فراس الشوقي – الأخبار
تحوّل النزوح السوري في لبنان عنواناً رئيسياً لتغذية نيران العصبية الطائفية والمناطقية والوطنية «المفصّلة» على هوى القوى السياسيّة اللبنانية. وكغيره من الملفّات أو العناوين الخلافية، مثل سلاح المقاومة والنظام السياسي والانهيار الاقتصادي والفساد، لا تجد الأزمات اللبنانية طريقها إلى الحلّ، بل إلى مزيد من الاستثمار السياسي وربما الأمني، ومحاولات إدارة الأزمات المزمنة، بدل معالجتها.
لبنان ليس وحيداً طبعاً بين الدول التي بات واقع اللجوء/ النزوح، عاملاً رئيساً في دينامية العمل السياسي داخلها، كالأردن وتركيا. بينما ترتفع جدران العزل حول أميركا بعيداً خلف المحيط الأطلسي، تتخبّط أوروبا بين متطلبات أسواق العمل وأزمات الخصوبة والإنجاب، وبين نزعات اليمين المتنامية على أوهام الخوف من اللاجئين ورهاب التغيير الديموغرافي.
إلّا أن الواقع اللبناني، وحرفة إعادة إنتاج الأزمات بطريقة «عصرية»، تجعل من ورقة النزوح شماعة لتعليق كلّ أسباب الفشل اللبناني عليها، وتحميل المسؤولية لـ«آخر» يُستبدل في كل مرّة، بدل الاعتراف بفشل النظام الطائفي منذ 1920 والبحث عن حلول جذرية، لمشكلة جذرية.
في أي حال، فإن الفوضى المستحكمة بكل أشكال الحياة والإدارة، يومياً واستراتيجياً، لن تستثني النزوح. إلّا أن الكثير من المواقف تبنى على معلومات مغلوطة حول النزوح السوري، وعلى بورصة السياسة اليومية، التي تتراوح بين الموقف من العدوّ الإسرائيلي وبين الخلاف حول التوقيت الرسمي للدولة.
في إجابات نائب المنسقّة الخاصّة للأمم المتحدة في لبنان، المنسق المقيم ومنسق الشؤون الانسانية في بيروت، عمران ريزا، حول بعض الأسئلة المتعلّقة بالنزوح السوري، يكمن الكثير من الأجوبة العميقة. فتظهر المسؤولية الأولى والأخيرة عن العديد من التفرعات في مسألة النزوح على عاتق الحكومة اللبنانية، أو النظام اللبناني بالأحرى. إضافة إلى مستويات أخرى في الملفّ، تخضع للتسويات الإقليمية ومصالح الدول الكبرى، التي تسهم بشكل أو بآخر في إدارة الأزمة واستغلالها، كما أسهمت في صناعتها.
بالنسبة لريزا، هناك ثلاثة مستويات من القراءة التي يجب النظر إليها في ملفّ النزوح/ اللجوء. الأول، هو الانهيار الاقتصادي الذي بدأ في 2019، وتتسارع وتيرته اليوم وينعكس في ضعف الدولة وتراجع قدراتها والانقسام السياسي، الثاني هو واقع النزوح السوري من بدايته إلى اليوم، والثالث هو التأثيرات الدولية والإقليمية، حيث تنعكس تلك التطورات على الدولة اللبنانية وعلى عمل الأمم المتحدة، من دون أن يكون للطرفين تأثير كبير في مجريات الأمور.
في الشّق الأول، يسرد ريزا أن الانهيار الاقتصادي وما تبعه في أزمة كورونا ثمّ في انفجار بيروت، خلق حاجات كبيرة، وأكثر بكثير من القدرة، وخلق توقعات أكبر من الأمم المتحدة و«المجتمع الدولي»، بينما هذه الأمور من مسؤولية الدولة. «والحصول على الدعم المطلوب أو جزء كبير منه، لن يتمّ من دون إصلاحات يعرف جميع اللبنانيين أن هناك حاجة إليها، لكي تعود الأمم المتحدة إلى تنفيذ مهام التنمية، وليس المهام الإنسانية».
في الشق الثاني، حول واقع اللجوء السوري، فإن الغالبية العظمى من السوريين انتقلوا إلى لبنان بسبب الحرب التي اندلعت قبل 12 عاماً، لكن أيضاً هناك ما بين 300 إلى 500 ألف سوري يقيمون في لبنان بشكل دائم، أو يتنقلون تبعاً للنشاط الاقتصادي، ويرفدون سوق العمل اللبنانية باليد العاملة. مع مرور الوقت، تغيّرت النظرة اللبنانية عموماً إلى النازحين، من التعاطف بسبب الحرب، ثم إلى الشعور بالمنافسة. في المنطقة عموماً، حصل عدد من موجات النزوح أو اللجوء، وهناك ثقافة عامة لإغاثة المتضررين وقيم أخلاقية مشتركة تحكم الإقليم. لكن الأزمات الاقتصادية بدأت تبدّل هذه النظرة وتحرك الهواجس الديموغرافية، وكل هذا سببه غياب الاستراتيجية المشتركة بين اللبنانيين، وبين الحكومة والمنظمات المختلفة، وليس فقط مع مفوضية شؤون اللاجئين.
يمرّ ريزا على الاجتماعات التي جمعت ممثلين عن الأمم المتحدة واللجنة الوزارية المكلّفة متابعة الملفّ، كاشفاً أن الوصول إلى «ورقة النقاط التسع» خطوة مهمة. ويؤكد أن الحكومة طلبت تبادلاً للمعلومات بينها وبين المنظمات الدولية.
لماذا لم تطلب الحكومة سابقاً مثل هذا التنسيق؟ يجيب ريزا أن عملية تبادل المعلومات كانت دوماً موجودة، لكن بفاعلية أقل من المطلوب. يقول مثلاً إن ممثلي الحكومة تحدّثوا عن نازحين يذهبون إلى سوريا ثم يعودون إلى لبنان، وإذا كان يصحّ معاملتهم معاملة اللاجئ، «نحن لا نعرف من هم أصلاً أولئك الذين يذهبون ويعودون». ثم هناك مشكلة الوافدين الجدد. المهم بالنسبة لريزا، هو وضع آلية تنسيق عملية لمعالجة الملف طبقاً للواقع الجديد، والحكومة اللبنانية لديها الأنظمة والقوانين لمعالجة الخروقات. يجب أن يعرف اللبنانيون أن الأمم المتحدة لا تشترك في مؤامرة توطين النازحين في لبنان، بالنسبة لنا اللاجئون سيعودون إلى ديارهم، والسؤال ليس إن كانوا سيعودون أم لا، إنّما متى وكيف».
في المستوى الثالث، ترتبط مشكلة النزوح في لبنان بالعلاقات السياسية بين سوريا والدول الأخرى، ويشترك بالمسألة الجميع تقريباً، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والروس والألمان وغيرهم كثر، عدا عن الدول الإقليمية. كلهم معنيون بالأمر وهذه المشكلة الأكبر. هناك أجواء «إيجابية» بما يحكى حول التطورات السياسية في المنطقة بما قد ينعكس إيجاباً على ملفّ اللجوء، لكن هناك أسئلة حقيقية حول لماذا لا يعود السوريون طوعاً إلى سوريا؟ عندما نسأل النازحين في استطلاعات الرأي، تظهر مشكلات عدة مثل الدمار الهائل في المناطق التي ينحدرون منها وأزمات غياب الخدمات الأساسية والخوف على المستقبل اقتصادياً، لكن هناك مشكلات أيضاً أساسية متعلّقة بالأمن والخدمة العسكرية والقلق من مسألة المُلكية. هذه الأمور ليست في يد الأمم المتحدة، إنّما في يد الحلّ السياسي في سوريا، ويجب أن يحصل حوار بناء.
بين 300 و500 ألف سوري يقيمون في لبنان بشكل دائم والهواجس الديموغرافية غيّرت النظرة إليهم
من المفارقات العجيبة، أن يضطّر مسؤول أممي لتوضيح مثل هذه المعطيات، في سبيل تخفيف التوتر بين اللبنانيين والسوريين. بعض اللغط الذي يعلّق عليه ريزا، بالنسبة إلى الإشاعات التي تنتشر بين اللبنانيين، حول حصول النازحين السوريين على بدلات بالدولارات الأميركية، بينما يحصل المستفيدون اللبنانيون من برامج المساعدة على الدعم بالليرة اللبنانية. يجزم بأن هذه المعلومات خاطئة مئة في المئة. إذ يؤكّد أنه منذ عام 2019، يحصل السوريون في لبنان على المساعدات بالليرة عبر برنامجين، الأول لدعم الطعام والثاني للدعم غير المخصّص للطعام. مجموع ما تحصل عليه العائلة السورية، خلال الشهرين الأخيرين مثلاً لم يتجاوز ما قيمته 8 ملايين ليرة لبنانية، أي حوالي 80 دولاراً في الشهر لعائلة مكوّنة من خمسة أفراد، علماً بأن النازحين يحتاجون إلى دعم غير مخصص للطعام أكبر من اللبنانيين كون السوري لا يقيم في منزله. بينما يحصل اللبنانيون من برنامجين مختلفين أيضاً، على مبالغ تصل إلى أقل من 200 دولار شهرياً، بمجموع 45 دولاراً للمساعدة غير المخصصة للغذاء، و25 دولاراً عن كل فرد في العائلة للدعم الغذائي في العائلات التي يصل عدد أفرادها إلى ستة. أما حول التعليم والتربية، وبالرغم من كل الاتهامات حول محاولة دمج الطلاب، لا يذكر اللبنانيون أن المشاريع التي يتمّ دعم المدارس عبرها، يستفيد منها اللبنانيون وغير اللبنانيين، لا سيمّا دعم الوقود والطاقة الشمسية وغيرها من المساعدات.
ما لم يقله ريزا، هو ما يقوم به مصرف لبنان بموافقة وعلم الحكومة والقوى السياسية، عبر الاستفادة من الأموال المخصصة للنازحين السوريين، إذ يحتفظ المصرف المركزي بالدولارات المدفوعة ويتم تسديد مخصصات النازحين بالليرة، ما يعني أن هذه الأموال تسهم في تمويل فاتورة الاستيراد وفي تمويل الرواتب للدولة اللبنانية، كما أسهمت المليارات المدفوعة في لبنان منذ 2011 في رفد الخزينة بالعملة الصعبة وتعويض تراجع حجم الودائع الأجنبية والمداخيل الذي تراجع في السنوات العشر الأخيرة.
رغم كل ذلك، يعترف ريزا أن لبنان، الذي يتحمّل وجود ما يقارب ثلث عدد السكّان من النازحين، «يعامل النازحين بطريقة أفضل من بعض الدول المنضوية في اتفاقية اللاجئين ويراعي القوانين الدولية».
الاحصاء مسؤولية الحكومة اللبنانية
تبقى مسألة أعداد النازحين، من أكثر النقاط الشائكة في الملفّ، وهو بالمناسبة ليس استثناءً في بلد الإحصاءات الممنوعة كرمى لعيون التحاصص الطائفي وسياسة طمر الرأس في الرمال. إذ إن الحكومة اللبنانية أوقفت تسجيل النازحين منذ عام 2015. والأرقام المتداولة اليوم تتراوح بين مليون ونصف مليون نازح وبين مليونين، من دون أن تقوم أي جهة رسمية بحسم التباين. هذا الأمر، بحسب ريزا، «لا يمكن حسمه إلّا بالتنسيق بين الحكومة والمنظمات الدولية، وبتطبيق القوانين بطريقة أخلاقية، وهذه أيضاً من مسؤولية الحكومة اللبنانية».