طالعنا أحد الكتّاب مؤخراً، بمقال يتحدث فيه عن إشارات لبدايات أزمة العقل الإسلامي في إيران، والتي بالرغم من خلطه لمعنيي الإشارات بالبدايات، وابتداء مقاله بالاحتمالية وانتهائه بحسم حصول ذلك، مع خلط لإيران بحزب الله وسوريا والعراق، بل محور المقاومة بأسره. إلّا أنه يا للأسف لاقى الكثير من الرواج غير المفهوم، كأغنية هابطة أو فيلم سينمائي تجاري.
وسنستعرض أهم الإشارات التي استعرضها الكاتب، وما يمكن القول إزائها:
1) تجميد الجمهورية الإسلامية في إيران شرطة الأخلاق أو الإرشاد، بفعل ما حصل من اضطراب في الشارع، وهو ما يعتبر أمراً سلبياً ومشبوهاً، يسجّل ضد العقل الإسلامي، الذي يبدو أنه بدأ بالرضوخ وبالتراجع لتبدلات ولتغيرات يفرضها العقل المعاصر العالمي مع اعترافه بأن الأخير لا يمكن التثبت بأنه يطرح بدائلا أفضل:
وهنا يحق لنا التساؤل، أولاً عن هل كان من المفروض على الجمهورية الإسلامية – في حال ثبوت الخبر رسمياً- أن تتحجر ضد فئة من شعبها، أم كان يجب عليها خنق المحتجين بأقدام رجال الشرطة كما حصل مع الأمريكي جورج فلويد مع شرطة بلاده.
ثانياً، فإن أول من أوجد هذا الفرع من الشرطة، هو الرئيس الأسبق للجمهورية السيد محمد خاتمي، الذي يعتبره الكثير من الليبراليين العرب (ربما كحال كاتب المقال)، أقرب الناس إليهم والى النموذج الغربي الذي يحلمون بتقليده. حتى أنه عندما أراد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد إلغاءه، رفض المعسكر “الإصلاحي” ذلك بكل قوة، وتم تأجيل هذا البند الى ولاية الرئيس السابق الإصلاحي الشيخ حسن روحاني الذي استعاض عنها بشرطة الأخلاق السرية!!
ثالثاً، هل من المنطقي الذهاب من سلطان عقل ينتمي الى حضارة وتاريخ وثقافة شعوب هذه المنطقة، والذي بات جزءاً أصيلاً من حياة حوالي أكثر من مليار ونصف مسلم من شتى المذاهب، الى سلطان عقل من غير المعلوم الى أي منظومة فكرية وثقافية ينتمي.
وهنا من المفيد الإشارة، إلى أن دول المنطقة بأسرها، التي كانت في منتصف القرن الماضي تتجه نحو الأنظمة العلمانية (إيران الشاه كانت رائدة هذا التحول حتى أن البعض أطلق عليها لقب باريس الشرق)، أو الإسلام القشري أو حتى تلك التي تؤمن بأيديولوجيات سياسية لا دينية، بات الإسلام السياسي فيها يشكل القوة الأبرز، مهما اختلفت مشاربه الثقافية.
2) نجاح الشبكة العنكبوتية العالمية وهوليوود بترويج وبيع مصالحها: أثبتت التجارب والاستحقاقات الكبرى، من النكبة الى النكسة وصولاً الى موجة صفقة القرن والتطبيع، أن مسار القوى الإسلامية المناهضة له يتصاعد يوماً بعد يوم، فيما المعسكر الأمريكي وأتباعه، تتناقص قدراتهم وتأثيرهم يوماً بعد يوم، وما أحداث الضفة الغربية مؤخراً إلا خير دليل، وما أحداث مونديال قطر 2022 وما لاقته صحافة الكيان المؤقت أو ممثلي الثقافة الغربية من استحقار إلا خير برهان.
أما بالنسبة للإسلام، فلم ولن يعتمد في أي فترة من فتراتها على رجال الدين، لأن مصدر قوته هو في الفطرة الإنسانية.
3) ذكر الكاتب عبارة أن الجنس أقوى في الكلام وفي الإغراء وفي الغواية، من رجاحة العقل ومن قراءة كتاب الشر والجريمة، تكفي لأن نعرف ما هي الفئة التي يمثلها. وهذا ما يميز المجتمع الإنساني عن غيره من الكائنات الحية.
4) أما قوله عن أن كل ما هو الزامي مكروه، وكل ما هو قهري ينجز عنه تمرد وتحد ونكايات، فهل هذا مرتبط فقط بالإسلام السياسي؟! ماذا عن قوانين الدول الغربية التي يخضع إليها الكثيرون من عالمنا العربي والإسلامي، بل وتغنى برقيّها؟ أليست قوانين تمارسها الدولة بالإخضاع والهيمنة والإكراه، ومن يخالفها يُحاسب دون أي رحمة، ولن تستطيع كل وسائل السوشيل ميديا منع ذلك عنه.
5) للفقه الشيعي مصادر تشريع عديدة أولها القرآن الكريم (الذي تعتبر أحكامه قطعية)، والسنة النبوية ومن ثم إجماع العلماء وأخيراً العقل، وبالتالي لا يمكن للعقل السياسي الإسلامي مهما كان راجحاً تجاوز هذه المصادر وتراتبيتها، لذلك لا وسواس قهري لدى رجاله ولا من يحزنون!!
6) تراجع العقل الاسلامي طبيعي بعد فشل ما وصفها بالحركات الاسلامية من قاعدة ونصرة وداعش واخوان مسلمين ووهابية وشيعية عراقية ولبنانية ومن طالبان أفغانستان، من تقديم أنموذج اسلامي يقتدى به بل نجحوا وبامتياز من تنفير المسلمين أنفسهم من دينهم:
أولاً، ما يطلق عليه وصف الإسلام السياسي، مع الاعتراض على شمول التنظيمات الإرهابية كداعش الوهابي والنصرة بها، وعلى سبيل المثال الجماعات اللبنانية والعراقية، فإن تجربتهم حتى يومنا هذا تؤكد، بأن حضورهم الشعبي يزداد يوماً بعد يوم بالرغم من كل التحديات. وما تجربة الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة، إلا خير مثال على ذلك، حينما حقق حزب الله المرتبة الأولى لناحية الحزب الأكثر شعبيةً، بحصول نوابه على أكثر من 347 ألفاً صوتاً تفضيلياً بزيادة 3951 صوتاً عن عدد الأصوات التي حصل عليها خلال العام 2018، بالرغم من كل الجهود الأمريكية لحصاره وحصار بيئته الحاضنة، وبعكس ما ذكره الكاتب في إحدى مقالاته!!
7) شعب العراق كان وبكل ثقة أفضل في زمن صدام حسين:
هذه العبارة إن دلّت على شيء، فعلى عدم واقعية الكاتب إطلاقاً، لأن الشعب بأغلبيته الساحقة تعتبر بأن كل مساوئها الحالية تهون، أمام ما كانت تعيشه في ظل الحكم الديكتاتوري الصدامي، الذي كان يمنع عنهم كل شيء، فيما ثروات البلاد يتنعم بها هو وعائلته وحاشيته والقليل ممن يحظون باستعطافه، وكأنه مكرمة من الخليفة.
8) إن مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك والهرمل والنبطية وصور وبنت جبيل ومرجعيون مناطق تحت السيطرة المباشرة للعقل الاسلامي من اهل الشيعة تعيش الحرمان على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، منذ ما قبل نشأة دولة لبنان الكبير. إلا أن من أهم إنجازات العقل الاسلامي من اهل الشيعة، تمكنه من إحداث تحول ونوعي في واقع هذه المناطق، وهذا باعتراف من وصفهم الكاتب من أهل المذاهب الأخرى، وهذا ما أثبتته هذه المناطق من مناعة ما بعد الانهيار الاقتصادي عام 2019.
وهنا يجب أن نشير، بأن من أهم أسباب مسار التطور البطيء في تنمية هذه المناطق بعكس المناطق الأخرى، هو تعرضها للاحتلال لأكثر من 15 عاماً أولاً، ولإهمال المؤسسات الرسمية لهذه الواجبات ثانياً، وعدم رغبة قوى “العقل الشيعي” باتخاذ خطوات تشجع على فدرلة وتقسيم لبنان كما يريد أعداؤه.
المستقبل للعقل السياسي الإسلامي
إذا ما نظرنا الى الواقع ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وما شهدته الجمهورية الإسلامية من تحقيق إنجازات عملاقة كمياً ونوعياً، وما أثرته من استنهاض لشعوب المنطقة في العديد من الساحات ضمن محور المقاومة، وتحقيق انتصارات كبيرة ضد أمريكا والكيان المؤقت، لا سيما في: لبنان، سوريا، العراق، فلسطين، واليمن. بينما تعيش هذه الدول غياباً لافتاً في أحزاب الفكر المادي التي يروج ويحنّ لها الكاتب ربما.
كل هذه النتائج تؤكد بأن مسيرة هذا العقل السياسي تتصاعد يوماً بعد يوم، وستتحول المنطقة بفضل هذا التيار بالتأكيد، في ظل تحولات النظام العالمي الجديد، قطباً محورياً مشاركاً لا تابعاً!!
الكاتب: غرفة التحرير