نبتت “الصهيونية” في تربة “المشروع الاستيطاني الغربي” الذي تعود جذوره إلى ما يسمى “النهضة الغربية” الذي شهد عصر الاكتشافات وتصاعد أحلام الإنسان الغربي الأبيض في الهيمنة على العالم.
تبلور هذا الحلم في حالة فلسطين واليهود، بتصاعد الأحلام الألفية التي نادت بضرورة عودة اليهود إلى صهيون تمهيداً لهدايتهم إلى المسيحية الصهيونية باعتبار أن هذا شرطاً أساسياً للخلاص النهائي لهم وللبشرية جمعاء.
لكن تزايد البعد السياسي في هذه الأحلام شبه الدينية في القرن التاسع عشر وبدأ ظهور شخصيات داخل المؤسسة البريطانية الاستعمارية تحول هذا الحلم إلى مشروع استيطاني، ومن بين هؤلاء جورج غاولر حاكم جنوب استراليا الذي صاحب موسى مونتيفيوري في رحلاته في فلسطين، وإدوارد كازالت والضابط تشارلز هنري تشرشل، ولورانس أوليفانت الذي كان أول من استوطن فلسطين وساعد المستوطنين اليهود فيها، وأقنع البارون روتشيلد من أجل دعم الاستيطان اليهودي في فلسطين.
وكانت جمعيات أحباء صهيون وغيرها من الجماعات الصهيونية الصغيرة قد تأسست في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر. لقد ألقى تيودور هرتزل عام 1895، خطبة في النادي المكابي وعرض برنامجه في مقال له في صحيفة “الجويش كرونيكل” عام 1896 قبل إصدار كتابه “الدولة اليهودية”، لم يلقَ هرتزل ترحاباً من يهود إنكلترا، كما عارضته عناصر أحباء صهيون بسبب قلقها من نشاطاته التي قد تعرقل برنامجها الاستيطاني في فلسطين، وقد رفضوا دعوة هرتزل لهم إلى المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، لكن يهود اليديشية قابلوا هرتزل بحماسة شديدة. ويعتبر “موسى غاستر” حاخام السفارديم في لندن، و”يعقوب دي هاس”، والكاتب “إسرائيل زانغويل” من أوائل مؤيدي هرتزل، وأهم من قام بتأسيس وتنظيم الحركة الصهيونية في بريطانيا.
نمت الحركة الصهيونية في بريطانيا، وسرعان ما انضمت إليها حركة أحباء صهيون عام 1898، كون الخلافات كانت ثانوية ولا تمس الجوهر أو الاستراتيجية الصهيونية.
انعقد المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898، وكان هناك 26 جمعية صهيونية من بريطانيا أرسلت 15 مبعوثاً إلى المؤتمر.
في عام 1899 تأسس “الاتحاد الصهيوني الإنكليزي” برئاسة السير فرانسيس مونتيفيوري. وفي نفس العام سجل تيودور هرتزل “الاتحاد الاستعماري اليهودي” في لندم كشركة بريطانية وكأول مؤسسة مالية للمنظمة الصهيونية العالمية. سبب اختيار لندن يعود لأن هرتزل كان يأمل في الحصول على التمويل والدعم المالي من أثرياء اليهود في إنكلترا، كما اختار لندن لانعقاد المؤتمر الصهيوني الرابع 1900. والذي أكد فيه ضرورة تعريف الرأي العام البريطاني بأهداف الحركة الصهيونية وكسب تأييد بريطانيا لأهدافها، كما لعب الاتحاد الصهيوني دوراً نشطاً في هذا الاتجاه بعد المؤتمر.
وفيما بعد عندما أخفق هرتزل في الحصول على أي وعود سياسية بشأن الاستيطان في فلسطين، سواء من فرنسا أو ألمانيا أو تركيا أو روسيا، اتجه نحو إنكلترا حيث عرض على السياسي الإنكليزي جوزف تشامبرلين عام 1902 مشروعاً لاستيطان اليهودي في العريش في شبه جزيرة سيناء، لكن رُفضت الفكرة، وعاود عرضها على تشامبرلين عام ،1903 ولكن في أوغندا أو ما عُرف بمشروع أفريقيا، ورغم تأييد معظم الصهاينة لموقف هرتزل، إلا أنه أثار جدلاً عنيفاً داخل المنظمة الصهيونية نتج عنه انشقاق عام 1905 حيث تأسست المنظمة الصهيونية الإقليمية. ولكن وصول حاييم وايزمان إلى إنكلترا عام 1904 أعطى دفعة قوية للمنظمة الصهيونية التي كانت بدأت تشهد تدهوراً كبيراً، وكان وايزمان قد أدرك تنامي مصالح بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط المطلة على الممرات المؤدية الى الهند، وتزايد مطامعها في تركة الدولة العثمانية. وقام وايزمان بجمع مجموعة من الصهاينة البريطانيين حوله، حيث أصبحوا من الشخصيات المهمة في الحركة الصهيونية في بريطانيا وخارجها، من بينهم سيمون ماركس، وإسرائيل سيف، وهاري ساخر، وليون سيمون. وكما كان من أقرب مستشاريه أحاد هعام.
نجح حاييم وايزمان في استقطاب الصهاينة الإنكليز نحو “الصهيونية التوفيقية”. وقد أصبح وايزمان عام 1914 نائب رئيس الاتحاد الصهيوني الإنكليزي، ثم أصبح رئيساً للاتحاد عام 1917.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأ يتحول مركز نشاط الحركة الصهيونية إلى إنكلترا، كما زاد الاتحاد الصهيوني الإنكليزي من نشاطه وقدم عام 1915 التماسا يحمل 77 ألف توقيع يطالب بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
الجدير بالذكر أن الأدبيات الصهيونية تروج الرأي القائل بأن جهود حاييم وايزمان وجماعته هي التي أدت إلى إصدار وعد بلفور، لكن ذلك يناقض الوقائع التاريخية، فقرار فتح أبواب فلسطين للاستيطان الصهيوني كان قد نوقش من قبل عام 1915 حين قدّم السير هربرت صمويل مذكرة لوزارة الحرب البريطانية تضم ملامح المشروع الصهيوني وتمت الموافقة عليه. وقد صدر وعد بلفور وأخذ شكل رسالة موجهة إلى اللورد روتشيلد الرئيس الشرفي للاتحاد الصهيوني، وقد عارضه أودين مونتاجو الوزير اليهودي الوحيد في حكومة لويد جورج.
يمكن أن نطلق على صهاينة بريطانيا اسم صهاينة توطينين، وهي تنطبق على كل أعضاء الحركة الصهيونية، أو غير الأعضاء الذين قدّموا الدعم المالي والسياسي والمعنوي للمشروع الصهيوني، ومساعدة اليهود على الهجرة إلى فلسطين.
وفي العام 1920 انتخب المؤتمر الصهيوني المُنعقد في لندن حاييم وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية؟
واخيراً، لعبت الحركة الصهيونية في بريطانيا دوراً مالياً مهماً في خلال فترة الاستعمار البريطاني على فلسطين، وساعدت في تثبيت أقدام التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين حتى قيام “الكيان المؤقت” عام 1948.
الكاتب: نسيب شمس