الجراحة القلبية بين البدايات المتواضعة والحاضر الحافل بالتقدّم والإنجازات في كل الإتجاهات!؟
نستكمل هذه السلسلة من المقالات حول واقع امراض القلب والشرايين في لبنان والعالم في العام 2022، ونحاول في هذا الجزء الخامس عشر إيجاز اهم ما ورد في الأجزاء السابقة ونستعرض اهم المحطات التاريخية التي شهدت تطوير هذه الجراحات واهم انواع الجراحات والتقنيات المتوفرّة حالياً، وكيف تمّ ذلك التدرّج في تطوير التقنيات مع الوقت وما هو الواقع الذي نحن فيه حالياً.
لقد تطورت الجراحات القلبية والشريانية بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة بحيث أصبحت من أكثر الجراحات إنتشاراً. وقد شملت التطورات الحاصلة في هذا المجال إستراتيجيات أخذ القرار الجراحي، الخبرات والتقنيات الجراحية المتنوعة،وعي أكبر لمتابعة المريض ما بعد الجراحة بهدف تخفيض الوفيات والإختلاطات والمشاكل الجانبية قدر الأمكان وبهدف الحصول على أفضل هدف في المدى البعيد. وفي خط متوازٍ فقد طوّر أطباء وجراحو القلب كما شرحنا في الأجزاء السابقة الطُرق الغازية أو التدخلية (Interventional or Invasive Theray) التي أخذت حيزاً كبيراً – لا يزال يتعاظم كل يوم- في مجال علاج جميع انواع امراض القلب والشرايين، وكذلك تقنيات جراحية أقلّ غزواً أو تغلغلاً في الجسم
(Minimally Invasive Heart Surgery)، كنا ايضاً قد شرحنا اهميتها والدور الكبير الذي تحتلّه حالياً في جراحة القلب خاصة للدول المتقدمة ذات القدرات الإقتصادية الكبيرة والتي تستطيع مستشفياتها إعداد اطقمها الطبية افضل إعداد وبكفاءة عالية لإجراء هكذا جراحات، وكذلك إقتناء افضل وآخر ما توصّلت اليه صناعة المعدّات الطبية والهندسة الطبية لجهة تصغير حجم الأدوات والآلات الجراحية المُستعملة في هذا المجال، وهو الآخذ ايضاً في التوسّع في كل او معظم مجالات جراحة القلب كما اشرنا سابقاً .وهذا ما سمح كما اشرنا ايضاً بأن تتوسع الجراحات والعمليات القلبية لكي تشمل مرضى أكثر تقدماً بالسنّ أو يعانون من أمراض أخرى مُتعدّدة لم تكن تسمح بعلاجهم قبل حوالي عشرين سنة.
1- لمحة تاريخية:
لقد أجريت أول جراحة قلبية على قلب مُغلق سنة 1948 حيث تمّ علاج مرض إنسداد الصمام التاجي للقلب بواسطة إدخال أصابع الجراح إلى داخل القلب مروراً بالجيب الأذيني الأيسر وحيث كان الجراح يقوم وقتها بتوسيع هذا الصمّام إما بواسطة أصابعه أو عن طريق توسيع حلقة الصمام التاجي ميكانيكياً بواسطة جهاز مُخصّص لذلك ( Ch. Bailey, Philadelphia, D. Harken, Boston) . ومع تطوير جهاز المضخة القلبية – الرئوية التي تسمح بتوقيف القلب والرئتين وإجراء العمل الجراحي في القلب، تمّت أولى الجراحات القلبية على قلب مفتوح ( Open heart suregery) في سنة 1955 في الولايات المتحدة الأميركية، على يدّ الجراح ( W. Lillehi, Mineapolis) وقد توجّهت الجراحات القلبية في البداية لعلاج التشوهات الخلقية للقلب
( Cardiac defects, Tetralogy of Fallot) وفيما بعد تمّ تطوير جراحات الصمامات القلبية ( Valvular Surgery) مع ظهور أول صمامات قلبية إصطناعية في سنة 1960 .(D. Harken and A. Starr).
وفيما بعد سمح تطوّر الجراحات الشريانية الرفيعة بتطوير جراحة “شرايين القلب التاجية” أو “الأكليلية” مع إستعمال أوردة الساقين على يد الطبيب الأميركي من اصل ارجنتيني
(Falvaro) والشريان الداخلي للثدي (الصدر) على يدّ ( Green). وقد ظهرت هاتين الوسيلتين في سنة 1967. وفي سنة 1977 أحرز الطبيب السويسري
من أصل نمساوي (Andreas Gruntzing) تقدّماً هائلاً في مجال علاج أمراض القلب مع إبتكاره تقنيات توسيع الشرايين بواسطة البالون (الغير جراحية) لتوسيع الشرايين القلبية. وهذا كان بمثابة ثورة أولى كبيرة في مجال علاج أمراض القلب وسمح بحدوث ثورات أخرى متتالية في هذا المجال كما سنرى لاحقاً. في موازاة التقدّم الحاصل جراحياً كان جرَاحون آخرون يعملون في مجال زراعة القلب بحيث تمّت أول زراعة للقلب الطبيعي على يدّ الطبيب الجنوب أفريقي (Christian Barnard) في سنة 1967. وفيما بعد مع إكتشاف الأدوية المعالجة للمناعة وخاصةً دواء ال
(Ciclosporin) في سنة 1980 حدثت تطورات كبيرة في مجال زراعة القلب في موازاة تطوير أجهزة “إصطناعية ميكانيكية مُتعددة لمساندة عضلة القلب” في حالات فشل او قصور القلب وتطور عمليات البحث عن القلب الإصطناعي الكامل. وحالياً من المُمكن القول أن جراحة القلب والشرايين أصبحت مُنتشرة بشكلٍ كبير في معظم الدول المتقدمة وفي العالم العربي ولبنان وأن عدد العمليات التي تحصل في لبنان مثلاً في إزدياد مستمر منذ سنوات (حوالي 4000 إلى 4500 عملية سنوياً -وهذا ما كانت تشير له الإحصاءات قبل إندلاع الأزمة في لبنان. لكن عدد العمليات تراجع بنسبه 40الى 50 % على الأقل في السنتين الأخيرتين اللتين تلتا الأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية الخانقة التي تعصف ب لبنان منذ حراك 17 تشرين 2019 وحتى اليوم). كذلك فإنّ حوالي 80 الى 90% من هذه العمليات تجري مع إستعمال جهاز القلب والرئة الإصطناعي الذي يسمح بتحويل الدورة الدموية إلى خارج الجسم من أجل شحنه بالأوكسجين والتمكّن من توقيف القلب من أجل إجراء الجراحة بشكلٍ دقيق خاصة وان نسبة إجراء العمليات عبر “تقنيات القلب النابض” (Beating heart or (Off-Pump Surgery بقيت محصورة جداً بنسبة متواضعة من المرضى كما شرحنا وسنشرح لاحقاً. ونشير إلى أن حوالي %45 من جراحات القلب هي جراحات شريانية (جسور أبهرية -تاجية للقلب)، و %45 منها هي جراحات في الصمامات (تغيير أو ترميم الصمامات)، و %7 منها هي من أجل إصلاح التشوهات الخلقية للقلب عند الأطفال حديثي الولادة او ما بعد ذلك. وأخيراً هناك %3 من الجراحات المُختلفة ومن ضمنها عمليات زراعة القلب الطبيعي وتركيب الأجهزة الميكانيكية لمساندة القلب . وقد شهدت جراحة الشرايين تطوّرات مهمة بين سنة 1970 وسنة 1980 من القرن الماضي. ففي حين أن أسباب جراحات الصمامات تغيّرت بشكلٍ كبير مع إنخفاض نسبة المرضى المصابين بالحمى الرثوية أو الروماتيزمية
(Rhumatismal Valvular Disease) وزيادة نسبة المرضى المُصابين بترهّل الصمامات (Degenrative Valvular Disease) الناتج عن التقدّم بالسنّ الذي نراها حالياً خاصةً عند المرضى المُسنّين، والذين يعانون بسبب ذلك من إصابات أكثر خطورة ومن أمراض أخرى مُتعدّدة مثل القصور الكلوي أو الرئوي أو ترقق العظام او امراض المفاصل على انواعها وغيرها من الأمراض. وهذا ما يجعل العمل الجراحي أكثر صعوبة لديهم.
2- المضخة القلبية – الرئوية الإصطناعية( Extra Corporel Circulation) :
كما ذكرنا مراراً في الأجزاء السابقة، فهي جهاز يهدف إلى تحويل كامل للدم من القلب والرئتين إلى خارج الجسم للسماح بالقيام بالعمل الجراحي، بينما يكون قد تمّ إيقاف القلب كلياً لإجراء الجسور الأبهرية-التاجية أو لترميم أو تغيير الصمامات. ومن أجل ذلك يتمّ زرع مجموعة من الأنابيب في الوريد الأجوف أو في الأذين الأيمن. بحيث يتمّ سحب الدم إلى الخارج عبر شبكة من الأنابيب مُشبعة بمادة مُضادّة للتجلّط تُدعى الـ( Heparin) من أجل منع تجلّط الدم. وهي موصولة على جهاز يشحن هذا الدم بالأوكسجين ويلعب دور الرئتين. وبعد ذلك يتمّ ضخ الدم المُشبع بالأوكسجين بواسطة مضخة تلعب دور القلب وتضخ الدم إلى داخل الشريان الأبهر الصاعد من القلب بواسطة أنبوب آخر مزروع فيه. ويتمّ إذا زراعة هذه الأنابيب في الشريان الأبهر وفي الوريد الأجوف أو البطين الأيمن في بداية العملية بعد إعطاء مادة
الـ( Heparin)، ومن ثم يتمّ تشغيل هذه المضخّة الخارجية التي يشرف عليها الطبيب المُتخصّص في هذا المجال. وعندما يتمّ توقيف القلب يُصبح من الممكن إجراء الجراحات الدقيقة في الشرايين أو الصمامات وغيرها من الجراحات بسهولة اكثر لو لم يتمّ إيقاف القلب. ومن أهم المشاكل التي تُواجه الجراحيين هي كيفية الحفاظ على وظيفة عضلة القلب خلال فترة توقيفه. وهنا يأتي الكلام الكثير عن أهمية الحماية القلبية
(Cardiac Protection or Preservation) والذي يتمّ عبر حقن مواد مُختلفة في شبكة الشرايين التاجية للقلب، وهي مواد قد تكون كيميائية مثل الحال في حقن مادة البوتاسيوم للحصول على توقف قلبي كامل أثناء الجراحة، أو من خلال حقن مواد أخرى باردة تتسبب في شلل مؤقت لخلايا القلب (Cold Cardioplegia). وهذا الإنخفاض في الحرارة يُؤدّي إلى خفض إحتياجات الطاقة في الخلايا العضلية القلبية بنسب قد تصل إلى %90 تقريباً من إحتياجاتها الطبيعية. وهذا ما يسمح بإجراء الجراحات القلبية المتعددة دون حصول ضرر كبير في الخلايا العضلية وموت بعضها خلال العملية.لكن هناك مشكلة اخرى قد تُواجه الجراحين وهي عدم إمكانية إعادة إقلاع ونبض القلب ولعبه دور المضخة الطبيعية المطلوب منه ان يلعبه، وهي مشكلة تحصل خاصة عند المرضى الذين يُعانون من قصور مُتقدّم في عضلة القلب قبل حصول العملية الجراحية.
3- أهم أنواع الجراحات القلبية والشريانية الحالية: هناك عدة أنواع من الجراحات التي سوف نتكلّم عنها بشكل مُختصر:
A- جراحات الصمامات القلبية: وهي قد تكون على نوعين:
1- الجراحات الترميمية أو التصليحية
(Conservative Surgery) وهي تطوّرت كثيراً بفضل الجراح الفرنسي
(Alain Carpentier) الذي ذكرناه كثيراً في الأجزاء السابقة، خاصة فيما يتعلق بجراحة الصمام التاجي للقلب وهو مخترع الحلقة التي تحمل اسمه والتي لا تزال تُستعمل حتى اليوم في معظم عمليات ترميم هذا الصمام والتي الهمت ايضاً الكثير من الإبتكارات من اجل علاج هذا الصمام دون الحاجة الى عملية قلب مفتوح اي بطرق اقل غزواً او تغلغلاً من الجراحة الكلاسيكية . وقد كانت عمليات توسيع إنسداد هذا الصمام من أولى الجراحات التي أجريت في البداية ولكن تطوير تقنيات الطب التدخلي للقلب بواسطة القسطرة او التمييل سمح للطرق الغازية (Interventional or Endovascular Therapy) بأخذ مكان كبير في علاج هذه الإنسدادات عبر إيصال بالون صغير إلى منطقة إنسداد الصمام التاجي وتوسيعه عبر نفخ البالون من الخارج دون الحاجة إلى إجراء عمل جراحي. وهذه التقنيات لا تزال لها دور كبير في علاج المرضى الذين يعانون من إنسداد الصمام التاجي للقلب في العديد من الدول النامية مثل الهند وبنغلادش وباكستان ومصر والسودان واليمن وبعض دول اميركا الجنوبية وغيرها، حيث لايزال هناك إنتشار كبير لمشاكل الصمامات التاجية للقلب الناتجة عن الحمى الرثوية أو الروماتيزم.
أما في حالات تهريب او قصور أو إنسدال الصمام التاجي (Mitral Regurgitation) فهناك حالياً وسائل ترميمية كثيرة للعلاج مثل وضع حلقة (حلقة Carpentier التي ذكرناها سابقاً)، في مكان التوسيع وتقطيب وريقات الصمام عليها لمنع التهريب، أو إصلاح أو إستئصال الأنسجة الزائدة أو المتقطعة. ولذلك فإنّ أكثر من 50 إلى %90 من مشاكل الصمام التاجي الجراحية من المُمكن علاجها بواسطة هذه العمليات الترميمية دون الحاجة إلى تغيير كامل الصمام. وهذا مايسمح للمريض بألّا يحتاج لصمام إصطناعي، وبالتالي يُوفّر عليه مخاطر إستعمال الأدوية المضادة للتجلّط التي يجب تناولها في حال زراعة صمام إصطناعي خاصة إذا كان هذا الأخير معدنياً.
B- جراحة تغيير الصمامات Valves) Replacement):
وهنا اطلب من القارئ الكريم مراجعة القسم المُتعلّق بالصمامات الإصطناعية الذي سأنشره لاحقاً ضمن هذه السلسة حول جراحة القلب. ولكننا وبإختصار شديد نشير إلى أنه يوجد هناك حلّين:
1- الأول يتمثّل بأخذ صمام طبيعي مأخوذ من جثّة أحد الأشخاص المُتوفين ( Homograft) خلال الساعات الأولى بعد الوفاة. ولكن يجب أن نشير إلى أن هذه الصمامات نادرة جداً بسبب صعوبة تخزين هذه الصمامات والصعوبات الأخرى المُتعلقة بإستخراجها من الجثث بسبب الضوابط والقوانين المختلفة في كل دولة وأمور أخرى لها علاقة بالأمور الدينية والفلسفية والأخلاقية والطقوس والمُعتقدات المُختلفة الموجودة عند الشعوب.
أما الصمامات الإصطناعية، فهي كما نعلم على نوعين “معدني” و”بيولوجي”. ولكل منها حسناته وسيئاته الخاصة به. أخيراً نشير إلى إمكانية أخذ الصمام الرئوي عند المريض ذاته وزرعه مكان الصمام الأبهر( Allograft) في بعض الحالات التي يتعرّض فيها هذا الأخير لأضرار كبيرة ناتجة عن إلتهابات خطيرة فيه، كما في حالة إلتهابات البطانة الداخلية للقلب أو ” إلتهابات ذات الشغاف المعدية” (Infective Endocarditis). وهذا ما يقوم به الجراحون خاصة عند الأطفال. وتسمى هذه الجراحة بأسم جراحة (ROSS) وهو أسم الجراح الذي قام بها لأول مرة.
C- جراحة الشرايين التاجية للقلب (Coronary Artery Baypass Graft: CABG): وهي جراحات نلجأ إليها في حال كانت الإصابات الشريانية مُنتشرة كثيراً ومُتعدّدة أو مُتكلّسة جداً على الشرايين التاجية للقلب. بحيث لا يسمح ذلك بالعلاج بواسطة تقنيات التوسيع بالبالون والرسور. ويقوم مبدأ هذه الجراحة على مدّ جسور لإيصال الدم إلى المناطق المحرومة من وصول الدم ( Bypass or Graft). وخلال هذه الجراحة من المُمكن إستعمال أوردة الساقين (Vein) التي يستعملها الجرّاح لمدّ جسر من الشريان الأبهر إلى الشريان التاجي في المنطقة الموجودة تحت الإنسداد. وهذه الأوردة تستعمل عادةً لمدّ جسر إلى “أحد الشرايين الفرعية” او “غير الأساسية من الشريان الأيسر للقلب (Marginal or Diagonal Arteries) أو إلى الشريان الأيمن للقلب. وفي الحالات الأخرى، وهي الحالات الأخطر والأهمّ والتي تُعطي نتائج افضل على المدى البعيد، يتمّ إستعمال شريان الصدر الداخلي (الشريان الداخلي للثدي) الأيسر
(Left or Right Internal Mammary or Thoracic Internal Artery). بحيث يتمّ تشريج هذا الشريان في داخل الصدر وزرعه على الشرايين التاجية للقلب تحت المناطق المسدودة. وفي غالب الأحيان يتمّ زرعه على الشريان الأمامي النازل (Left Anterior Descending Artery). وقد يتمّ أيضاً في بعض الحالات إستعمال الشريان الصدري الداخلي الأيمن الذي غالباً ما يتم زرعه على الشريان الخلفي أو الشريان المنعكس للقلب (Circunflex Artery) أو على الشريان الأيمن للقلب (Right Coronary Artery). وفي بعض الحالات الأخرى يتمّ إستعمال الشريان الكعبري (Radial Artery) الذي يتمّ إستخراجه من المعصم أو ايضاً الشريان المعدي – الثربي او الأمعائي (Gastro-Epiploic Artery). وهو أحد الشرايين التي توجد في البطن وتُغذّي بعض اجزاء المعدة. لكن إستعمالات هذين الشريانين الأخيرين نادرة ولهما مضاعفات وسلبيات كثيرة. ولذلك من المعروف حالياً أن الجراحة الأفضل للشرايين التاجية للقلب تستعمل الشريانين الداخليين للثدي (الأيسر والأيمن) وعدة أوردة من الساق بحسب حاجة المريض. ومن حسنات إستعمال الأوردة هي كون هذه الجراحات بسيطة نسبياً ومن المُمكن إستعمال الأوردة لزرعها على كل الشرايين التاجية للقلب تقريباً. بينما من أهم سيئاتها هي إمكانية مُعاودة مرضها وإنسدادها بسرعة بعد زرعها، خاصة بعد مرور حوالي عشر سنوات على زراعتها او حتى قبل ذلك في بعض الاحيان، وأنه لا يُمكن أن نستعملها إذا لم تكن مُتوفّرة عند المرضى الذين خضعوا لعمليات جراحية بسبب “مشاكل الفاريس في الساقين” أو عند الذين يُعانون من مرض أوردة مُتقدّم (فاريس مُتقدّم مع أو بدون وجود تقرحات في الساقين).
أما الشرايين الداخلية للثدي فهي تدوم أكثر، بحيث أنها تبقى فعّالة لمدة أكثر بنسب قد تصل إلى %90 على مدى 10 سنوات او اكثر. وأما سلبياتها فكونها “عددها أثنين فقط في الجسم” وكون طولها قصير نسبياً بحيث أنه لا يُمكن زرعها على كل الشرايين التاجية للقلب. وأخيراً قد لا نستطيع إستعمالها في حال كان المريض يعاني من تصلّب أو إنسداد في “الشريان الما تحت ترقوي” ( Sub Clavian Artery) قبل ان يتمّ علاج هذا الإنسداد اذا كان ذلك مُمكناً.
ولكل ما تقدّم، تُوصي جميع الجمعيات العلمية الأميركية او الأوروبية المُختصّة حالياً بمحاولة “إستعمال اكبر عدد ممكن من الشرايين” (Full Arteries (Revacularisation لتركيب الجسور التي ذكرناها لأن نتائجها افضل على المدى البعيد.
D- التقنيات الجراحية البديلة أو الجديدة: هناك تقنيات جراحية ظهرت حديثاً تهدف إلى تخفيف نسبة الإختلاطات الجانبية أو الوفيات الناتجة عن “الجراحة الكلاسيكية” وهي كلها قيد التقييم والتطوير حالياً ومنها تقنيات قطعت شوطاً كبيراً في التقدّم واصبحت مُستعملة في الكثير من المراكز الجراحية المُتقدّمة كما شرحنا سابقاً. ولكن هذه التقنيات لن تحلّ نهائياً محلّ الجراحة الكلاسيكية ولم تأخذ بعد مكانها الروتيني في معظم مراكز جراحة القلب في العالم خاصة في الدول الفقيرة والنامية ذات الإقتصادات المتوسّطة او المتدنّية. ومن أهم هذه الجراحات:
أ- الجراحة من دون توقيف القلب
(Beating Heart or Off-Pump Coronary Artery Bypass Surgery). وهي جراحة لها بعض روّادها والمُدافعين عنها عبر العالم. وتقوم على مبدأ عدم إيقاف القلب خلال الجراحة وبالتالي عدم إستعمال المضخّة القلبية الرئوية الخارجية. وبحيث يتمّ ايضاً إستعمال أجهزة لتثبيت القلب نسبياً خلال العمل الجراحي وهي تُسعمل حالياً في حوالي 10 الى 20% من الحالات تقريباً بحسب مهارة وخبرة الجراحين وحالة المريض وامور اخرى سنشرحها لاحقاً تفصيلياً. وتسمح نظرياً بإجراء عمليات عند مرضى وضعهم الصحي أصعب إن من ناحية وجود خلل أكبر في عمل عضلة القلب، أو من ناحية وجود مشاكل صحية أخرى رئوية أو كلوية أو غيرها. وهي تتمّ عبر فتح القفص الصدري فتحة أصغر من الفتحة التي تستعمل في الجراحة الكلاسيكية، وإستعمال أجهزة تساعد في تثبيت القلب نسبياً لإجراء عملية زرع الجسور وتوصيلها. وهذه الجراحة لها الكثير من المدافعين عنها عبر العالم والذين يستعملونها بشكلٍ كبير عند عدد كبير من مرضاهم لكنها مُنتقدة كثيراً من آخرين الذين يجدون فيها سلبيات كثيرة ويقولون انها لا يُمكن ان تحلّ مكان الجراحة الكلاسيكية لأسباب متعدّدة.
ب- الجراحة الأقل غزواً وتغلغلاً في الجسم ( Minimally Invasive Bypass Grafting : MIDCAB):
وهي جراحات تهدف إلى إجراء العملية الجراحية عبر إحداث فتحات صغيرة الحجم في الصدر وإدخال كاميرا صغيرة مُكبّرة يتمّ تحريكها يدوياً أو عبر إستعمال جهاز أوتوماتيكي آلي صغير (Robot). وهذا ما يسمح في الحالتين بتشريح شريان الثدي الداخلي وزرعه على أحد الشرايين التاجية للقلب، أما عن طريق ترك القلب نابضاً ( Beating Heart Surgery)، وأما عن طريق إيقاف القلب بعد إستعمال مضخة قلبية – رئوية إصطناعية يتمّ زرعها في منطقة الفخذ ( Femoral Access) بدل زرعها على الشريان الأبهر مما قد يُخفف من بعض الإختلاطات الجانبية. وتهدف هذه الجراحة إلى إيجاد تروية للقلب أقل ضرراً في القفص الصدري وذلك لتفادي الأعراض الجانبية لفتح القفص الصدري الكامل (Sternotomy)، خاصة إذا ما كان المريض يعاني من مشاكل صحية مختلفة خاصة رئوية. وقد تكون الأهداف فقط تجميلية لتفادي إحداث جرح كبير ومُشوّه في الصدر عند بعض المرضى الذين يطلبون ذلك. لكن هذه الجراحات ليست عملية كثيراً في حال كان هناك عدة إصابات شريانية. ولذلك فهي تستعمل فقط في حال كان هناك جسر أبهري تاجي واحد او اكثر حالياً في بعض المراكز الأوروبية المتطوّرة التي اتقن فيه الجراحون جيداً هكذا تقنيات ووسّعوا حالات إستعمالها بشكلٍ كبير خاصة في المراكز الجراحية الألمانية تحديداً كما ذكرنا سابقاً. ولكنّ هذه الجراحة ليست مثالية من أجل جراحة الشريان الأبهر لأنه يوجد مباشرة وراء عظمة القص( Sternum). في المقابل فهي تساعد كثيراً في تشريح شريان الثدي الداخلي وفي جراحة الأذينين الأيمن والأيسر وإستئصال الأورام والجلطات منهما وفي إصلاح الثقوب التي قد توجد بين الأذينين وفي جراحة الرجفان الأذيني الليفي وجراحة الصمامات. وقد يستعملها الجراحون أيضاً في جراحات بعض الأمراض الخلقية المُعقّدة للقلب عندما تزداد خبرتهم في إستعمالها. أما من الناحية التقنية البحتة، فهذه التقنيات تحتاج إلى آلات مُتخصّصة وإلى تدريب مُتخصّص ومُتمرّس على إستعمال مثل هذه الأجهزة. ومن أهم قواعد وأهداف هذه الجراحة الأمور التالية:
A- “فتحة جراحية صغيرة وقليلة الغزو” مع عدم إستعمال آلآت غازية كبيرة لإبعاد عظام الأضلاع الصدرية عن بعضها. وهذا ما يمكن إجراءه فقط مع فتحة في الجلد لا تتعدّى الـ 5cm مع العلم أن هذا الهدف التجميلي ليس من الأهداف الأساسية لهذه الجراحة ولكنه اصبح مطلوباً من طرف الكثير من المرضى حالياً خاصة من المرضى الأناث.
B- عدم إستعمال مضخة قلبية–رئوية خارجية كبيرة والأكتفاء بمضخة أخرى تدعى ( Heart Post or Endo Clamp) يتمّ وصلها عبر الجلد في الشريان والوريد الفخذي، بحيث يتمّ نفخ بالون صغير في الشريان الأبهر لمنع تقدّم الدم إلى الأمام ومن أجل تروية الشرايين التاجية للقلب بالمادة التي نختارها لتوقيف القلب. ويتمّ شفط الدم من الأذين الأيمن بواسطة أنبوب يتمّ زرعه في الوريد الفخذي أو في الوريد الوداجي الخارجي أو في كلاهما. لكن هذه التقنية مُكلفة وصعبة التطبيق ولها بعض الإختلاطات الجانبية الخطيرة، ولذلك هي ليست مستعمله كثيراً ويستعاض عنها بالتقنية الكلاسيكية أي بوضع أنبوب في داخل الشريان الأبهر. ويتمّ منع الدم من التقدّم بواسطة “ملقط كبير” (Clamp) وهذا ما قد يعيق إعادة إستعمال هذه الطريقة في حال الحاجة إلى إجراء عملية قلب جديدة في المستقبل.
C- التمكّن من الرؤية والتشريح بشكلٍ أسهل بعد أن يتمّ تكبير الصور الملتقطة عبر الكاميرا وهذا ما يسهل العملية بشكلٍ كبير.
D- تخفيف نسبة الأوجاع الصدرية الناتجة عن الجرح وتخفيف نسبة إضطرابات ضربات القلب والسماح بفطام سريع للمريض عن جهاز التنفس الإصطناعي وتخفيف كمية الدم التي قد يتمّ هدرها خلال العملية وبالتالي تخفيف الحاجة إلى تمرير وحدات دم جديدة للمريض.
E- تقصير فترة الإستشفاء بشكلٍ كبير وتسهيل معاودة العمل بسرعة وتقصير فترة الراحة اللازمة لإسترجاع النشاط الطبيعي للمريض. وهذا ما يسمح له أيضاً بالعودة السريعة إلى القيام بكل نشاطاته الأخرى الرياضية خاصة إذا كان من المحترفين.
ج- إستعمال الليزر ( Trans Myocardial Laser Reavascularization : TMLR):
وهي تقنية جديدة أيضاً قيد التقييم في حال وجود مرض تصلّب شرياني تاجي مُتقدّم لم يتحسن رغم كل العلاجات المُتوفّرة الأخرى أي بواسطة الأدوية أو البالون والرسور أو الجراحة أي أن كل وسائل إعادة تروية العضلة قد أستُنفذت وبقي المريض يعاني من أعراض وآلام صدرية في حالة الراحة أو عند القيام بأي مجهود. وهنا نلجأ لهذا العلاج الذي يهدف إلى إيجاد تروية بديلة في عضلة القلب في الأماكن المحرومة من التروية الطبيعية وذلك عن طريق تطبيق طاقة شديدة في بعض مناطق البطين الأيسر بهدف إيجاد ثقوب أو أقنيه قطرها تقريباً واحد ملم. ولكن فعاليّة هذه التقنيات لا تزال قيد الدرس وغير ثابتة ومن المُمكن إستعمالها بشكلٍ متوازٍ خلال إجراء العمليات الجراحية القلبية الكلاسيكية مما قد يُحسّن بعض الأعراض عند بعض المرضى المُصابين بتصلّب خطير ومُعقّد في شرايين القلب. لكن إستعمال هذه التقنية لا يزال ممدود جداً بسبب الكلفة العالية وعدم وجود دراسات علمية واسعة تُثبت فعالية هكذا تقنيات التي بقيت حتى اليوم حِكراً لبعض المراكز المتقدمة ذات الإمكانيات الإقتصادية الكبيرة او لمجال الإختبار والتجارب احياناً.
د- الجراحات الأخرى للقلب والشرايين الكبيرة: وهي مُتعدّدة ونذكر منها على سبيل المثال:
a-” جراحة الإختلاطات الميكانيكية” التي قد تُصاحب بعض الذبحات القلبية الحادّة مثل حدوث ثقب بين البطين الأيسر والأيمن أو تمزّق أو إنقطاع عضلة القلب او اوتار الصمام التاجي للقلب وجراحة الجيوب التي قد تصيب البطين الأيسر للقلب عند بعض المرضى.
b- “جراحات الشريان الأبهر الصاعد” أو “النازل” في القفص الصدري وخاصة عندما يكون هنالك جيب أو توسّع في الشريان الأبهر الصاعد مع وجود مشاكل وأضرار في الصمام الأبهر والحاجة إلى إعادة زرع مصادر الشرايين التاجية للقلب على القطعة التي يتمَ تغييرها من هذا الشريان. وكذلك هنالك الجراحة التي يخضع لها المرضى الذين تعرضوا لتمزّق أو إنسلاخ الشريان الأبهر. ونشير هنا إلى أن التقنيات التدخلية( Endovascular Therapy) بدأت تأخذ مكاناً كبير ومُتصاعداً في علاج هكذا حالات خاصة في مشاكل الشريان الأبهر الموجود في البطن اًو حتى في الصدر بحيث يتمّ العلاج عبر “دعامات خاصة” لها “بطانة قماشية صناعية” و”عامود فقري معدني” (Covered Stents) تسمح بإغلاق كل المنطقة المُنتفخة او المُتمدّدة كما شرحنا في الأجزاء السابقة من هذا الملف. وهي دعامات مُتطورة جداً ويتمّ إدخالها عبر شرايين الفخذ بواسطة الطرق التدخّلية دون الحاجة الى جراحة كبيرة كما كان يحدث في السابق.
c- جراحة التشوّهات الخلقية للقلب
(Congenital Heart Diseases) مع إجراء بعض التمديدات والوصلات المُعقّدة جداً في بعض الحالات وهي خاصة أكثر بجراحة القلب عند الأطفال.
d- جراحة “زراعة القلب الطبيعي” او القلب والرئتين أحياناً وزراعة او تركيب الأجهزة الميكانيكية لمساندة عضلة القلب والقلب الإصطناعي الكامل: وسوف نتكلّم عنها تفصيلياً لاحقاً في الأقسام المُخصّصة للكلام عن كل هذه المواضيع.
في الجزء القادم نستعرض الحالات المرضية التي نحتاج فيها الى اللجوء الى هذه الجراحات، وتستوجب إذاً إرسال المريض الى جرّاح القلب للإستفادة من هذه العمليات، وما هي اهم مخاطر وإختلاطات العمل الجراحي؟ وكيف يجب ان تتمّ عملية متابعة المريضة بعد إجراء العمل الجراحي على المديين المتوسط والبعيد؟
د طلال حمود- طبيب قلب وشرايين،
مُتخصّص في علاج امراض القلب بالطرق التدخّلية وفي علاج مرضى القلب المُصابين بمرض السكّري،
مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود