يسجّل شهر تشرين الأوّل / أكتوبر من العام 2022 انجازاً استراتيجياً ينقل لبنان من مرحلة الى مرحلة أخرى ستتبلور معالمها أكثر في المستقبل القريب، اذ حجز البلد حضوراً بين الدول التي تختزن الثروات النفطية والغازية في عالم يعيش حرب الطاقة وتأمين مصادرها المتنوعة. ومن جهة ثانية فرضت المقاومة في لبنان معادلات وقواعد جديدة لم يكن قد شهدها كيان الاحتلال قبل هذا العام.
فكيف حدث ذلك، وما كان دور المقاومة؟
منذ وصول لبنان الى ذروة الأزمات الاقتصادية والمالية عام 2019، بغض النظر عن تفاصيل أسباب الأزمة ومفتعليها، الا أن كيان الاحتلال رأى في ذلك الوضع فرصة يمكن استغلالها لتوجيه ضربة “قاضية” لحزب الله. كان الرهان الإسرائيلي تضعضع البيئة الداخلية للحزب وانقلابها عليه، كما استنزاف الحزب في الازمات ووقوعه في فخّها.
في تقدير موقف تحت عنوان “تفكُّك لبنان سيء أم جيد لإسرائيل؟”، انتشر في “معهد الأمن القومي الإسرائيلي” منتصف العام الماضي، وأعّدته الباحثة اليهودية أورنا مزراحي وهي قد خدمت أكثر من 12 عاماً في هيئة الأمن القومي التابعة لرئيس الحكومة، وهي شغلت منصب نائبة مستشار الأمن القومي للسياسة الخارجية، ومنسقة عمل الهيئة والتخطيط الاستراتيجي لرئيس الحكومة والمجلس الوزاري المصغر، كان التقدير الإسرائيلي هو أنه ” كلما ازدادت المصاعب الداخلية في هذه الدولة كلما غرق حزب الله في مواجهة مشكلات هذا البلد (أيضاً في وضع التفكك)، وسيكون من الصعب عليه التفرغ للمواجهة مع إسرائيل، وسينتهج نهجاً منضبطاً أكثر حيالها”.
المقاومة حاضرة رغم الأزمات
ظنّ كيان الاحتلال أن الفرصة سانحة لتحرّكات في البحر وانتهاك حقوق لبنان وبدء بتلزيم شركات للتنقيب والاستخراج في المساحات المتنازع عليها. في المقابل، لم تشغل الأزمات حزب الله الذي كان يراقب عن كثب نشاطات الاحتلال في البحر الأبيض المتوسط. وقد شدّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 29 / 10 / 2021، “إذا كان العدو يَتصوّر أنّه يستطيع أن يتصرّف كما يشاء في المنطقة المتنازع عليها قبل حسم هذا النزاع هو مُشتبه ومخطئ”.
وتابع السيد نصر الله أن “المقاومة في لبنان في الوقت المناسب، وفي اللحظة المناسبة من خلال متابعتها لهذا الملف عندما تجد أنّ نفط لبنان وغاز لبنان ولو في المنطقة المتنازع عليها هو في دائرة الخطر، ستتصرّف على هذا الأساس وهي قادرة أن تتصرّف على هذا الأساس”. وشهدت تلك فترة اختيار عاموس هوكشتاين كـ “وسيط”، وزار لبنان لكن لم يتم التوصّل الى نتائج حاسمة وجدية.
بعد تداعيات المواجهة الروسية الغربية التي وضعت القارة الأوروبية أمام أزمة للغاز جدّية منذ شباط / فبراير الماضي، برزت الفرصة الذهبية لاستفادة لبنان من ثروته البحرية. فكان إدخال السيد نصر الله للمعادلة البحرية الى الخدمة صدمة لمستويات الاحتلال، يظهر تأثيرها من خلال فرملة الاحتلال لأعماله البحرية كافة بعد أن وصل الى آخر الخطوات قبل الاستخراج ومن حقل “كاريش” تحديداً متجاهلاً لحقوق للبنان.
خفض السقف الإسرائيلي والتخلّص من المراوغة
لأول مرّة في تاريخ الصراع العربي مع الكيان، تُهدّد “إسرائيل” التي احتلّت الأراضي الفلسطينية عام 1948 وهزمت الجيوش العربية في حرب عام 1967، وحتى الحروب السابقة معها ظلّت تدور في الفلك الدفاعي، حيث يكون جيش الاحتلال هو المعتدي والطرف الآخر يملك حق الدفاع عن نفسه وأرضه. بادر حزب الله الى معادلة هجومية تقلب الطاولة في كلّ المنطقة، وتطال – ناهيك عن “كاريش وما بعدها – الحقل الأساسي “لافيتان” الذي يستند عليه الاحتلال بشكّل رئيسي للحصول على الغاز.
في زيارات هوكشتاين الأولى بعد إعلان السيد عن المعادلة لم يأخذ كيان الاحتلال والولايات المتحدة التهديد على محمل الجد. وقد بدا ذلك واضحاً في مقابلة هوكشتاين مع قناة “الحرّة” (حين زعم أن لبنان لا يملك شيئاً)، فلعب حزب الله أوراق قوّته العسكرية وغير العسكرية للضغط.
عدّلت مسيرات حزب الله الثلاث من أسلوب التفاوض ونشطت حركة هوكشتاين على خط بيروت و”تل أبيب”. وهذا مثّل بداية انخفاض السقف الإسرائيلي ومن خلفه الأمريكي الذي ألغى مراوغة كان عمرها عقداً من الزمن والتزم بالتوصّل الى خواتيم الأمور خلال المدّة الزمنية التي حدّدها السيد نصر الله والتي لا تتجاوز شهر أيلول / سبتمبر.
المسيرات كانت من الرسائل العلنية، لكن من جملة الرسال العسكرية السرية التي أرسلتها المقاومة الى مستويات الاحتلال، فقد أشار وزير حرب الاحتلال بيني غانتس الى أن “حزب الله حاول أن يتحدى منصة “كاريش” بواسطة قطع بحرية وليس فقط عبر إطلاق مسيرات”.
أمّا في وسائل الضغط الأخرى، فقد اضطر الاحتلال، مع إدراكه بجدية قرار المقاومة بالدخول في حرب، اضطرت وزارة طاقة الاحتلال من نشر بيان “رسمي” لتؤكد فيه أن الأعمال التي ستجري في “كاريش” قبل التوصّل الى اتفاق هي ضخ عكسي تجريبي لا يمت بصلة الى الاستخراج الفعلي. وتضمن البيان شرح تقني لعملية اختبار تدفق الغاز في الاتجاه المعاكس، من الشاطئ إلى الحفارة، واختبار منظومة الأنابيب. وكانت “القناة 13” العبرية قد ذكرت أن الهدف من البيان هو تجنّب رفع مستوى التوتر مع حزب الله.
فيما عارض بعض المسؤولين في الكيان إصدار هذا البيان لاعتباره يقدّم “إسرائيل” كمن يخشى المواجهة العسكرية، بالإضافة لاعتباره اعترافاً بالمعادلة التي وضعها السيد نصر الله وسيعزّز من موقف لبنان في المفاوضات.
اللافت في نهاية المطاف، كان الاعتراف الإسرائيلي بأن الاتفاق جاء لتجنّب التصعيد مع حزب الله، فقد صرّح رئيس حكومة الاحتلال يائير لابيد بعد الإعلان عن الموافقة على المسودات النهائية أن “هذا اتفاق تاريخي سيعزز أمن إسرائيل…وسيكفل استقرار حدودنا الشمالية”.
النتائج التي حصل عليها لبنان بفعل المقاومة
بعد كل ما أقدمت عليه المقاومة، وصل الملف الى مرحلة تسلّم بيروت المسودة الخطية النهائية وأخذ الاحتلال بعين الاعتبار لملاحظاته وتعديلاته، كما الاعتراف بخط الـ “23” وحقل “قانا” الذي كان يعتبره الاحتلال من بين الحقول المحتلّة الواقعة تحت “سيطرته”.
على الرغم من أن البعض قد يذهب الى القول بأن لبنان في هذا الاتفاق تنازل عن الخط 29 أو قد يذهب نحو خطوط أكثر جنوباً وأقرب الى سواحل حيفا المحتلّة بحسب الامتدادات البرية ونقطة رأس الناقورة، الا أن المفاوض الأمريكي لم يعترف للبنان بأكثر ممّا يسمى “خط هوف” ويحرم البلد من مساحة 860 متر مربع في المياه.
الأهم في كل ما حدث، لم يكن فقط التوصّل الى “اتفاق” على الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلّة بل كان ذلك الوسيلة نحو الاستفادة من الثروات لا الغاية، اذ إنّ المقاومة عبر المعادلة والرسائل السابقة انتزعت حق لبنان في التنقيب والاستخراج متحديةّ بذلك الحصار الأمريكي على البلد الذي كان يهدد بوضع الشركات الأجنبية على العقوبات. فيما ستبقى المعادلة البحرية قائمة لضمان الاستخراج اللبناني.
بهذا شقّ حزب الله الطريق أمام لبنان وأجياله للاستفادة من عائدات الثروة والخروج من النفق المظلم للأزمات عبر استغلال الموارد الداخلية كحل أساسي الى جانب الاستفادة من المشاريع الخارجية.
في الخلاصة، استند لبنان على مقاومته فحصّل هذا الإنجاز الكبير ولم يسمح لا للاحتلال ولا لرعاياه أن يسلبوه حقوقه. وقد أثبتت المقاومة مرّة جديدة أن الشعب اللبناني يمكن أن يراهن عليها من أجل حاضره ومستقبله. ولمن يحاول من الأطراف الداخلية تحجيم هذا الإنجاز والتقليل من أهمّيته، ماذا قدّمت أنتم للبنان؟
الكاتب: مروة ناصر