استقالت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس لتدخل موسوعة الأرقام القياسية لأكثر من سبب، الأول أنها صاحبة أقصر فترة ولاية في تاريخ المملكة المتحدة لمدة 45 يومًا فقط، والثاني أنها تراجعت عن برنامجها الاقتصادي الذي أنتُخِبت على أساسه في عشرة أيام فقط، خسر خلالها بنك إنكلترا 76 مليار جينيه إسترليني، تاركةً الأسواق البريطانية في حالة عدم ثقة دولية، وفراغ سياسي للمرة الثانية خلال أكثر الفترات صعوبة في التاريخ البريطاني.
لماذا استقالت؟
جاءت تراس إلى السلطة على أساس برنامج يقوم على خفض الضرائب وتحقيق نمو سريع، وفي بيان الاستقالة ذكرت أنها غير قادرة على القيام بذلك. حقيقة الأمر أن زعيمة حزب المحافظين لم تتمكن من إقناع مؤيديها قبل معارضيها ببرنامجها الاقتصادي، لأنه وبحسب ما وصفته الصحافة البريطانية، يقوم على أسس خيالية كما في قصص الأطفال fairy tales economic، وليس على أساس علم الاقتصاد.
فما هي الخطة؟
كما باقي دول أوروبا في ظل الأزمة الأوكرانية، تعاني المملكة المتحدة من مشكلتين اقتصاديتين هما الأكثر خطورة إذا اجتمعتا، فإنهما يشكلان مركبًا خطرًا، وهما التضخم والركود الاقتصادي. فالواقع أن علاج التضخم يحتاج إلى إجراءات يمكن لها أن تعمّق من الركود الاقتصادي، وعلاج الركود الاقتصادي يعزز ويرفع من التضخم. وبالتالي، فإن علاج الركود والتضخم معًا يحتاج إلى حكمة وحلول صعبة. إلا أن تراس وعدت الشعب البريطاني بإنجاز اقتصادي سريع وسطحي قائم على خفض الضرائب وخصوصًا على الأثرياء، والشركاتالكبرى، الأمر الذي يؤدي إلى الاستثمار الذي سينعكس بدوره على توظيف العمال والفقراء فيستفيد الجميع.
موجة كبيرة من السخرية تعرضت لها هذه الخطة، وأول الأسئلة البديهية كانت من أين سيتم تمويل هذا الخفض؟ خاصة أن الضرائب هي المصدر الرئيسي لدخل الحكومات، وعندما تقوم بخفض الضرائب فإنها تقوم بالمقابل بإجراءات مثل رفع الدعم، أو رفع سعر البنزين، أو أسعار الجمارك على سلع معينة، لكي يبقى لديها القدرة على الانفاق على التعليم والصحة والبنى التحتية، وخفض الضرائب بدون مصدر لتمويل الخفض، يعني الاعتماد على الاقتراض، وبالتالي يكون هذا البرنامج مبني على أسوأ التدابير الاقتصادية.
إلى ذلك فإن خفض الضرائب يعني زيادة السيولة، وزيادة السيولة يعني زيادة في التضخم بسبب ارتفاع الأسعار، وعندما يكون هناك تضخم سيؤدي ذلك إلى ارتفاع الفائدة، وارتفاع الفائدة يعني تعميق الركود. وهو الأمر الذي انتخبت لمحاربته.
فوضى عارمة في بريطانيا
وفقًا لبيانات استطلاعات الرأي الجديدة الصادرة عن مؤتمر اتحاد النقابات العمالية (TUC). تكشف البيانات من استطلاع MRP الذي أجرته Opinium أن أكثر من نصف البريطانيين يقلصون من التدفئة والماء الساخن والكهرباء في ضغط تكلفة المعيشة، وأن واحدًا من كل سبعة أشخاص يتخلى عن وجبات الطعام، لكن هذا يرتفع إلى واحد من كل خمسة أشخاص فيما يقرب من 50 دائرة انتخابية في جميع أنحاء البلاد. وفي ظل ازدياد أزمة الديزل المتوقعة في أوروبا مع بدء فصل الشتاء، فإن الوقود لن يكون متوفرًا لملايين الأسر في بريطانيا.
إلى ذلك يجري الحديث عن عودة بوريس جونسون الذي استقال بدوره بسبب مجموعة من الفضائح وتوالي استقالات أعضاء في الحكومة التي بلغت 50 عضوًا. كل ذلك يجري وسط إمكانية إجراء انتخابات عامة مبكرة يخشاها حزب المحافظين وسط تخوف كبير من خسارة شعبيته لصالح حزب العمال.
انهيار بريطانيا العظمى
أُعلِن بالأمس الخميس، أن طائرة مقاتلة روسية أطلقت صاروخًا بالقرب من طائرة تجسس بريطانية غير مسلحة تقوم بدوريات في المجال الجوي الدولي فوق البحر الأسود يوم 29 أيلول / سبتمبر، انتهى الموضوع على أنّ كل ما في الأمر هو عطل فني وليس تصعيدًا من قبل الروس، الأمر الذي يثير السخرية بأن بريطانيا مضطرة للقبول بهذا التبرير السخيف، لأنها غير قادرة على التصعيد في ظل انهيارها الداخلي.
الواقع أن بريطانيا التي كانت تسمى بـ “العظمى”، والتي كانت من المؤسسين الرئيسيين للاقتصاد الحديث، هي اليوم دولة ضعيفة لا يشفع لها ماضيها، خاصة أنها تقوم بتدمير نفسها ذاتيًا بسبب استخدام البلد في حرب بالوكالة عن دولة ثانية متخبطة أيضًا وهي الولايات المتحدة، كما أنه لا يبدو من سلوكيات بريطانيا تجاه هذه الأزمات المتفاقمة بأنها دولة موازية أو حليفة، بل هي دولة تابعة للولايات المتحدة.
يُحكى أن بريطانيا لن يعيش لها حكومة في ظلّ هذه الظروف العالمية.
المصدر: غرفة التحرير