيرة سعد الحريري والحريرية يبدأ بأحداث 7 أيار/مايو 2008، فلن يتوقف عن إرتكاسه عن ثورة الأرز والذهاب إلى الأسد الإبن كما ذهب وليد جنبلاط إلى الأسد الأب. المسار الإنحداري هذا سيشتد وطأة في كل الإستحقاقات السياسية والدستورية التي توّجها بحدثين فاصلين: التسوية الرئاسية عام 2016 والخروج منها (2019) وصولاً إلى راهنه المُربك والمُرتبك.
من يتذكر مشهد سعد الحريري يعلن استقالته الملتبسة من الحكومة اللبنانية من مكان مجهول – معلوم في السعودية، لا بد أن يسأل: أيهما كان أكثر قسوة على سعد الحريري: الحلفاء؛ الرعاة؛ أم الخصوم؟ سمير جعجع أم محمد بن سلمان أم حزب الله؟ والحال أن اغتيال الحريري الأب كان قاسياً وجحيمياً، لكن اغتيال الحريرية كان أكثر قسوة وأشد وحشية لأنه فتك بمجتمعها وإقتصادها ومعنويات جمهورها في جهات لبنان الأربع. والحال أيضاً وأيضاً أن كثراً شاركوا في اغتيال الحريرية، بدءاً من حزب الله مروراً بالقوات اللبنانية والتيار الحر وصولاً إلى بعض الانتهازيين الذين يزايدون في حب الحريري، ولكنهم يُقدمون مصالحهم على أي إعتبار آخر.
الأسوأ من ذلك أن الدور الابرز في اغتيال سعد الحريري سياسياً تمثل في السياسة السعودية الضبابية حيناً والمتشنجة أحياناً تجاه لبنان، وهي تنعكس قبل كل شيء على سُنة لبنان.. الذين يزدادون إحباطاً ويتصرفون كأنهم أقلية في لبنان وفي كل هذا البحر الإسلامي العربي الذي يُحيط بهم!
حتى الآن، لم يتحدث سعد الحريري ـ ولن يتحدث ـ عن ذلك اليوم المشؤوم في سيرته السياسية. بقي صامتاً محافظاً متحفظاً حرصاً على عائلته ومجموع مصالحه التي ضاعت وأضاعته. كل التسريبات أشارت إلى أن الحريري تعرض لعملية إستدراج وإختطاف ولما يشبه الاغتيال السياسي المعنوي على يد ولي العهد السعودي وبخطة أعدها ثامر السبهان، في وقت كانت بعض القوى السياسية الأخرى تستثمر في المشهد إياه. فإذا كانت قوى وشخصيات سياسية وازنة، أولها خصمه حزب الله فنبيه بري، ثم وليد جنبلاط وميشال عون، تضامنت مع الحريري، ودعت إلى وجوب عودته إلى بيروت ليعلن من العاصمة اللبنانية إستقالته، فإن سمير جعجع بدا مهتماً بنص الإستقالة أكثر بكثير من شخص سعد الحريري وسلامته. آنذاك تبدى نفاق الوطنية اللبنانية والشراكة الإسلامية المسيحية بأبشع صوره. واقعة ستدمغ تاريخ رئيس حزب “القوات اللبنانية” المعروف بـ”فائض الإنقلابات”!
سمير جعجع الذي اختار ميشال عون رئيساً بعد “إتفاق معراب” مع جبران باسيل، وجد أن الحسابات في غير صالحه، فبات يضع اللوم على سعد الحريري الذي كان حاسماً بخيار تبني ترشيح سليمان فرنجية لولا إنقلاب “الحكيم” عليه. وحين أُجبر رئيس حكومة لبنان على اعلان إستقالته، قال جعجع إن المسؤولين السعوديين ممتعضون مما يجري في لبنان “واستقالة الحريري لم تكن مفاجئة في الجوهر وإنما في التوقيت”. كان جعجع يُحرّض على التسوية التي أبرمها الحريري ويستثمر مواقفه في السعودية وبالدرجة الأولى عند جهاز مخابراتها، بينما كان جبران باسيل يستثمر في سفارات العالم بحثاً عن الرئاسة، مع أن الأخير مارس كل أنواع الاستفزاز السياسي والطائفي والعنصري، الذي باعد يوماً بعد يوم بين الحريري وجمهوره. بمعنى ما، كان باسيل شريكاً في تكريس الاحباط السني من خلال الاعتداء المقصود والموصوف والمبرمج والمنسق على صلاحيات رئاسة الحكومة (بلغ الأمر بالحريري أن طلب من مرشحين سنة للفئة الأولى أن يقابلوا باسيل أولاً).. والهدف ايهام الجمهور المسيحي بأنه يعزّز موقع رئاسة الجمهورية. في الواقع، كان خطف الحريري القشة التي قصمت ظهر البعير. ولقد تزامن ذلك مع بدء تجفيف منابع الحريرية السياسية. فالنافل أن شركة “سعودي أوجيه” لم تكن مدخل رفيق الحريري إلى عالم أصحاب المليارات فقط، بل إنها فتحت له أبواب النفوذ السياسي في كل من الرياض وبيروت ودمشق على مصراعيها.. والشركة التي تأسست نتيجة صفقة اندماج ضم فيها الحريري الأب شركة “أوجيه” الفرنسية إلى شركة العقارات السعودية الخاصة به، لتكون “سعودي أوجيه”، يمكن القول بحسب تقرير لـ”موقع الجزيرة” إنها شاركت في بناء أساسات المملكة العربية السعودية في شكلها الحديث.
ولعل تاريخ “سعودي أوجيه” هو تأريخ لسيرة أمبراطورية مالية.. وكلنا نعرف عبر التاريخ أن الأمبراطوريات ليست أبدية.. هكذا أدى تبدل الأحوال السعودية إلى تبدل أحوال الشركة وصولاً إلى تبدُدها تحت وطأة الشائعات والوقائع. كان هذا طبيعياً فالسلطة قرينة المال. تجربة “سعودي أوجيه” تقول ذلك، وتقوله بشكل أوضح وعلى نحوٍ فاقع “شركة بن لادن للمقاولات”، فيوم سقوط الرافعة نتيجة “عاصفة مفاجئة” بالحرم المكي كان يوم سقوط الشركة وما أقامته من شراكات مع الملوك والأمراء.
لم يكن توقف العقود الخاصة بـ”سعودي اوجيه” مع مملكة بدأت خطة تخفيض نفقاتها مواكبة لظروف أزمتها المالية الناتجة عن إنخفاض أسعار النفط، مصدر الإمداد الأول للإقتصاد السعودي، هو السبب وحده. قررت الحكومة السعودية التوقف عن سداد مستحقات مالية للشركة بلغت قيمتها حوالي ثمانية مليارات دولار. عملياً، بدأت الحكومة السعودية بسحب البساط من تحت أقدام عملاق المقاولات اللبناني، وتقويض مشاريعه ونقلها إلى شركات أخرى، مع إستمرار إيقاف صرف المستحقات، فكان لا بد من اللجوء إلى البنوك السعودية التي أقرضت الشركة حوالي ملياري دولار سنة 2011، وهو العام الذي مثّل بداية النهاية لـ”سعودي أوجيه”، كما لصاحبها سعد الحريري وباقي إخوته.
مع رحيل الملك عبدالله وظهور محمد بن سلمان على رأس نظام جديد في الرياض، كانت “سعودي أوجيه” تتجه إلى إعلان إفلاسها بعد فشل “المفاوضات الشرسة” التي خاضتها مع الحكومة السعودية للحصول على مستحقاتها القديمة. راحت صورة الحريري تهتز وتتصدع أكثر فأكثر فيما هو يبحث عن سفينة نجاته. في هذا السياق، بدأ رئيس تيار المستقبل يبحث عن موضعه وتموضعه في لبنان: إختار التسوية مع ميشال عون لتزيد الطين بلة في مسيرته المتصدعة. حصل هذا، في وقت كان سعد الحريري مادةً لتقارير أمنية ضمت ما يُحتمل وما لا يُحتمل. دبّجها من إعتاد ومن لا يمكن تصور أنه من “الكتبة”. تقارير غزيرة ومتكاثرة بكثرة أهل بيته وحلفائه المزعومين في “14 آذار”. هذا يريد لواء الزعامة السنية، وذاك يطمح ليكون رئيساً للجمهورية وذينك يتطلع إلى موقع نيابي أو وزاري أو إلى رصيد مالي. قبل هذا وبعده، فقد عزّ على هؤلاء أن يكون سعد الحريري بوابتهم إلى المملكة ومصرفهم في لبنان. لقد أرادوه قتيلاً سياسياً بأي حالٍ من الأحوال. سعوا فرادى وجماعات ليكون رأس حربة في مواجهة حزب الله بينما كان هو يعتبر أن هذا الحزب “مشكلة إقليمية” لا يمكن مواجهتها بأدوات محلية!
راحت الخسارات تتراكم في مسيرة الحريري. التصدع المالي كان كافياً لظهور عشرات “الذئاب”. بات محاصراً بين أسرته: بعض أخوته يريدون أموالاً. شقيقه الأكبر الطامح للانتقام السياسي بعد سنوات من الصمت. أركان الطائفة السنية الذين يزايدون عليه في المواقف النارية من دون القدرة على فعل شيء. “الحلفاء” الذين يبتزونه بكل شيء وفي كل مكان. الوصاية السعودية التي لا تريد السماع باسمه.
كل الوقائع كانت ضد سعد الحريري: مالياً بعد انهاء “سعودي أوجيه”؛ إعلامياً بعد إقفال وسائل إعلام تيار المستقبل كلها؛ سياسياً بعد إقفال مملكة محمد بن سلمان أبوابها بوجهه؛ إقليمياً إحتدام مناخ الإشتباك خاصة بعد حرب اليمن. وإلى الوقائع هذه، أُضيفت قلة درايته بأحوال السياسة اللبنانية. لقد أخطأ خصومه بتقدير أهميته في المعادلة اللبنانية للحيلولة دون إنفجار البلد فأنهكوه بقدر ما طعنه الحلفاء. عليه، نحن أمام سؤال ستجيب عنه الأشهر المقبلة وليس طلته المزمعة قريباً بعد عودته إلى بيروت: هل يعتزل سعد الحريري السياسة؟ ربما (نسبتها 1%)، لكن الأهم: هل من بديل يلبي طموح الشارع السني؟
إذا كان رفيق الحريري قد قُتل على يد عنصر أو عناصر من حزب الله، حسب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فإن السعودية إغتالت إبنه سعد الحريري سياسياً، حسب محكمة الرأي العام اللبناني.