يقوم عمل جهاز الاستخبارات في مختلف دول العالم، عادةً، على الكشف عن المعلومات التي يحاول الخصم اخفاءها. كما تُعرف مهام “الاستخبارات المضادة”، بأنها قادرة على جعل المهمة الأولى أكثر صعوبة، على من يريد القيام بها. ولأجل تحقيق هذا الهدف تخصص الحكومات مبالغ خيالية، لإعداد وتدريب وتجهيز جيوشها. إلا ان روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي في عقيدته الاستخبارية، حجزت ركناً خاصاً بها في هذا العالم المليء بالغموض والدهاء. اذ تتجاوز العمليات الاستخبارية الروسية مهمة ارباك الخصم وتشتيته، إلى حثّه ايضاً على القيام بعمل ما دون ان يدرك، وبالتالي تغيير مجريات الأحداث. إنها الـ “ماسكيروفكا”.
يقول المتخصص في شؤون روسيا في المجلس الأوروبي، جوستاف جريسيل: “يصر المدربون الروس كثيراً على هذه الأداة، على أهمية الإخفاء والمفاجأة في الحرب… موسكو جعلت من التمويه العسكري علامتها التجارية، مثل حصان طروادة المذكور في ملحمة هوميروس، وهي تدرسها في أكاديمياتها العسكرية منذ عقود”. ويضيف “هذه العقيدة لا تجعلك تعرف أبداً بالنوايا الحقيقية، اذ انها تستخدم كل الوسائل السياسية والعسكرية الممكنة لخداع العدو والحفاظ على زمام المبادرة”.
خلال الحرب العالمية الثانية، قاد الجيش الأحمر شاحناته في دوائر، لجعلها تبدو وكأن المزيد من القوات كانت هناك وجعل العدو يتردد. هذا سمح له، بالتغلب على بعض نقاط الضعف. وفي عام 1956، أثناء التدخل في المجر، تظاهرت القوات السوفيتية بالانسحاب، لكنها قادت هجمة مرتدة. يستشهد، نيكولا جروس فيرهيد، (وهو صحفي فرنسي متخصص في القضايا الأوروبية والدفاع والسياسة الخارجية في باريس) بهذه الأحداث، ليؤكد على انه وسط “الضجيج والغضب الحالي، بين الروس والغربيين، يجب أن نكون حريصين على عدم الوقوع في الفخ… لا يزال الجميع يركزون على الجانب التقليدي للحرب -نوع الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي-، لكن المعركة في مكان مختلف… علينا مراقبة الروس”.
Maskirovka: اليد الخفية التي تغير مجريات المعركة
تُعرّف ماسكيروفكا على أنها “فن الخداع العسكري والاستخباري”. اذ تميّزت روسيا، بالإضافة لقدرتها الاستخبارية العالية (التي وصلت حد اتهام الولايات المتحدة لها بالتدخل في الشأن الأميركي وتهديد أمنها القومي)، باستحداث وابتكار أساليب خاصة بها، بمستويات أعلى عن تلك التي تنتهجها الدول في دفاعها السلبي. وتتجاوز بذلك أساليب التمويه العملي البسيط على المستوى التكتيكي في العمليات السرية والمعارك إلى مستوى التخطيط الاستراتيجي. ويشير الخبير رومان ميلكيرك حول ماسكيروفكا، في حديثه عن عمليات التأثير العسكري المعاصرة، لا سيما في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا: “بالنسبة للروس، لا تتطلب مسألة النفوذ عدة احتمالات، خاصة بالجيش، انها الدبلوماسية والسلطة السياسية والإعلام. الروس لديهم مقاربة عالمية للمسألة مما يجعل من الصعب للغاية قراءة المخططات التنظيمية “. فيما يشير المفكر الاستراتيجي تشارلز ل. سميث: “نظراً لطبيعته المعقدة، فإن عقيدة Maskirovka غير مفهومة بشكل كامل في الغرب”. ويتابع “حتى الثورة البلشفية، كان للجيش القيصري مدرسة “التمويه” التي تم حلها رسميًا في عام 1929، ولكن سرعان ما وجد الجيش الأحمر بديلاً لها”.
ويعتبر ميلكيرك، بأن للمفاجأة تأثير مذهل على العدو، ولهذا السبب فإن جميع العمليات، ضمن هذه العقيدة، يجب أن تتم بسرعة بقصوى وبمعايير استخبارية دقيقة. ولتحقيق “التمويه” المنشود، يجب على القوات أن تقوم بعمليات خداعية بحركات غير متوقعة، والاستفادة من: طبيعة التضاريس، والتكوين الليلي أو الضباب الذي يشارك “بشكل طبيعي” في “ضباب الحرب”، الأمر الذي يضاعف تأثير المفاجأة.
في الفن العسكري السوفيتي خلال عشرينيات القرن الماضي، تم تطوير نظرية Maskirovka العملياتية كواحدة من أهم الوسائل لتحقيق تأثير المفاجأة في العمليات. كما يشير ديفيد إم غلانتز فإن “الممارسة الروسية السوفيتية لماسكيروفكا هي خير مثال على هذا النهج العالمي للتمويه، إضافة لدمج مستويات الحرب من الاستراتيجية إلى التكتيكية، حيث يتم استخدامها في كل من أوقات الحرب والسلم على حد سواء”.
بوتين يحترف تطبيق ماسكيروفكا
لا شك في ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي عمل كضابط سابق بجهاز الاستخبارات السوفياتي (KGB)، والذي بقي مجهولاً حتى اختاره الرئيس السابق بوريس يلتسين خليفة له في آب /أغسطس عام 1999، قد أتقن بشكل مثير للإعجاب، هذه التقنيات، واستخدمها بحرفية منذ توليه المنصب. وهنا مجموعة من العمليات التي اعتبرت مثالاً ناجحاً لتطبيق عقيدة ماسكيروفكا:
يعتبر ضم شبه جزيرة القرم من قبل الكرملين حالة عملية لماسكيروفكا. في 28 شباط/ فبراير عام 2014، دخل إلى سيفاستوبول، حيث تقع إحدى أكبر قواعد البحرية الروسية، جنود مقنّعين خاليين من الشارات، يعرضون أنفسهم بحريّة أمام عدسات الكاميرات، مما يجعل من الصعب تحديد العدد الدقيق للرجال (قاموا بتصوير المجموعة نفسها في أماكن مختلفة لإعطاء انطباع بأن الاعداد هائلة) ثم ظهروا فجأة. في البداية نفت موسكو أي من المعلومات الواردة عما حصل، إلا ان بوتين، عاد بعد بضعة أسابيع -على انتهاء المهمة التي تمت بنجاح- ومنحهم الميداليات وكشف عن انهم بالفعل جنوداً روس يعرفون بـ “الرجال الخضر الصغار”. كانوا في مهمة خاصة، تم نشرهم في شبه جزيرة القرم بعد مشاركتهم في حماية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي التي أقيمت في الفترة من 7 إلى 23 فبراير 2014.
ويقول المؤرخ لاشا أوتخمزوري، “لا يمكن التفوق على الحقبة السوفيتية عندما يتعلق الأمر باستخدام Maskirovka”. ويشير إلى انه خلال الحرب العالمية الثانية، وفي معركته ضد الجيش النازي، لجأ جنرالات جوزيف ستالين، إلى الخداع بقدر ما لجأوا إلى تأثير الأرقام… كل العمليات تضمنت خداعاً. كان هذا هو الحال خلال عملية Bagration، في صيف عام 1944، عندما أربك الجيش الروسي الألمان وشتت قواتهم بهجمات فورية… المعلومات المضللة لم تتعلق فقط بتحرك القوات، لقد كانوا مثيرين للاهتمام”.
في هذا الصدد، يشير، ديفيد ريجوليت روز، وهو باحث في IFAS (المعهد الفرنسي للتحليل الاستراتيجي)، وباحث مشارك في IRIS ورئيس تحرير مجلة Orients Stratégiques، أنه قبل التدخل في أوكرانيا، مارس الروس فن التمويه أو ماسكيروفكا. في حين أن المكر أمر شائع في الأمور العسكرية، فإن التفكير الاستراتيجي الروسي في الماسكيروفكا له العديد من الخصائص التي غالبًا ما تفلت من الغربيين”.
وبحسب ما ورد في تقرير الاستخبارات الخارجية الإستونية، لعام 2021، فإن GRU (المديرية العامة للاستخبارات العسكرية الروسية)، “تنظم، منذ عام 2014، مجموعات من العملاء المقاتلين المنتشرين في أوكرانيا لشن الهجمات وتنفيذ الاغتيالات ونصب مخابئ للأسلحة ليتم تفعيلها فور تلقي إشارة من روسيا”. ويقول انه “من السمات المميزة للاستخبارات العسكرية الروسية مقارنة بنظيراتها في الدول الأخرى أنها، بالإضافة إلى المخابرات العسكرية، تجمع أيضاً معلومات عن اقتصاد وسياسة وتكنولوجيا وبيئة الدولة… للجهاز خمسة مراكز نشاط على أبواب أوروبا”.
وتعليقاً على ذلك، يقول الصحفي المتخصص في الشؤون العسكرية والتاريخ، أنطوان بورغيلو، “ذكي جدًا من يقول ان فلاديمير بوتين هو الكائن البارد، الذي لا يمكن التنبؤ به. لكن هناك شيء واحد مؤكد: طالما أنك تؤمن به، وتتيح له تحقيق أهدافه، فهذه الصورة تناسبه جيداً”.
تستمر أجهزة الاستخبارات الروسية في تنسيقها الدائم مع الأجهزة العسكرية، في تطويع مختلف ميادين التكنولوجيا إضافة للفضاء الالكتروني والحرب السيبرانية وغيرها. أخيراً، بات من المثير للاهتمام، دراسة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كأحد الميادين التي طبّقت فيها موسكو تقنيات عقيدة ماسكيروفكا.
الكاتب: مريم السبلاني