عجيبٌ أمرُ أتباع الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان، فبعد أيام من محاولة لعب دور البطولة، والحرص الزائف على السيادة، فيما يتعلق بملف ترسيم الحدود البحرية للمنطقة الاقتصادية، بين لبنان والكيان المؤقت. ها هم اليوم بعد خسارتهم رهان فشل المفاوضات غير المباشرة، يروجون لبدعة تطبيع حزب الله مع الكيان المؤقت، أو على أقل تقدير يعمّمون ما حصل من إنجاز استراتيجي في هذا الملف، على بقية ملفات الصراع ما بين المقاومة وهذا الكيان، التي لا يمكن لها أن تنتهي سوى بزواله.
وهذا ما عبّر عنه بوضوح، رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد في إحدى خطاباته الأخيرة، عندما وصف هذا الاتفاق بأنه كاتفاق نيسان الذي كان بهدف تحييد المدنيين من الصراع، ولذلك اتفاق الترسيم اليوم هو لتحييد الغاز والموارد النفطية في لبنان عن الصراع العسكري المباشر.
من جهة أخرى، فإن المقاومة بتلويحها العسكري استطاعت ضرب استراتيجية الكيان المؤقت في تضييع الوقت بالمفاوضات غير البناءة بينما يقوم هو باستكمال استعداداته للاستخراج وبدء تصدير الغاز للخارج، عبر استدراجه من خلال تهديده بمعادلة “كاريش وما بعد كاريش وما بعد ما بعد كاريش”. وهذا ما أرغم راعي كيان الاحتلال أيضاً، والوسيط غير النزيه في المفاوضات: الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما بيّنه الحاج رعد في أحد الخطابات أيضاً: “بأن هذا العدو أقرّ باستخراج الغاز من مياهنا الإقليمية، لماذا؟ لأن المقاومة هي التي فرضت على هذا العدو الإذعان ولولا قوة المقاومة وسلاحها وخوف العدو من أن يخوض حرباً ستكون مكلفة له في هذه الأيام، لما أقدم على هذا التفاهم”. مشدداً على عدم الوثوق بالكيان مطلقاً، ما يعني جهوزية حزب الله العسكرية ويقظته الدائمة للتدخل في حفظ حقوق لبنان، عندما قال: “نحن لا نثق بهذا العدو ولن نثق ولذلك لم نعلن موقفنا”، متسائلاً “هل وقع العدو على الاتفاق؟ هو قال إنه وافق، وبعد توقيعه سنرى كيف نوفر الضمانات لتنفيذ ما وقع عليه”. وحول هذه النقطة، كشفت مصادر إعلامية بأن التفاهم يضم جدولاً زمنياً مفصّلاً، يحددّ فيه مراحل التنقيب والاستخراج. مشيراً إلى أن هذا الاتفاق “هو مبعث عز وفخر لنا جميعا في هذا البلد، والذين كانوا يتعرضون ويتهكمون على المقاومة لأسباب كلها تدور حول مطامع خاصة وعقلية خاصة، لا تمت بصلة الى مصلحة الوطن أما الآن وبعد هذا التفاهم هل يمكنهم أن يقولوا بأن المقاومة ليست حاجة لضمان تنفيذ هذا التفاهم”.
إشكاليات أخرى
_ حزب الله منذ البدايات يدعو الى المقاومة الشاملة لجميع المجالات، وبالتالي فإن هذه المفاوضات التي تميّزت هذه المرّة بوقوف الدولة أمام المقاومة، كانت الساحة الأساسية لجهود تحرير حق لبنان بموارده، وكان الجهد العسكري داعماً لمسارها.
وفي هذه النقطة، من المفيد اقتباس بعض حكم المفكر العسكري الصيني الاستراتيجي “صن تزو”: “الانتصار في المعارك ليس هو النجاح التام، النجاح التام هو أن تكسر مقاومة العدو بدون قتال. وهكذا فإن أصحاب المهارة في الحرب يقهرون جيش العدو بدون معركة، ينتصرون بالاستراتيجية”.
وهذا ما يؤكد أيضاً، على أحد جوانب كيفية تفكير حزب الله، فهو حريص أشدّ الحرص على تقليل تكاليف أي إنجاز وانتصار يقوم به، لا سيما التكاليف البشرية من المدنيين قبل المقاومين.
_ أما فيما يخص القبول بأصل التفاوض بين لبنان (المقاومة ضمنياً) وكيان الاحتلال، فهذا ما كانت تعتمده المقاومة دائماً، عبر التفاوض غير المباشر من خلال وسيط، كحال كل المفاوضات السابقة، التي بدأت منذ العام 1993 مروراً بتفاهم نيسان وحرب تموز 2006، وأيضاً من خلال مفاوضات تحرير الأسرى وجثامين الشهداء (وهو ما حصل من خلال الوسيط الألماني).
_ القبول بلعب أمريكا دور الوساطة، هو لكي تكون المسؤولة عما يتم الإقرار به، ولكي تتحمل مسؤولية أي خرق من قبل كيان الاحتلال (الذي سيواجه برد المقاومة حتماً). ولعلّ حادثة خرق الزورق البحري العسكري الإسرائيلي للحدود اللبنانية، بالتزامن مع وصول وفد لبنان لتسليم جواب الموافقة الرسمي على الاتفاق، ورفضهم الدخول الى مقر اليونيفيل قبل انسحاب هذا الزورق، ورضوخ كيان الإحتلال لذلك، أكبر دليل على هذه الأمر.
_ هذه التجربة ستكون بالتأكيد مورداً للاستفادة في العديد من القضايا والملفات المقبلة، بحيث يمكن استثمارها أيضاً في معالجة ملف الحدود البرية لاحقاً، وربما في فرض انسحاب جيش الاحتلال من الجزء اللبناني لقرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا.
الكاتب: علي نور الدين