فات الأوان بالفعل. لقد أغلقت روسيا خط أنابيب نورد ستريم 1 “إلى أجل غير مسمى”. فالولايات المتحدة، ودون ان تحضّر الأرضية للحرب وتحصّن البيئة الداخلية الأوروبية الموجودة في الخطوط الامامية، فتحت النار في أوكرانيا. وعلى الرغم من علم واشنطن الدقيق بهواجس هذه الدول والثغرات الاقتصادية التي تؤثر بشكل مباشر على أمنها القومي، كاعتمادها شبه المطلق على روسيا في تأمين النفط والغاز، لم تُقدم على تهيئة الظروف المؤاتية للصمود وبالتالي نزع ورقة الضغط الذهبية من يد الرئيس الروسي. فهل كان باعتقاد واشنطن ان العقوبات ستكون أحادية الجانب دون ان تتخذ موسكو إجراءاتها الدفاعية اللازمة!
جاء هذا القرار في أعقاب موافقة وزراء مجموعة الدول السبع على تبني خطة تهدف لوضع حد أقصى لأسعار النفط الروسي “بصورة عاجلة”. في هذا الصدد، يقول روبيرت د. انغليش في مقال نشر في “ناشونال انترست” في 18 آب/ أغسطس الماضي: “في ظل التلويح بضرورة العمل على خفض أرباح روسيا من نفطها، يتعين على مَن يقوم بالتلويح باستخدام القنبلة اليدوية ان يكون قادراً على استخدامها أولاً”.
أزمة هيكلية في بنية الاقتصاد الأوروبي
“حانت لحظة الحقيقة لرؤساء الدول الأوروبية…أمن الطاقة الأوروبي بدون روسيا مستحيل”، حيث يحصر رئيس مجلس الدوما الروسي، فياتشيسلاف فولودين، حل الأزمة الأوروبية بمخرجين اثنين “للوضع الذي خلقوه بأنفسهم” هما:
-إلغاء العقوبات غير الشرعية ضد موسكو وتدشين “السيل الشمالي-2”.
-ترك كل شيء كما هو الآن، بكل تبعاته الاقتصادية.
ترتكز الثقة الروسية في تأثيرها الهائل على استقرار أسعار الطاقة في القارة الأوروبية، على حاجة الأخيرة إليها وعدم استطاعتها تأمين البديل بوقت قياسي. ويعود السبب في ذلك، لمشكلة هيكلية في البنى التحتية الاقتصادية الأوروبية ومجموعة من الإجراءات السياسية التي عمّقت الأزمة ورسخت تبعية القارة طاقاوياً بروسيا. وقد بدأت مفاعيل ذلك، منذ ان حضر كل من رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون وآنذاك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في مدينة لوبمين في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2011 احتفالاً بافتتاح خط نورد ستريم 1 رسمياً.
يقول رئيس المجلس الاستشاري الدولي في مركز البحوث الاجتماعية والاقتصادية (CASE)، Anders Åslund، أنه بالنظر إلى مدى ضعف سياسات الطاقة الأوروبية، فإن الألم الاقتصادي الذي تسببت فيه لا ينبغي أن يفاجئ أحداً.
ويتابع الاقتصادي السويدي الجنسية، أنه يجب على السياسيين الأوروبيين إعادة التفكير في نهجهم. لم تكن الفوضى التي وجدت أوروبا نفسها فيها الآن ناجمة عن سياسة الاتحاد الأوروبي بقدر ما هي بسبب عدم وجود سياسة. ويطرح عدداً من الإجراءات التي كانت سبباً في تعميق الأزمة وترسيخها على مدى عقود، مشيراً إلى ان أوكرانيا تمتلك إمدادات هائلة من الطاقة التي لا تُباع بسبب عوائق التجارة غير المفهومة في أوروبا.
قطعت روسيا شحنات الغاز إلى أوروبا في كانون الثاني/ يناير عام 2006، ولكن لأن هذا الاضطراب استمر لمدة 4 أيام فقط، لم تستيقظ أوروبا على التداعيات طويلة المدى. بعد ذلك، في شهر كانون الثاني/ يناير عام 2009، قطعت روسيا بشكل عقابي إمدادات الغاز عبر أوكرانيا، مما أدى إلى تعطيل الإمدادات إلى 18 دولة أوروبية لمدة أسبوعين. هذه المرة، استيقظ الاتحاد الأوروبي -على الأقل قليلاً- واعتمد حزمة الطاقة المشتركة الثالثة للغاز والكهرباء. من خلال الدعوة إلى التنويع والتسويق وتفكيك قطاع الطاقة، كان للحزمة تأثير حقيقي، لأنها تعني أنه لم يعد يُسمح لمنتجي الغاز والكهرباء أيضًا بامتلاك خطوط الأنابيب والشبكات. اضطرت شركة غازبروم الروسية لبيع خطوط الأنابيب الخاصة بها في دول البلطيق، ودُفعت ليتوانيا وبولندا إلى إنشاء محطات الغاز الطبيعي المسال (LNG).
لكن ألمانيا ذهبت في الاتجاه المعاكس، وارتكبت أخطاءاً جوهرية. قبل خسارة السلطة في انتخابات 2005، وافق المستشار الألماني، غيرهارد شرودر، على خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. وحتى بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، استمر هو ومسؤولون ألمان آخرون في الدفاع عن نورد ستريم، الأمر الذي كان سيجعل ألمانيا أكثر اعتمادًا على الغاز الروسي. لن تشتري ألمانيا فقط كل الغاز الذي تحتاجه من روسيا؛ كما ستصبح دولة عبور رئيسية.
عام 2011، قررت ميركل إغلاق محطات الطاقة النووية الألمانية التي تعمل بشكل جيد، في أعقاب كارثة تسونامي التي ضربت محطة فوكوشيما النووية اليابانية. وترك هذا القرار ألمانيا شديدة الاعتماد على الغاز الروسي لدرجة شكلت ألمانيا حوالي ثلث واردات أوروبا من الغاز الروسي -تستهلك حوالي 85مليار دولار- ومما زاد الطين بلة، أن الشركات الألمانية باعت معظم مرافق تخزين الغاز في البلاد إلى شركة غازبروم.
وفي حين أن معظم الدول الأوروبية الأخرى قلقة منذ فترة طويلة بشأن الاعتماد المفرط على الغاز الروسي، جعل شرودر وميركل ألمانيا معتمدة بالكامل عليه، متجاهلين تمامًا أمن الطاقة في بلادهم. وبينما قامت دول أوروبية أخرى ببناء محطات جديدة للغاز الطبيعي المسال (مما أتاح استيراد الغاز من الولايات المتحدة وأماكن أخرى)، ضاعفت ألمانيا ببساطة من الإمدادات الروسية. الآن، أوروبا كلها تعاني -بجزء كبير- من السلوك الألماني غير المسؤول. تعكس أسعار الغاز والكهرباء المرتفعة اليوم في أوروبا إلى حد كبير سياسة الطاقة في ألمانيا منذ عام 2005.
ويعتبر Åslund أنه لم تترك ألمانيا على حماقتها بمفردها، فقد صنفت إيطاليا ثاني أكبر مستورد للغاز من روسيا، إلا انها وجدت منفذاً آخر من أذرييجان والجزائر (التي عاد منها الرئيس الفرنسي أخيراً خالي الوفاض).
الكاتب: مريم السبلاني