منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، يتفاقم الصراع على الطاقة وإمداداتها، بدءًا بالتنقيب عنها وصولاً إلى كمية الانتاج والكلفة والأسعار. يتعارض هذا الصراع مع المصالح السياسية والاقتصادية الاستراتيجية للدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا ومعهما الاتحاد الأوروبي، ما يجعل الحصول على النفط والغاز كمادة أثراً كبيراً في رسم السياسات والمصالح الدولية مع صعوبة إيجاد البدائل للطاقة، وهذا كله ينبأ باحتدام الصراعات في العلاقات الدولية، وبتعقيد آليات التشابك والاشتباك، من أجل السيطرة على منابع النفط وطرق إمداداتها.
ويركز الباحثون في العلاقات الدولية، على أهمية العلاقات الاقتصادية الدولية التي لها بالغ الأثر في نسج العلاقات بين الدول، وفي تأثيرها على إدارة النظام العالمي، ولا يخفى مدى تأثرها وتأثيرها بالسياسة الدولية، ومدى تناسق وتنافر المصالح بين الدول، وهذا ما ينعكس عادة من خلال الصراعات التي تحصل في التجارة الدولية وعالم الطاقة والنفط. انطلاقًا من ذلك، تتجدد الخلافات حول إمدادات النفط بين الدول الكبرى المصدرة.
وينعكس هذا الصراع خاصةً على الشرق الأوسط بما فيها المنطقة العربية التي تمتلك ثّروة ضّخمة تجعل أمنها القوميّ عرضة للتهديد والتحديات، كما يحصل مع لبنان اليوم على سبيل المثال، لا سيّما أمام تقاعس الدّول العربيّة عن المشاركة في حفظ هذه الثّروات أو نتيجة نزاعاتها البينية وتآمرها على بعضها البعض ودخولها في نزاعاتٍ ثنائيةٍ، ويفاقم هذا الأمر التّبعية الاقتصاديّة العربيّة للدّول الصّناعيّة، نتيجة الاعتماد على قطاعٍ واحدٍ، هو النفط، وعدم الاستفادة منه للضّغط على دول الغرب، وتزايد مديونية بعض الدّول العربيّة للعالم الخارجيّ، ما أدّى إلى التّبعيّة السّياسيّة، التّي أدّت إلى المزيد من الانتكاسات والكوارث على الأمّة العربيّة.
وفي ظل وجود هذه الثّروات في المنطقة العربيّة، فإنّ دولها تتآمر على بعضها، وتدخل في نزاعاتٍ فيما بينها، وبدلاً من المحافظة على ثروة الّنفط، وحماية الأمن القوميّ العربيّ، خاصةً من خلال جامعة الدّول العربيّة، فإنّ الجامعة ومعها عدّة دول، ذهبت في معترك الأزمة السورية، إلى عزل سوريا ومحاصرتها سياسيّاً واقتصاديّاً، نتيجة سيطرة الدّول العربيّة النّفطية على قرار الجامعة. حيث كان يترأس اجتماعات الأخيرة؛ دول مجلس التّعاون الخليجيّ في ومقدمتها قطر والسّعودية المتّهمتين بالتآمر على سوريا والدخول في مشاريع التطبيع مع العدو الإسرائيليّ، والتّي تُصادر قرارها الإدارة الأميركيّة الطّامعة في منتجاتها النّفطيّة.
ويأتي التركيز في غمرة صراعات الطاقة على لبنان وسوريا والعراق في هذه المرحلة، حيث تعد هذه الدول البوابة الاسيوية لإمدادات الطاقة، من خلال الخط الذي يمتد من إيران عبر تركمانستان إلى الصين، والخط المقترح، والذي قد يمتد من إيران عبر العراق وسوريا إلى البحر وصولاً إلى لبنان وهو ما يعرف بطريق الحرير، ويحصل ذلك في ذروة التشابك السياسي على الساحة الدولية نتيجة التحول نحو الشرق، والذي يفتح الباب أكثر للتدخّلات الدولية في هذه المنطقة.
وتمارس واشنطن الحصار النفطي على هذه الدول، بالاعتماد على أدوات إرغاميّة مختلفة ومتنوعة، وذلك لتحقيق جملة من الأهداف المتعلّقة بالسيطرة والاستغلال لموارد الطاقة في العالم من جهة ولمحاصرة الدول والقوى الإقليمية التي تسعى لاستغلال ثرواتها النفطية والغازية بعيداً عن التدخل الأميركي والغربي من جهة أخرى، وقد تفاقم ذلك منذ الحرب الروسية الأوكرانية، وتصاعد الحاجة الأوروبية لمصادر الطاقة، بمقابل محاولة واشنطن منع تسويق الغاز الروسي وفرض عقوبات على موسكو. وتستخدم الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية كوسيلة للضغط على الدول ومحاصرتها وإضعافها واستنزاف قدراتها في مواجهة الهيمنة والسيطرة الأميركية. ولعلّ من أهم الوسائل المستعملة في ذلك الحصار النفطي والتحرك من أجل وضع اليد والسيطرة على كل منافذ وموارد الطاقة العالمية.
ويدعو جون ألترمان الولايات المتحدة إلى اتخاذ موقف وعدم ترك الجيش الأمريكي يتنحى عن المنطقة قبل أن تترك نفسها في مواجهة ما يمكن أن يحدث على المدى البعيد. فهو يرى أنه بينما تتجه الولايات المتحدة إلى آسيا، تشق الصين طريقها بصبر في الشرق الأوسط. تعلن الصين عن نفسها على أنها الترياق للهيمنة الأمريكية. ويعتبر ألترمان أن من الحكمة ألا ينحرف الجيش الأمريكي بشكل حاد عن المنطقة، على الرغم من الضغط للتركيز على المحيط الهادئ – حيث يعتمد حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية بالفعل بشدة على الطاقة في الشرق الأوسط. ويقول إن قلة من الأمريكيين الذين لديهم الكثير من الصبر على الشرق الأوسط بعد الآن، لكن الصبر هو بالضبط ما يتطلبه الأمر.
وستواصل الولايات المتحدة العمل على تعطيل ومحاصرة كل المحاولات الهادفة إلى كسر الهيمنة الأميركية على سوق الطاقة، من خلال محاولة الاستئثار بالسوق العالمية وفرض القيود الإقليمية والدولية على طرق النقل والتوزيع لموارد الطاقة من نفط وغاز، ففي ظل التحوّلات التي تطرأ على النظام العالمي الجديد الذي تشكّل في ظل تراجع الهيمنة الأميركية، بات الإمساك بزمام موارد النفط والغاز الطبيعي، وأنابيبه وممرّاته، معياراً أساسياً من معايير القوة الجيوسياسية، فهذه التحولات لم تأت إلا في سياق التبدّل في مقوّمات القوة الاقتصادية والهيمنة العسكرية التي ترتكز على حجر أساس هو الطاقة بشكل عام. وتحتلّ منطقة الشرق الأوسط مقدّمة الصراع الأكثر حماوةً في آليّات التشابك بين المحورين الروسي والأميركي. ومن المتوقع أن يزداد التجاذب في هذه المنطقة من العالم وأن تتصاعد وتتكاثر فيها الأزمات أمام تحوّلها إلى مسرح للصراع الجيوبوليتيكي من أجل السيطرة على مصادر النفط أو الاستفادة من أرباحه الطائلة.
الكاتب: د.علي مطر