اختُتمت بالأمس أعمال الجولة الـ 19 من مباحثات أستانا حول سوريا، التي عُقدت بحضور وفود الدول الضامنة لهذا المسار وهي روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا، ووفدي الحكومة السورية والقوى التي تسمى بالمعارضة، وبمشاركة وفود من الأردن والعراق ولبنان بصفة مراقب، وممثلين عن الأمم المتحدة ولجنة الصليب الأحمر الدولية.
وبالرغم من أن هذه الجولة لم تفرز مواقف أو خطوات جديدة، لكن اللافت في مواقفها هو بما يتعلق بتركيا، التي تهدد منذ أيام عبر مسؤوليها بشن عملية عسكرية في منطقة شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
فحول هذا الموضوع، ذكر البيان الختامي للمباحثات بأنه تم التأكيد على الوقوف ضد أي هجمات تهدّد الأمن القومي للدول المجاورة لسوريا من خلال الهجمات عَبْر الحدود والتسلل، في إشارة إلى حادثة التفجير الذي حصلت مؤخراً في مدينة إسطنبول التركية.
وهذا ما اعتبره العديد من الخبراء والمتابعين، بأنه شكل فرصة لتركيا لتحصيل بعض المكاسب، عبر استغلال حادثة التفجير وما يرافقه من تمتين للعلاقة ما بينها وبين روسيا (التي بدأت مسارها التصاعدي منذ 6 أشهر)، في ظل تداعيات العملية العسكرية التي تشنها الأخيرة في أوكرانيا.
احتمالية العملية العسكرية البرية التركية
وحول احتمالية تنفيذ تركيا لعملية عسكرية برية في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد، وما يتعلق بها، أجرينا مقابلة مع الخبير الاستراتيجي والعسكري اللواء المتقاعد محمد عباس، وهذا أبرز ما جاء فيها:
1) ما هي احتمالية تنفيذ تركيا عملية عسكرية برية في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد؟ وماذا ستكون أهدافها برأيكم؟
الجيش التركي ينفذ عمليته في المنطقة بشكل متواصل، باستخدام نيران المدفعية والمجموعات الإرهابية المسلحة الموجودة في المنطقة، والتي تسمى جيشاً تركياً بديلاً يعمل في الجغرافيا السورية. وبالتالي فإن التأثير الناري المتواصل على المنطقة، يفرض عملية تهجير للسكان وخلق شروط ضاغطة جديدة عليهم.
والآن عندما نتحدث عن عملية عسكرية برية، أي عن تقدم لدبابات وعناصر جيش الاحتلال التركي باتجاه الجنوب الشرقي وباتجاه الجنوب الغربي من خط الحدود مع لواء الاسكندرون المحتل، فإن هناك احتمال قائم وكبير لحصول ذلك. وسيكون هدفها الرئيسي والاستراتيجي، هو تحقيق المزيد من التوسع في الأرض السورية مع الوصول الى عام 2023، ويكونوا بذلك قد تخلصوا بشكل نهائي من اتفاقية لوزان والعودة الى ميثاق ملّي: منطقة إدلب وحلب وصولاً الى الموصل (العراق). لكن أهدافهم العملياتية والتكتيكية، إنشاء مناطق جديدة يمكن لها أن تتوسع على حساب السوريين، وأن تضمن نقل المواطنين السوريين الذين أُرغموا على اللجوء الى تركيا اليها، لكي يتم تحقيق توسع سكاني وديمغرافي أيضاً في هذه المناطق لصالح تركيا، وفرض واقع جديد أهمه سيطرة تركيا على الطريق الدولي M4، وتجزئة الجغرافيا السورية. وأيضاً هو يقول (التركي) بأنه سيطرد الاكراد، الذين يزيد عددهم في تركيا باعتقادي عن 20 مليون نسمة. إذاً هذه المقولات هي مقولات غير صحيحة وبالتالي هدفها المعلن والنهائي في هذه المرحلة على الأقل أي حتى العام 2023، هي ورقة جديدة للدعاية الانتخابية لأردوغان وأيضاً لتأكيد التنسيق الكامل ما بين القومين والمتدينين، بين حزب العدالة والتنمية المتطرف الذي يسوّق كحزب إسلامي معتدل محافظ جديد وبين الأحزاب القومية التركية التي تتطلع الى تحقيق ميثاق ملّي.
2)هل ستستطيع روسيا منع شن هذه العملية؟
لا شك بأن روسيا سوف تكون متضررة من هذه العملية، ومعها أيضاً إيران، وهما يعتبران ضامنان لما يسمى بمسار آستانة وسوتشي والاتفاقيات التي تتحدث عن السيادة الوطنية السورية ووضع حد للإرهاب الذي يضرب في سوريا. وبالتالي فإن روسيا سوف تسعى إلى إعاقة أو تأخير هذه العملية، لكن التركي يستثمر في موقعه لديها، نسبة للأهمية الجيوستراتيجية والجيوسياسية لتركيا وموقفها السياسي المتأرجح ما بين أمريكا وروسيا، والذي يملك مفاتيحاً يُمسك بها أردوغان بشكل جيد، ويلعب على حبال التي ما بينه وبين روسيا، وما بينه وبين أمريكا، وما بينه وما بين إيران. وأيضاً ما بين تركيا الآيديولوجية والروحية في هذه المنطقة.
هذا كلّه يشير إلى أن أردوغان سوف يستغل علاقته بروسيا استغلالاً سيئاً قذراً، ويسعى من أجل تنفيذ هذه العملية.
الآن هل يمكن لهذه العملية ان تحقق هدفها الإستراتيجي؟ الهدف الاستراتيجي برأيي مرتبط بالمشروع الأمريكي، لأن تركيا لديها مشروعها الخاص المُنسجم والمُحتضن والمُحتوى بالمشروع الإسرائيلي الرامي الى تحقيق ما يُعرف بالسلام الإبراهيمي، وأيضاً مُحتوى من المشروع الأمريكي الذي يسعى لتحقيق شرق أوسط جديد أو شرق أوسط كبير.
وروسيا في هذه الحالة سوف تسعى الى منع شن هذه العملية، لكن أعود للتأكيد بأن التركي سوف يستغل كل علاقته ودوره في المصالح الاقتصادية والسياسية ودوره اليوم في بحر قزوين ومنطقة البحر الأسود وعلاقاته المتشابكة والمعقّدة مع روسيا وإيران من أجل تحقيق هذه العملية. ولذلك أعتقد بأن روسيا يمكن أن تؤخر حصول هذه العملية لكن لا تستطيع منعها، لأن التركي كما قلت يستغل هذا الأمر بشكل جيد.
3)هل تمتلك قسد القدرات العسكرية التي يمكنها من خلالها مواجهة هكذا عملية؟
قسد لا تمتلك القدرات العسكرية، وإذا امتلكت ذلك فإنها لا تمتلك الإرادة، وإذا امتلكت ذلك فإنها لا تملك القرار، فالقرار أمريكي. نتذكر جيداً ما حصل في منطقة عفرين، أن قسد لم تطلق طلقةً واحدةً خارج منطقة عفرين على جيش الاحتلال التركي، الذي كان يمتدّ حتى مسافة 800 كم على خط الحدود بين سوريا وتركيا. وعندما تدخل الجيش السوري وطلب أن يكون على خط التماس والاشتباك، فإن قسد والأكراد اعترضوا على ذلك، ودعمهم في ذلك الموقف الأمريكي.
ولذلك بالعودة الى السؤال، فإن قسد لن تمتلك القدرات على مواجهة جيش الاحتلال التركي، وتتملص وتتهرب من أي تعاون مع الجيش السوري، وأيضاً تعتقد أن الأمريكي جاهز لحمايتها، وعندما تتعرض للخطر تلوذ بالجانب الروسي وتطلب منه أن يمهد لأجواء لعلاقات أفضل مع دمشق. المشكلة في قسد أو مسد أنهم في الحقيقة لا يدركون حجم الخطر الذي يشكله الوجود أو الفكر والهوية الانفصالية لهذه المجموعات الإرهابية المسلحة هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، انا أؤكد بأن هناك تعاوناً كلياً بين قسد وتركيا، وعندما نتحدث عن معركة قتالية بين قسد أو الأكراد مع تركيا، فغنه إذا كانت أمريكا تحتضن أكراداً في قسد، ويجب هنا أن نفرق بين الأكراد وقسد، فهناك أكراد سوريون في مواقع المسؤولية في سوريا، وهناك انفصاليون أعداء لسوريا موجودون اليوم ضمن قسد.
الآن هذه قسد لديها دور انفصالي، وتتكامل في عدوانها مع جيش الاحتلال الأمريكي ضد سوريا، وفي نفس الوقت تتكامل في عدوانها مع جيش الاحتلال التركي، من خلال خلق الذرائع بين يديه لمهاجمة الدولة والجغرافيا السورية وتسديد الطعنات للجيش السوري.
إذاً أنا بتصوري هناك تعاون بين قيادات ما يسمى بقسد والجيش الأمريكي وفي علاقة متعددة مع الجيش التركي. وأعتقد أن كل ما يصرح أردوغان بأنه في حالة حرب مع قسد، فإن ذلك يتبخر عندما يصطدم بالعدوان على سوريا. لذلك لا يوجد تناقضات بين قسد وأمريكا وتركيا، فيما يرتبط بالعدوان على سوريا أو فيما يرتبط بإضعاف الدولة السورية، لا سيما لناحية إجهاض أي قدرات اقتصادية وعسكرية للأخيرة.
لذلك يمكننا أن نقول بأن المطلوب من قسد هو ليس قتال تركيا، بل أن تخلق الذرائع والمبررات لتقدم تركيا، بما يضمن لأنقرة سيطرتها على أراض سورية واسعة، ويكون ورقة انتخابية مهمة.
4)هل من الممكن حصول احتكاك مباشر ما بين الجيش السوري والجيش التركي؟
بالتأكيد الاحتكاك قائم بين الجيشين السوري والتركي، وعندما كانت العملية قائمة في منطقة سراقب، حصلت اشتباكات بنيران المدفعية والدبابات وأعمال المشاة وتم قتل أعداد كبيرة من الجنود الأتراك، وارتقى الشهداء من الجيش السوري وسقط الجرحى أيضا.
وفي يوم الأمس (الأربعاء)، خلال القصف التركي على شمالي وشمالي شرقي حلب، ارتقى شهداء من الجيش السوري، وهذا يعني أن مسألة حصول احتكاك مباشر ما بين الجيشين قائمة ومستمرة ومتواصلة، رغم محالات قسد إعاقة أي انتشار للجيش السوري في مناطق الأعمال الحربية القائمة في الشمال وشمالي شرقي سوريا.
وبالتالي فإن الجيش السوري لديه أوامر وتعليمات بالرد على جيش الاحتلال التركي، ومنع أي توغل له في الجغرافيا والأراضي السورية. والجيش السوري يحمل هوية ورسالة ويحمل قضية، ولن يسمح لعملية تركية بالتوغل في الأراضي السورية.
5)بالرغم من الطعنات الامريكية لقسد، إلا أن الأخيرة حتى الآن لم تتخذ قراراً حاسماً بالتفاهم مع الدولة السورية، لماذا؟
أمريكا لا توجه الطعنات لقسد، لأن الأخيرة مجرد أداة، تستثمر من اجل تحقيق هدف تمزيق الدولة السورية والاستيلاء على ثرواتها، وأيضاً اقتطاع جزء من الجغرافيا السورية لتحقيق ما يسمى بالمنطقة العازلة ” buffer state” بين سوريا والعراق، لأن المنطقة الممتدة ما بين البوكمال والتنف تأتي أيضاً ضمن اهتمامات داعش، والمنطقة الممتدة من البوكمال الى عين ديوار (قرية أقصى شمال شرق سوريا) تأتي ضمن اهتمامات قسد. وقسد وداعش هما أدوات أمريكية تعمل لعزل سوريا عن العراق، ولعزل روسيا عن مياه البحر المتوسط براً، وحرمان الصين من الوصول الى المياه الدافئة براً عبر سوريا، طبعاً لبكين اليوم معابر أخرى باتجاه البحر المتوسط سواءً عبر فلسطين المحتلة أم عبر تركيا. لذلك فإن الأمريكي اليوم يسعى على إغلاق بوابة المتوسط، عن آسيا ووسطها وشرقها، من خلال سوريا.
وبالتالي فإن ما يسمى بالطعنات الأمريكية لقسد، فإن الأخيرة ليست سوى إغراق لقسد في مستنقع الخيانة والعمال ضد الدولة السورية. وحرمان هذه القيادات القسدية من اتخاذ أي قرار يمكن لها ان تعود من خلاله الى الدولة السورية والى هويتها الوطنية السورية، وأيضاً توريطها أكثر في المشروع الانفصالي لحرمان الدولة السورية من ثرواتها الاقتصادية والطاقة وخزانها البشري ومياه نهر الفرات، وكل ما يرتبط ببقائها قوية وقادرة على حماية استقلال قرارها سيادتها وحماية ثرواتها الوطنية. ولذلك فإن ما يهم واشنطن هو استمرار هذه الحرب، وتوسيع مساحات الدم والإرهاب، والاستثمار في هذه المجموعات الإرهابية الانفصالية، التي تتقاطع مهامهم مع المجموعات الإرهابية في منطقة شمال سوريا، حيث جيش الاحتلال التركي، والجيش التركي الرديف المسمى باسم جبهة النصرة والحزب التركستاني وغيرهم، وأيضاً مع المجموعات وداعش في منطقة التنف والـ 55، والأمر لا يختلف على الإطلاق، بحيث يمتد باتجاه الجنوب حيث السويداء ودرعا والقنيطرة التي تُهدد بالمزيد من التصعيد وحرمان هذه المنطقة من الاستقرار، بالرغم من محاولات الدولة السورية العديدة لتامين الاستقرار هناك.
الكاتب: علي نور الدين