مرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتجربتين جعلتا منه محط اهتمام وسائل الإعلام العالمية، الأولى أنّه خدم في المخابرات السوفياتية KGB إضافة إلى عمله كعقيد في مقر KGB خلال فترة تفكك الاتحاد السوفياتي وتحديداً في دريسدن، ألمانيا الشرقية ما يعني أن لديه ذكريات أجيال من العصر السوفياتي.
أما التجربة الثانية فكانت بعد سقوط الاتحاد والتي أصبح فيها بوتين، عاطلاً عن العمل لفترة وجيزة وهو خريج كلية القانون وضابط سابق في المخابرات السوفياتية، حتى عيّنه عمدة سانت بطرسبرغ آنذاك أناتولي سوبتشاك في المكتب، حيث شغل في البداية منصب ضابط صغير ثم أصبح نائب رئيس البلدية.
تطرقنا إلى هاتين التجربتين لأنهما كانتا السبب الرئيسي الذي جذب انتباه وسائل الإعلام العالمية نحو هذه الشخصية الغامضة، لتكلل تلك التجربتين بترأسه روسيا الاتحادية عام 2000 وفي ذهنه فكرة مفادها “مقدّر لروسيا أن تكون رائدة العالم”. حتى في عام 1999، عندما كانت القوى الغربية ومعظم الروس أنفسهم- اعتبروا البلاد مفلسة وفوضوية، تصوّر بوتين أن “روسيا المستقبلية مستقرة سياسياً ومزدهرة اقتصادياً”. ولترجمة أفكاره إلى خطة عمل، كلف رئيس الوزراء آنذاك بوتين جيرمان جريف، بصياغة استراتيجية تنمية تم نشرها عشية رئاسة بوتين وأصبح يعرف باسم “بيان الألفية”.
وقرب نهاية رئاسته عام 2007، كلّف بوتين مرة أخرى “جريف” بتحديث الخطة، وتمت صياغة النتيجة في “مفهوم التنمية الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل للاتحاد الروسي”، الذي نشرته وزارة التنمية الاقتصادية والتجارة في أيلول 2007.
كان الهدف النهائي من هذا المفهوم هو أن تصبح روسيا واحدة من أكبرخمسة اقتصادات في العالم، وترسيخ مكانتها كرائدة في الابتكار التكنولوجي، والبنية التحتية للطاقة العالمية، وكذلك مركز مالي دولي رئيسي.
وإذا قمنا بتحليل شخصية الزعيم الروسي من منظور جيوسياسي، فإنه بدون أدنى شك يظهر كواقعي براغماتي كامل يضع دائماً أمن روسيا على رأس أولوياته. كما شكك بوتين في سياسة التوسع الأوروبية والتي بدأت في عام 2004 باتجاه الشرق. وهنا يمكننا ربط مخاوف بوتين الأمنية المتصاعدة بتحليل الكاتب الجيوسياسي تيم مارشال فوفقاً له، “كانت روسيا عبر التاريخ أسيرة جغرافيتها الواسعة والممتدة، حيث ظل الأمن دائماً هاجس حكامها”.
ولمن يريد فهم خلفية الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا، فيتوجب عليه دراسة التحول بعد عام 2004 للسياسة الخارجية الروسية. ناهيك عن أنّ عام 2004 كان عاماً مهماً في تحوّل السياسة الخارجية الروسية وذلك لسببين رئيسيين، الأول أنه شهد بداية توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، وبالتالي حشود الناتو بالقرب من الحدود الروسية. والثاني اندلاع الثورات الملّونة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي بدءاً من أوكرانيا، حيث اعتبرت روسيا أنّ هذه الثورات كانت برعاية الناتو للإطاحة بالأنظمة الصديقة لموسكو. ولهذين السببين تحديداً أصبح مصطلح “أمن المجال الروسي” الهاجس الرئيسي للنخب السياسية والأمنية الروسية.
وإذا أردنا فهم التفكير الجيوسياسي لبوتين، فعلينا أن نبدأ من وجهة نظره، التي يعتبر فيها أنّ سقوط الاتحاد السوفيتي كان أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين عرّضت الأمن الجيوسياسي لروسيا للخطر. وان الأميركيين وحلفاءهم الأوروبيين طغوا على الضمانات الأمنية لروسيا، وسمحوا لحلف الناتو بتطويقها، وهو بمثابة حنث بالوعد.
وبصفته واقعياً براغماتياً، يعتقد بوتين ان لروسيا الحق الطبيعي في ضمان أمنها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، وهذا ما يجعل الحرب مع جورجيا (2008) وضم شبه جزيرة القرم (2014) مجرد هدوء ما قبل العاصفة، ودعوة يقظة للناتو للتخلي عن توسعه على طول الحدود الروسية إنما لم يتم تلقي هذين الحدثين الرئيسيين كتحذيرات رئيسية.
وبالاعتماد على الأحداث الأخيرة، بدءاً من الهجمات المتزايدة على شبه جزيرة القرم، إلى محاولات إثارة كارثة نووية في زابوروجيا وصولاً إلى عملية الإغتيال لداريا دوغين، نسنتنج أن الناتو الذي يقاتل روسيا من بوابة أوكرانيا “قرر الوقوف على الطرف الآخر حتى النهاية”، باعتبار أنّ روسيا تحدّت الغرب كحضارة ليكون الاستنتاج الصارخ بعيد هذه التصعيدات المتوالية بأنّه “علينا أن نقطع كل الطريق”، وفق ما قاله أحد المقربين من دائرة القرار الروسية، كما أنّ هذا الإستنتاج يرتبط بما أكده بوتين نفسه: “لم نبدأ أي شيء حقاً بعد”، ليؤكد ألكسندر دوغين بأنه “الآن علينا أن نبدأ.”
ويبدو أنها بدأت فعلاً، كمن “يذبح بالقطنة” مع إعلان شركة “غاز بروم” بالأمس إيقاف توريد الغاز إلى أوروبا حتى إشعار آخر. ورغم ما قالته بأن سبب الإيقاف هو لأسباب فنية مفادها “بأني لا أستطيع إصلاحه بسبب العقوبات”، غير أن الأسباب السياسية واضحة جداً، فروسيا غير راضية عن الوضع الحالي بشأن خطي غاز نورد ستريم 1 و 2 ومن خلال ما قامت به تريد إرسال رسالة مفادها، “إما إلغاء العقوبات أو لن يصل الغاز”، وهي معادلة فرضها سابقاً “الغاز مقابل الروبل”، أضف إلى كونه إشارة واضحة لألمانيا تحديداً، تقول بأنه إذا أردتم تلقي الغاز عليكم بالعمل على إنهاء خط غاز (نورد ستريم 2) أيضاً الذي قمتم بإلغائه، خاصة وأنّ احتياجات ألمانيا من الغاز حوالي 85 مليار متر مكعب سنوياً.
ورغم أنّ سلاح الطاقة قد ينقلب على موسكو إذ أنها تدرك أن هناك مخاطرة، خاصة وأنّ النفط والغاز يشكلان 67% من العائدات الروسية، إلا أنّ هناك نهجاً ومقاربة روسية بأن الوضع الحالي يعطي فرصاً لزيادة ضغطها الإقتصادي والسياسي في الآن معاً، بالتالي هي تقول “إن لم توافقوا على اقتراحاتنا فإقتصادكم سيتأثر أكثر من الإقتصاد الروسي”.
ولإيقاف الغاز اعتبار جيوسياسي، حيث تدرك روسيا أهمية هذا الإعتبار خاصة وأنّ روسيا الأوراسية تعلم جيداً أن مستقبلها في الشرق وآسيا، كما أنّ هناك إعادة رسم للخارطة الجيوسياسية العالمية، والتي مرّت بمرحلة مفصلية تمثلت الأولى في بدايات التعافي من كورونا، والثانية بالتحول الأوروبي الذي أراد التخلي عن الطاقة الأحفورية والنووية عام 2030 إلا أنها عادت لاستخدام المصانع النووية لتوليد الطاقة مع امتداد الجفاف الذي أثر على مصانع التي تعمل بالمياه ومصانع توليد الفحم في ألمانيا.
يبدو أن الاستراتيجية الروسية الهادئة والمرنة في عمليتها العسكرية الخاصة في الدونباس تسير وفق ما يتم التخطيط له، وأحياناً تقبل التعديل لمرونتها ومرونة منفذيها ما يعني أن روسيا لم تبدأ الحرب بعد!
أما فيما يختص بالنفط الذي يريد وزراء الدول السبع وضع سقف لسعر البرميل الروسي 60 دولار بعد أن رأوا بالانتقال من الغاز إلى النفط لتوفير الطاقة في البلاد معتمدين بذلك على النفط الإيراني كمصدر لإغراق السوق ولكن نتائج مفاوضات الاتفاق النووي إلى الآن ليست واعدة، وإن كانت واعدة فليست كافية، وهناك النفط السعودي الذي لم يقبل بالإملاءات الغربية لتخفيض سعر البرميل في أوبك وزيادة الإنتاج، ما يعني أن الحلول مسدودة أمام الغرب، حتى الغاز الأميركي المسال فسعره وتكاليف نقله باهظة.. كما أنّ الحظر على النفط لن يؤدي إلا إلى تغيير في الطرق اللوجستية وستنعكس على المستهلك الأوروبي.
وهنا يمكننا القول بأن ما وصلت إليه أوروبا وأميركا من حال عجز اقتصادي طال قطاعاتها كافة كان نتيجة سياساتهم الخاطئة اتجاه روسيا وسوء تقديرهم لتبعاتها وليس نتيجة العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس.
ويبدو أن عجز النمو في أوروبا لن يتوقف لتشهد أزمة طاقة شبيهة بتلك التي كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، إذ تحتوي مرافق التخزين في أوروبا على 54.2 مليار متر مكعب من الغاز، ووفقاً لشركة غازبروم، فإن الوصول إلى مستوى بداية موسم 2019/2020، يتوجب على أوروبا ضخ 18.2 مليار متر مكعب أخرى في منشآت التخزين الأوروبية.
ونظراً لإغلاق نورد ستريم 1، بدأت بعض الدول الأوروبية بالفعل استخدام الغاز من منشآت التخزين بدلاً من ملئها، ووفقاً لشركة غاز بروم فإن الاحتياطيات الأوروبية ستستمر لمدة 2.5 شهر. كما أنّ هناك خيار آخر ممكن أيضاً إذ توجد في أوكرانيا منشآت ضخمة لتخزين الغاز تحت الأرض، وحتى 30 آب المنصرم، تراكمت لديها 13.1 مليار متر مكعب من الغاز، على الرغم من أن هناك حاجة إلى 19 مليار متر مكعب لفصل الشتاء العادي، ومع ذلك، فإن جزءاً من الغاز في منشآت التخزين قد تكون ملكيتها عائدة لدول أخرى وليس لأوكرانيا. وهنا السؤال الذي يطرح نفسه، هل سيستمر عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا؟ إذ ربما يفشل خط أنابيب الغاز الأوكراني في تغطية الحاجة أو توقف روسيا إمدادات الغاز أيضاً.
بالتالي فإنه حتى مع الحفاظ على عبور خط الأنابيب الأوكراني، فإنه لن يكون لدى أوكرانيا ما يكفي من الغاز، وهذا أيضاً يطرح تساؤل كيف ستشترك أوروبا وأوكرانيا في الغاز الذي يمر عبر خط الأنابيب الأوكراني؟ ما يعني أنّ أمام رؤساء الدول الأوروبية، خياراً محدداً، إما حرمان ناخبيهم أو أوكرانيا من الغاز.
ويبدو الخيار الأوروبي غير واضح حالياً، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت “غازبروم” ستوقف العبور عبر أوكرانيا أم تبقيه! إنما على ما يبدو سنرى في القريب مشهداً من الاقتتال الأوكراني – الأوروبي على الغاز الروسي، وقرصنة للغاز والنفط كتلك التي شهدناها في فترة كورونا.
تمثل عائدات تصدير الغاز ربع إجمالي عائدات النفط والغاز الروسية، وهنا تسعى روسيا إلى إيجاد توازن في الضرر الذي سيلحق بها من خلال إيذاء العدو، وهو ما يفسّر عدم قيامها بإيقاف كل صادراتها كـ”إغلاق الصنبور” نهائياً، وهذا حتماً سيقتل الغرب لكنه أيضاً سيكون ذو تأثير سلبي عليها.
وحتى لو قررت ألمانيا الاعتماد على محطات الطاقة النووية كبديل عن الغاز فإن 20% من اليورانيوم المستخدم في تشغيل المحطات النووية يأتي من روسيا..
وما يقوم به بوتين حالياً هو محاولة تجميد الصراع أو على الأقل الحد منه حتى تخرج أوروبا التي باتت على عتبة شتاء مرعب وستكون مشغولة بنفسها قريباً ما يعني خروجها من اللعبة بضغط من شعوبها.
في حين تحاول أوكرانيا توسيع رقعة الصراع وجذب لاعبين جدد إليه، وفي سياق السلبية المتزايدة لأوروبا، فإن خطر التلوث النووي هو الفرصة الأكثر واقعية لإجبار أوروبا على التحرك، وسيناريو إطلاق الإشعاع النووي في زابورجيا سيجبر الغرب على المطالبة بالانسحاب الفوري للقوات الروسية من منطقة المحطة ونقلها إلى السيطرة الغربية أو الأوكرانية. بالإضافة إلى أن محطة زابورجيا توفر 25-30٪ من الكهرباء في أوكرانيا، ويقال إن روسيا على وشك قطع الكهرباء عن أوكرانيا. لذلك، تزيد أوكرانيا من قصفها واستفزازاتها لإجبار الغرب على التحرك، وربما تقوم بتدمير المحطة.
هذه السياسة الروسية التي أربكت العالم أجمع وأوقفت الغرب على قدم واحدة وهو يستغيث الشتاء القادم إذ لم يدرك أنّ سحره سينقلب عليه.. وكل ما حدث من تداعيات لهذه العملية على الدول الغربية وأميركا وهي مازالت “عملية عسكرية خاصة” وليست حرباً على الجبهات كافة بمعنى أنّ بوتين لم يفتح خزائنه بعد، فعلى العالم الغربي الإصغاء له وعدم الإستهانة به..
أضف إلى تلك التهديدات الهواجس الأمنية والاقتصادية والدينية العقائدية فإنّ المخاوف الروسية أخذت الأمن الغذائي بالحسبان خاصة بعد أن دخل “قانون الاستثمار الزراعي” الذي “فرضه” صندوق النقد الدولي حيّز التنفيذ عام 2021 والذي يتلخص بذهاب حوالي 70% من الأراضي الزراعية الأوكرانية إلى أربع شركات مع حلول عام 2024 ومن هذه الشركات شركه المانية أسترالية رسمياً، ولكنها برأس مال أميركي والمساهمون الرئيسيون فيها هم “أميركان فانجارد” و”بلاك روك” و”بلاكستون”.
“بلاك روك” هو صندوق يدير أصولاً بقيمة 10 تريليون دولار، فيما تدير “فانجارد” 6 تريليون دولار، أما “بلاكستون” فهي تدير 881 مليار دولار.. هذه الشركات وغيرها أرادت السيطرة والتحكم في الأمن الغذائي العالمي ليكون سلاحاً فعالاً كجيل جديد من أجيال الحروب الستة، يفوق في النتيجة الوباء والحروب وكل ما يخطر على بال البشر من شرور ومصائب مجتمعة ..لو لم تقم روسيا بعمليتها العسكرية لكانت تلك الشركات اليوم متحكمة بالأمن الغذائي العالمي، ولربما وفق سياسة الشركات الربحية فاقمت المجاعة ما شهده العالم عام 1929 ولربما يتوجب على العالم أجمع شكر روسيا على ما قامت وتقوم به..
الكاتب: سماهر الخطيب