“إنها الحركة التي ما إن تجتثّها في مكان حتى تنمو في مكان آخر”، هكذا قال المفكّر اليهودي ميخائيل سيلغ في وصفه لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. على مدى عقود من ممارسة كيان الاحتلال لمخططات استهدافها من اغتيالات طالت قادتها ومؤسسيها، ومن اعتقالات لكوادرها في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وحروب حاولت تدمير بنيتها التحتية العسكرية وعزلها عن حاضنتها الشعبية ضمن حملات التشويه والتضليل، وكان آخرها معركة “وحدة الساحات”، فشل الاحتلال من تقويض الحركة التي تختلق طرقاً وأساليب مختلفة لترجمة إيمانها بحق الشعب الفلسطيني في الجهاد والمقاومة.
إنّ ما وصلت اليه حركة الجهاد الإسلامي، وعلى الرغم من اعتبار تاريخ السادس من شهر تشرين الأوّل / أكتوبر من العام 1987 الانطلاقة العلنية، قد بدأ بمرحلة سرّية من العمل الشامل قبل الانتفاضة الأولى. وفي دراسة بعنوان “ما هي حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين؟”، أضاء مؤسسها وأمينها العام الأوّل الشهيد المفكّر الدكتور فتحي الشقاقي على جوانب من العمل السرّي مطلع الثمانينيات مقسّماً ذلك الى مراحل مرّت بها الحركة في فلسطين.
بداية، إنّ حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين هي حركة إسلامية فلسطينية مقاتلة تبلورت تنظيمياً في مطلع الثمانينيات داخل فلسطين المحتلّة بعد أن كانت حواراً فكرياً وسياسياً امتدّ منذ منتصف السبعينيات في أوساط بعض الطلبة الدارسين وقتها في مصر. وقد شمل هذا الحوار مسائل منهجية تتعلّق بفهم الإسلام والعالم والواقع وكيفية رؤية وفهم التاريخ بشكل عام والتاريخ الاسلامي بشكل خاص. أدى الفهم المبكر بالتاريخ للوصول نحو إدراك خصوصية فلسطين في الإشكال الإسلامي المعاصر واعتبارها بالتالي القضية المركزية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية.
مع نهاية السبعينيات كان هذا الحوار الفكري والسياسي يتحوّل الى مناخ سياسي تنبثق عنه نواة تنظيمية اندفعت لاحقاً باتجاه فلسطين المحتلّة لأجل بناء الحركة الإسلامية الثورية المحاطة بالجماهير الواعية المتحمّسة لخلاص الذات والوطن تحت راية الإسلام. جاءت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين لتُجيب عن السؤال الفلسطيني إسلامياً ورفعت شعارات: الإسلام كمنطلق، الجهاد كوسيلة، وفلسطين كهدف للتحرير.
المرحلة الأولى: العمل الإعلامي والسياسي والتعبوي
مرت هذه الحركة منذ انطلاقتها بمراحل عديدة، شملت المرحلة الأولى العمل الجماهيري والسياسي والإعلامي والتعبوي. برز الدور الطلابي للحركة في الجامعات ومعاهد الضفة الغربية والقطاع؟ وفي نهاية العام 1981 تم تشكيل كتلة طلابية (الإسلاميين المستقلين) في الجامعة الإسلامية بغزة كممثلة لحركة الجهاد الإسلامي. وقد حقّقت نتائج إيجابية في أول انتخابات جرت في كانون الثاني / يناير 1982 رغم مضي فترة قصيرة على تواجد الحركة.
بعدها، بدأت الحركة في إصدار مجلة “النّور” في مدينة القدس المحتلّة وهي مجلة تابعة لجمعية الشباب المسلمين. استمرت المجلة بالصدور لغاية نهاية عام 1982، وكانت تعبّر عن الموقف الحركي الأيديولوجي والسياسي. بعد مجلة “النور” بدأت تصدر مجلة “الطليعة الإسلامية” في بريطانيا معبّرة عن نفس الخط الأيديولوجي والسياسي. وخلال أيام قليلة من صدورها في لندن كان يعاد طباعتها سراً في القدس لتوزّع في كافة أنحاء فلسطين تاركةً آثار مهمة في الشارع الفلسطيني مما دفع الاحتلال الى البحث عن كيفية طباعتها وتوزيعها. كثّف الاحتلال لهذه الغاية حملات الاعتقال التي شملت العشرات من شباب الحركة ومن بينهم الدكتور فتحي الشقاقي. تحوّل الاعتقال وقضية المجلة الى أهم القضايا السياسية والأمنية في تلك الفترة، وتحوّل التحقيق مع الشباب على مدى 5 شهور من قضية مطبوعات وتحريض على الثورة والجهاد الى بحث الاحتلال عن هياكل تنظيمية سياسية وأمنية وكذلك البحث عن سلاح وخلايا عسكرية.
تعتبر هذه المجموعة الإسلامية التي ضمّت العشرات من أبناء حركة الجهاد الإسلامي أول تنظيم إسلامي يتم اعتقاله منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع عام 1967. فالموقف الإسلامي التقليدي كان حتّى ذلك التاريخ (1983) يتجنّب الصدام السياسي أو الأمني المباشر مع الاحتلال!
في تلك السنوات حشدت حركة الجهاد الإسلامي للتجمعات والصلاة والتظاهرات في المسجد الأقصى تعبيراً عن التحدي للاحتلال، وهكذا تعاظم دورها في مختلف المجالات، كما تعاظم حضورها في الجامعات والمساجد والمخيمات والمدن والقرى كافة.
المرحلة الثانية: الجهاد المسلّح
كان الأهم بالنسبة لحركة الجهاد الإسلامي هو الجهاد المسلّح، لذا مع الأسابيع الأولى لحضورها داخل فلسطين كان يتم، في ظل أعلى درجات السرية تنظيم خلايا عسكرية مسلّحة، فالفصل بين المرحلة الأولى والثانية ليس فصلاً آلياً.
في صيف العام 1981، تمّ تنظيم أول خلية مسلّحة، ولكن خلال الأعوام 1983/1984/1985 كان العمل المسلّح يبدأ تدريجيّاً وبطيئاً وفي سرية تامة. في 2/3/1987 اعتقل الاحتلال الشهيد الشقاقي للمرة الثانية وذلك بعد أسبوعين على آخر عملية عسكرية نفذتها الحركة في مدينة غزّة في 18/2/1986 وكانت هجوماً بالقنابل على تجمّع لجنود الاحتلال أثناء تبديل الدورية في نفس المكان الذي استشهد فيه شاب فلسطيني. رأت الجماهير أن هذه العملية الجريئة مثّلت الرد. وكانت قد سبقتها 8 عمليات للجهاد الإسلامي في مرحلة دخل فيها العمل الفلسطيني (قبل الانتفاضة الأولى) عنق الزجاجة وعانى من إحباطات متعدّدة.
توالت عمليات الجهاد الإسلامي، بدءاً من عملية “البراق” (في القدس المحتلّة) بتاريخ 6/10/ 1986 الى عملية “الشجاعية” في 6/1/1987 (التي اعتبرت من إحدى شرارات انطلاق الانتفاضة) مروراً بعمليات الطعن بالسكاكين والهروب من سجن غزّة المركزي وعملية قتل الكولونيل في جيش الاحتلال وقائد الشرطة العسكرية في قطاع غزّة رون طال في 2/8/1987 والتي وصفها وزير حرب الاحتلال آنذاك إسحاق روبين بـ “الاستثنائية وسيكون الرد عليها استثنائياً”.
نفّذ القادة الذين تحرروا من السجن العديد من العمليات العسكرية لا سيما في الشجاعية (شرق قطاع غزّة)، فكان دمهم إيذاناً بدخول الشعب الفلسطيني مرحلة جديدة، كما دخول حركة الجهاد الإسلامي مرحلة جديدة هي الانتفاضة.
المرحلة الثالثة: الانتفاضة
دخلت الحركة مرحلتها الثالثة بانطلاق الانتفاضة الشعبية في فلسطين. فقد كانت خيبة الأمل الفلسطينية في الواقع العربي الرسمي في تلك الأيام تأخذ مداها وكان الإسلام يرتفع عنواناً للمرحلة ويتجذّر عميقاً في وجدان الشعب ليقود مسيرة الجهاد من جديد.
إن حركة الجهاد الإسلامي لم تصنع الانتفاضة، لأن الانتفاضة أكبر من كل الهيئات والأحزاب والمنظمات والفصائل، وهي أيضاً لم تحدّد ساعة الصفر في انطلاقها، لكنّ خروج الجماهير الى الشوارع مثّل حلماً بالنسبة للحركة.
واكبت الحركة الانتفاضة ساعة بساعة وأصدرت البيانات والمنشورات لتحثّ الجماهير على الخروج والمقاومة. لقد تحمّلت الحركة مع الجماهير عبء التصدي للاحتلال في الأسابيع الأولى حتى نهضت بقية القوى الإسلامية والوطنية لتشمل الانتفاضة كافة القوى والفئات والطبقات. ولقد دفعت الحركة التكاليف والاثمان عندما اعتقل أهم كوادرها مبكراً، وأُبعد بعض قيادييها، مورس ضدها أشد أنواع البطش وتعرّضت لحملات من التجاهل والتعتيم.
إنّ مشاركة “الجهاد الإسلامي” في الانتفاضة لم تكن على حساب العمل على صعيد التحرّك السياسي والتعبئة الجماهيرية أو على حساب الجهاد المسلّح ضد العدو الذي استمر رغم الدعوات لوقفه.
بين عمل مطلع السبعينيات والثمانينيات، و35 سنة من العمل المتواصل على الأصعدة كافة، لم توفر حركة الجهاد الإسلامي جهداً في بناء قدرات الشعب الفلسطيني لمواجهة الاحتلال، وفرضت حضوراً يستمد شرعيته من الجماهير في الساحة الفلسطينية، وامتدت جذورها بارتباطات إقليمية متينة تجعل منها شريكةً أساسية في حرب متعدّدة جبهات محور القدس بل وفي المركز.
الكاتب: مروة ناصر