الرئيسية / إقليمي دولي / أحداث إيران.. الرواية الكاملة

أحداث إيران.. الرواية الكاملة

إن التأثير الذي تحدثه الرسائل الإعلامية المصطنعة في الجمهور لا يمكن تفسيره بتأثير العامل الواحد، وإنما يتم عبر عملية معقدة من العلاقات والعوامل والمؤثرات المتداخلة، وعبر خطوات واستراتيجيات في التخطيط والاعداد والتنفيذ. بعض الرسائل يتم توظيفها للتأثير المرحلي، وأخرى يتم استثمارها بالاستفادة من الأحداث الجارية واستثمارها لخدمة رسائل طويلة المدى لا يُراد منها تأثيرًا آنيًا إنما تغير جذري في عقلية الجماهير وهي تحتاج إما إلى أزمة يتم استغلالها على مبدأ “عقيدة الصدمة”، وإما إلى التدرج الفكري لتأخذ مداها في التحول دون أن يتم إدراك ما تخفيه من مصالح وأطماع وما تستند إليه من تزييف للواقع. وهو الأمر الذي عملت عليه وسائل الإعلام العربية والغربية المناهضة للثورة الإسلامية في إيران في حادثة وفاة الشابة مهسا أميني، ليس فقط لاستغلال أي حدث يحصل في إيران بهدف شيطنة النظام الإيراني والتقليل من قيمته على المدى الطويل، بل أيضًا للضغط على الإيرانيين بسبب فرض شروطهم في الاتفاق النووي، وهو ما تبين من خلال الرسائل الإعلامية التي تمّ تداولها في حفلة الجنون والقصف الإعلامي غير المسبوق على إيران.

كانت لافتة كل أشكال الضخ المعلوماتي من حوالي 2600 شبكة تلفزيونية 200 منها ناطقة باللغة الفارسية تبث من أمريكا وأوروبا، بالإضافة إلى حسابات المؤثرين المعارضين على مواقع التواصل. قدمت تغطيات مضخمة وتحقيقات إلى تحليلات ومقابلات مع الشخصيات المعارضة، بالإضافة إلى نشاط اليوتيوبرز المشهورين، لضخ كل ما يمكن من تبريرات لجعل الناس مقتنعين بعدم جدوى النظام الإيراني حتى بعدما تمّ تجميد شرطة الأخلاق. والملاحظ أن الرسائل التي يتم بثها لا تراعي المهنية وانتهكت مصداقية أكثر المؤسسات الإعلامية الغربية عراقةً بشكل فادح، وكان يمكن تكذيبها بدون أي جهود تذكر، إلا أن أياً من تلك المعايير لم تكن مهمة، فالهدف هو جعل المحتجين يستمرون في الاحتجاجات والغاية تبرر الوسيلة.

أولًا: السرديات المعلوماتية

بعيدًا عن أساليب الإقناع في المجالات الحياتية الفعالة، ثمة نوع من الإقناع يُدعى الإقناع المكروه، والمتمثل بعمليات الحرب النفسية وغسيل الدماغ من خلال إنشاء المعاني وتشكيل الصور الذهنية وصناعة واقع جديد من خلال الأفكار، يمكن ملاحظة مجالاته في الدعاية السوداء على إيران من خلال الاستثمار في العاطفة لما تحويه من قدرة على التحفيز أو الجذب أو التشويق وشد الانتباه وإثارة مشاعر التأييد أو الكراهية، وبالتالي حصول ردة فعل تتمثل بتبني الرسالة الإعلامية يمكن أن يؤدي إلى ردة فعل سلوكية عملية، ويتم ذلك من خلال عدة أشكال:

شيطنة الثورة والرموز والنظام وأجهزته

“المكارثية” هو ما أطلق على نهج جوزيف مكارثي، وهو عضو في الكونغرس الامريكي خلال عهدي ترومان وآيزنهاور، في تخويف الناس من الشيوعية، اعتمدت اسلوب التشهير وإلصاق التهم غير المنطقية. مات مكارثي، ولكن بقيت المكارثية منتشرة وتعمل على تمزيق دول وتمكين الفاسدين، من خلال المؤسسات الإعلامية.

كان لا بدّ أولًا من شيطنة الثورة الإسلامية في إيران من الأصل، واستهداف رموزها من علماء الدين، وكلمتهم المفتاحية هي “نظام الملالي”. فبدأ إطلاق سرديات “أن النظام الإيراني جاء من رحم ثورة، إذًا هو يعرف جيدًا كيف يقمع الثورات، لهذا السبب عدد الثورات ضد النظام محدودة وقليلة وغير فعالة، ثم يناقض نفسه بالقول بأن الإمام الخميني قد اختطف الثورة من الأساس”. الواقع أن حركة التعبير عن الرأي موجودة منذ بداية الثورة، وعدم وجود تظاهرات بشكل كبير لا يعني أن النظام يقمع الثورات، بل يعني أن النظام قادر على تحقيق الاستقرار، وان لديه قاعدة شعبية واسعة، كما ان الحراك السياسي الموجود والتنوع لا سيما بين الإصلاحيين والمحافظين هو دليل على أن النظام ليس أوتوقراطيا. ويتم فيه التداول السلمي للسلطة عبر أساليب الديموقراطية الحديثة وهي الانتخابات. والاحتجاجات هي احدى وسائل التعبير المتاحة في إيران وليست قليلة وقد حصلت في أعوام 1999 و2003 و2009 و2017 و2019 و2021 و2022. والاستفتاء على الدستور بعد انتصار الثورة لصالح النظام الإسلامي هو دليل على أن الامام الخميني الراحل لم يختطف الثورة بل هو مفجرها وان الناس اختارت هذه القيادة وصوتت لها.
والجدير ذكره أن الخطاب العلماني لم يتمكن خلال فترة الثورة من إحداث تأثير كالذي أحدثه التيار الديني الذي حافظ على الثورة الإسلامية. والمشهد الملموس الذي يحتفظ به أرشيف الإعلام العالمي هو تشييع الإمام الخميني الذي كتبت عنه الصحافة الغربية حينها بأنها أكبر جنازة في التاريخ.

النظام الإيراني والشعب

وفي السرديات “المكارثية” أيضًا، يتم اتهام “النظام الإيراني أنه لطالما كان في مواجهة مفتوحة مع شعبه الذي عانى طويلًا نتيجة سياسات حكومة طهران، وأن النظام الإيراني يعدم الناس في الشوارع وعلى مقصلة كما في القرون الوسطى! وأن مجلس النواب الإيراني صدّق على أن أي أحد يتم القبض عليه في الاحتجاجات يتم إعدامه، وتحدثوا عن 326 شخصًا على الأقل لقوا مصرعهم من بينهم أطفال ونساء”. والواقع أن الشعب الإيراني في غالبيته داعم للنظام ويظهر ذلك في الانتخابات والتظاهرات التي يدعو لها النظام. أما عن عقوبة الإعدام، فهي عقوبة تنصّ عليها قوانين الكثير من الدول، بأن القاتل يعدم، والولايات المتحدة لم تتخلَّ حتى اليوم عن عقوبة الإعدام. يعرف المتظاهرون في إيران جيدًا أنه ليس ثمة قرار في مجلس النواب بإعدام المتظاهرين. والقانون في إيران ينص بأن من هم دون 18 عامًا من المحتجين يتم إطلاق سراحهم ويخرجون خلال اقل من 48 ساعة، وفقط القاتل والذي يشرع بالقتل هو من يذهب إلى الإعدام والدليل هو إطلاق نحو90 بالمية من المحتجين غير المتورطين بجرائم. أما الأطفال الذين سقطوا فكانوا ضمن تفجيرات الإرهابيين في مقام شاه جراغ في شيراز، والاعتداء على المارة في الشارع من قبل مسلحين إرهابيين في أصفهان وغيرها.

إلى ذلك، لا يوجد محاكم تفتيش في إيران كتلك التي في أوروبا لمن يشكك بالهولوكوست او يعادي السامية. وبالطبع سيتجاهل هؤلاء تصريحات مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون والرئيس الأمريكي حو بايدن التي تملأ الفضاء العام حول التدخل الخارجي لما يسمونه “تحرير طهران”.

شيطنة الرموز

أما عن شيطنة الأشخاص، فتتم “شيطنة الآخر” من خلال قوالب جاهزة تتهم الآخر بالشر أو الخيانة او الفساد وتستعمل فيها طرق التشويه والسخرية والتقزيم ووصف الآخر بأنه “لا حدث” أي الإيحاء أنه بدون تأثير، في محاولة اغتياله إعلاميًا. وفي محاولة للتقليل من القيمة المعنوية والمعرفية للإمام السيد علي خامنئي، “يحصر هؤلاء دوره بالفتاوى الشرعية، وبأنه لا يعرف أن يمارس دورًا آخر”، والواقع أن دور الولي الفقيه ليس فقط دينياً وفقهياً، فهو عدا عن كونه فقيهاً فإنه يتمتع بالبصيرة السياسية والاجتماعية والعسكرية و..، وما صمود إيران ونجاحاتها في وجه العقوبات الاقتصادية والاختراق الثقافي طيلة 44 عامًا إلا دليل على أن علماء الدين والامام الخامنئي استطاعوا أن يقودوها بنجاح.

الكذب للتحريض على العنف واستمرار الاحتجاجات

إنها مقولة غوبلز النازي الشهيرة: “اكذب اكذب اكذب حتى يصدقك الناس”، بهدف تغيير الحقيقة التي لا يُراد للناس أن تعرفها لاستمرار العنف والاحتجاجات. تقول السردية المعادية “إن شرطة الإرشاد مهمتها القبض على السيدات اللواتي لا يرتدين الشادور أو يرتدينه بشكل غير مناسب. وبأنها تلزم البنات بلبس الشادور من سنّ السابعة”. والواقع أنّ 30% فقط من النساء الايرانيات يرتدين الحجاب الشرعي أو الشادور، و70% منهن يرتدين الحجاب العرفي من ضمنهم من ترتدي الحجاب الذي يتم تصنيفه على أنه “سيء جدًا”، ولا يوجد إلزام بارتداء الشادور في المدارس، إنما تختار البنات شكل الحجاب الذي تريد. وأن إلزامية “الحجاب الشرعي” هي فتوى دينية وليست قانونية، تطبقها الملتزمات دينيًا. ونشاط شرطة الإرشاد مع غير المحجبات ومن يرتدين الحجاب السيء جدًا، يقتصر على توجيه الملاحظات. وإذا تكرر الأمر وأخل بالحياء والعرف العام، يتم القاء محاضرة إرشادية أو أخلاقية لهن في مركز الشرطة ولا يتم توقيفهن. ويُذكر أنّ شرطة الإرشاد الإيرانية كما شرطة الآداب موجودة في اغلب الدول العربية والإسلامية ومهمتها تأمين الاستقرار الاجتماعي وعدم الاخلال بالآداب وخدش الحياء العام.

الاحتجاجات تتراجع!

وفي ظلّ الانخفاض الكبير في وتيرة الاحتجاجات في إيران، تدّعي المنصات الإعلامية بأن “الاحتجاجات تزداد توهجاً على الرغم من القمع المستمر وآلة النار التي تستخدمها السلطات الإيرانية، مدّعيًا بأنه على الرغم من النظام كل مرة كان ينجح في قمع الشارع وقبل 3 سنوات قتل 2000 شخص خلال 10 أيام، إلا أن ثمة جيل جديد هذه المرة، اكبرهم 23 عاما وأقلهم 14 عامًا، وتحدثوا عن إضراب أصحاب الشاحنات بأنه تسبب في شلّ البلاد واضراب في صناعة النفط سيكون شاملًا تدريجيًا، وأن الشيعة الموالين للنظام يثورون عليه”. إلا أن الحقيقة جاءت على لسان معهد دراسات الحرب الأمريكي الذي قال إن هناك تراجعًا لافتاً من حيث حجم المتظاهرين، الذين هم بالعشرات، ويبررون عدم التجاوب أحياناً بالطقس البارد والماطر. وبالمقارنة، كان الإيرانيون ينزلون وسط الثلوج بسبب كاسيت قادم من الإمام الخميني وهو في المنفى في باريس، في حين لم يتمكن 2600 جهاز إعلامي وجيوش الكترونية وخوارزميات من المساعدة في إنزال الشعب الإيراني إلى الاحتجاجات. وفي إطار الحديث عن الجيل الجديد، فإن ظاهرة القصّر في الاحتجاجات، سببها استغلال المراهقين، وهو أمر مقصود، لأنه بحسب القانون الإيراني يتم الإفراج على من هم دون الثامنة عشر.

ثانيًا: التحليل المضلل

في نقطة هي الأكثر خطورة للتأثير على المعنويات، يتم الحفر عميقًا في أساليب أكثر تأثيرًا لتبني سلوك معيّن، وهي تقنيات تذهب أبعد من إطلاق المعلومات الكاذبة واستخدامها في سياقات مضللة، حيث ينتهي دور الإعلام بمعناه الاصطلاحي كناقل للخبر أو ناقل للواقع كما هو، إلى إعلام يتم تأطيره وتوضع له أجندات ويمارس فيه التعتيم والتضليل أو الإغراق على مبدأ غوبلز أي التكرار والكذب حتى يصدق الناس، برز دور التضليل من خلال التحليل كأداة أساسية في الاستراتيجيات الإقناعية، وباتت أستوديوهات التحليل أوسع فضاءً من أستوديوهات الأخبار، حتى دخل المحللون في نشرات الأخبار نفسها لتوجيه الناس بحسب اتجاهات الوسائل الإعلامية. وأصبح عدد المحللين حول العالم أكبر من عدد المراسلين، بل أصبح ثمة حاجة إلى أن يصبح المراسلون محللين بدورهم لتكتمل وجهة النظر المطلوبة وليس الصورة. ومن خلال التحليلات تنطلق الرسائل الموجهة على المدى الطويل. وإذا كانت منصات مواقع التواصل الاجتماعي مُعدّة للمقاطع القصيرة التي لا تحتمل التحليل، إلا أن هذه المسألة لم تفت، حيث تنتشر ظاهرة اليوتيوبرز المحللين على منصة يوتيوب، التي تفتح المجال للفيديوهات الطويلة.

التحريض لهدم المعنويات

كما رأينا في السياق المعرفي، تم بثّ الكثير من الأكاذيب – بالطبع لم نذكر معظمها- حول إسلامية الثورة وقدسية رجال الدين. الخطوة التالية هي إعطاء طابع علمي تحليلي لزرع فكرة أكثر خطورة، وهي الحديث عن “وجود فجوة كبيرة بين النظام الإيراني وبين جيل الشباب، وأن فكرة قدسية رجال الدين التي كان يوظفها النظام لاستقطاب فئات معينة من الشعب بدأت تتآكل وتسقط، وأن النظام الإيراني غير قابل بنيويًا لتقديم تنازلات أمام هذا الجيل واحتوائه، وليس لديه الأدوات لتضييق هذه الفجوة التي تزداد اتساعًا”.

لكن الواقع، أن النظام الإيراني أثبت أن لديه القدرة على إنتاج عناصر وكوادر تعبوية، وهم طلاب جامعيون وطلبة علوم دينية، والحديث عن فجوة الأجيال هو مغاير للحقائق. ففي إيران شباب تعبئة متطوعين ولا يُدفع لهم الأموال، مهمتهم العمل على حماية الثورة من خلال تطوير إيران في المجالات العلمية والمضي بها قدمًا، وهي الفئة التي سبقت التعبئة للجهاد المقدّس، قبل الحرب مع العراق، إذ ثمة فئة من التعبئة في إيران هي لجيش العشرين مليون الذي تحدث عنه الإمام الخميني وكان لها حضورًا فعالا في الدفاع المقدس. وكما يقول السيد علي خامنئي، “شباب التسعينات والعقد الأول من الألفية لم يروا الإمام الخميني ولا مرحلة الثورة ولا الدفاع المقدس لكنهم يملكون الروحية نفسها لحماية الجمهورية الإسلامية”.

الكثير من الشباب التعبويين تعرّضوا للضرب والإهانات على يد مثيري الشغب وهم من جيل الشباب، ويوجد الآن في إيران الملايين من التعبويين الرسميين وغير الرسميين. لقد استطاع الامام الخميني من خلال فكرة التعبئة أن يجعل الشعب الإيراني حتى ممن سيأتون في المستقبل، حراسًا للثورة من صلبها!، ومشهد تفاعل ملايين الشباب والأطفال في إيران مع نشيد “سلام فرمانده”، مؤشر آخر على قدرة النظام الإسلامي على استقطاب الجيل الجديد.

وفي إطار التحريض أيضًا، ثمة محاولات أصبحت نمطية ومعروفة، بمحاولة الشق بين الحرس والجيش، مستخدمين تصريحات مير حسين موسوي المعارض الذي خسر الانتخابات عام 2008 إذ توجّه إلى الجيش “ليكون إلى جانب الشعب”. مدّعين أن ثمة اعتقالات حصلت لبعض العناصر من القيادات في الجيش لأنهم كانوا إلى جانب المتظاهرين او ان انشقاقات حصلت!. والحقيقة أن الجيش لم يتدخل في التظاهرات وأن هذا التكتيك لطالما استخدمته الولايات المتحدة مع خصومها، وهو ما تفعله الآن في لبنان، وهو محاولة الشق بين الجيش والمقاومة.

أما فيما يتعلّق بالاعتداء على الشرطة وقوى الأمن الإيرانية، فيحتفل الإعلام المعادي بمعلومة أن أي ضابط في الشارع يُعرَف أنه ضابط، يتمّ الاعتداء عليه. وأنه في يومي الخميس والجمعة لا يوجد نظام في إيران. بعيدًا عن بطلان ادّعاء عدم وجود نظام في إيران في آخر الأسبوع، فإن الاعتداء على الشرطة إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على همجية المتظاهرين وعدم سلميّتهم، ويؤكّد حقّ النظام في اعتقال مثيري الشغب، الذين أصبح في سجلّهم عمليات قتل وشروع في القتل لعناصر من القوى الأمنية الإيرانية. ولو كان صحيحًا خبر انشقاقات جنود من الجيش، لضجّت الوسائل الإعلامية بالمواقف والتصاريح الخاصة بالانشقاق، إلا أنه لم يسجّل أي فيديو أو دليل على أنه ثمة فارين من الجيش الإيراني.

التشكيك لتجريد النظام من نقاط قوته

في إطار التشكيك بإسلامية الثورة، تسوق السردية المعادية “تصريحات الشيخ مولوي عبد الحميد، صاحب الزعامة السنية التاريخية، والذي تغيّرت مواقفه فجأة ضدّ النظام الإيراني، وذلك بهدف إثبات أن النظام فقد شرعيته الإسلامية، وفقد سلاحه وهو إسلامية الثورة، وأن النظام عندما يحارب المتظاهرين يتهمهم بأنهم يحاربون الإسلام”. الواقع أن هذه مغالطة واضحة، فمقدّمتها لا تدلّ أبدًا على النتيجة، ذلك أن الشيخ عبد الحميد هو زعيم لفئة من المسلمين في إيران وليس جميعهم، وأما ما يمكن الاستدلال عليه من هذه النتيجة، وهي أن سلاح النظام هو إسلامية الثورة، فهذا اعتراف بأن الإسلام والحجاب لهما مقبولية واسعة لدى المجتمع الإيراني، كما أنه دليل على أن هذه الاحتجاجات تمثّل أقلية. إلى ذلك، فإن الشيخ عبد الحميد بعد مواقفه الأخيرة، لم يعد موضع إجماع لدى أهل السنة في إيران، خاصة بعدما أعلن مجاهدو البلوش اعتراضهم، ودعته بعض الأطراف السنية للعودة عن الانجرار إلى فخّ الشهرة الغربية على حساب الإسلام، ودعم المشروع الغربي في المنطقة.

تدّعي السردية المعادية أيضًا، “أن مواجهة النظام الإيراني للانفصاليين، هو حركة من النظام لتحويل المشكلة عن القضية الأساسية، وادّعت أن تفجير شيراز كان مدبرًا من قبل قوات الحرس، وليس عبر أشخاص تمّ تمريرهم من مناطق الانفصاليين”. والواقع أن الانفصاليين هم بالفعل قضية أساسية تشغل بال الدول المجاورة أيضًا، خاصة بعدما باتوا يهرّبون السلاح والانتحاريين عبر حدودهم ويسهّلون الأعمال الإرهابية ويقودونها. أما الادّعاء بعملية العلم الزائف في شيراز، فجميع الأنظمة الاستخبارية حول العالم، تعرف أنها من اختصاص العقل الأمريكي التخريبي وليست ديدن الإيرانيين. وثمة اعترافات بالصوت والصورة لعناصر من حزب كوملة وPKK الكرديين الانفصاليين الذين تم اعتقالهم، بأنهم كانوا بصدد مهاجمة منصة مهمة في أصفهان، وأنه تم تدريبهم بشكل مباشر من قبل الموساد الذي اختار بنفسه الأشخاص لتنفيذ هذه العملية، كما طلبت أمريكا من إقليم كردستان تسهيل حركة المحتجين و”الثوار” في إيران ونقل معدات وأسلحة وأجهزة اتصال، وتم استبعاد نقل معدات الإنترنت Star link لإيران من العقوبات الأمريكية.

التهويل والتضخيم لإثبات أن النظام في خطر السقوط

تصريح الرئيس الإيراني السابق السيد محمد خاتمي تمّ توظيفه أيضًا، عندما قال إنّ قلب النظام في إيران غير ممكن وغير مطلوب. تحلل السردية المعادية هذا التصريح على “أن النظام الإيراني يشعر بالخطر، فعندما تجد مسؤولًا كبيرًا يتحدّث عن انقلاب وأن السلطة تقوم عليها المظاهرات فهذا يعني أن ثمة خطرًا معتدًّا به”. أما التحليل المنطقي لتصريحات السيد خاتمي، فهي أنها دليل على أن الحراك السياسي في إيران موجود ومستمرّ، والتصريحات من قبل السياسيين المعارضين في الداخل لا يعني أن ثمة من يعادي الدولة العميقة. إلى ذلك فإن النظام الإيراني لديه قاعدة شعبية مؤلفة من ملايين لا يمكن أن يشعر معها بالخطر، وقد برزت هذه الملايين في تشييع قائد قوة القدس الشهيد قاسم سليماني. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر اليوم الوطني لمقارعة الاستكبار العالمي حيث تظاهر أكثر من 10 مليون إيراني داعم للنظام الإسلامي.

أما السردية التي تمّ تأسيس سيناريوهات حتمية سقوط النظام عليها، فهي أن رمزية الحجاب بالنسبة للنظام الإيراني هي “رمزية سياسية بحتة حيث الحجاب هو رمز الثورة وبسقوطه يسقط النظام، وأن تجميد شرطة الإرشاد هو بداية السقوط، وباعتبار إيران وصية على المصالح الشيعية في العالم، وراعية لهم، فإن قرار تعديل دستور الجمهورية الإسلامية وإلغاء شرطة الارشاد سيؤثر على الحركات الشيعية الحليفة لإيران (حزب الله – أنصار الله – الحشد الشعبي – فاطميون). وأن هؤلاء لن ينظروا إلى النظام بنفس النظرة”. في حين أن قانون الحجاب في إيران موجود ولم يتغيّر، وليس ثمة تعديل في الدستور، ذلك أن شرطة الإرشاد ليس لها قانون، وأن الفتوى الشرعية قائمة ولم تسقط، ناهيك عن أنه لم يتم البتّ نهائيًا بمصير شرطة الإرشاد، بل تم تعليقها لحين أخذ القرار. أما الحديث عن أن الحجاب هو رمز النظام وإذا سقط يسقط النظام، فإنها مقاربة غير واقعية لدولة عميقة، كما أن الإسلام لا يرتكز على رمزية واحدة وتحديدًا النظام الإسلامي لديه رموز عدة. أما مسألة تأثر الحركات الشيعية فإنها المقاربة الأكثر تهويلًا ومبالغة، ذلك أن هذه الحركات لها ظروفها المحلية الخاصة التي تختلف عن المجتمع الإيراني والاختلاف واضح، كما أنها تعتمد الفقه الشرعي في سلوكياتها وليس نظام الجمهورية الإسلامية.

وفي سردية متناقضة صادرة عن جهاز إعلامي لدولة مختلفة، ترى “أن إلغاء الشرطة هي خطوة مرحلية لتجاوز المرحلة الحرجة وخطوة استباقية، وليست في إطار مرونة النظام او استعداده لتغيير نهجه، ولكنها تأتي في إطار المناورة مع الشعب”. والواقع أن هذه السردية تقع في إطار التحريض على استمرار الاحتجاجات وعدم وقفها، والحق أن هذه الخطوة تأتي في إطار الاحتواء والمرونة للنظام، والدليل على ذلك الجلسات التي يقوم بها النظام مع المعارضة من التيار الإصلاحي وغيرهم.

توظيف القضايا الإقليمية

بالإضافة إلى الحركة العملية على الأرض من خلال تحريك الانقسامات والحركات الانفصالية كما شهدنا في محافظتي سيستان وبلوشستان وكردستان، يوظّف الإعلام المعادي مسألة عدم التوصل إلى اتفاق نووي والتي يعتبر التوصّل لها سببًا أساسيًا في تفاقم الضائقة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب الإيراني. فيتم رفع صوت الإعلامي بالقول إنه “لو وقّعت إيران على الاتفاق النووي، لم يكن هناك احتجاجات داخلية، وأن الغرب تنازل عن فكرته بالتفاوض مع إيران، وللمزيد من التجييش، يستشرفون أن وكالة الطاقة الذرية ستحوّل قضية إيران النووية إلى مجلس الأمن وهو بدوره سيجيز استخدام القوة ضد النظام الإيراني، ما يعني الحرب. وتضيف الماكينة الإعلامية، بأن الغرب عرض على النظام الإيراني بأنه لو قام بتقليل تخصيب اليورانيوم فإنه سيتمّ الإفراج عن بعض الأموال الإيرانية في كوريا الجنوبية، إلا أن النظام رفض ولم يتنازل عن شروطه ليريح شعبه!” ثمة مغالطة واضحة وكبيرة في هذه السرديات، وهي المصادرة على المطلوب، فالغرب هو من تنازل عن فكرته بالتفاوض مع إيران، بل إيران هي الطرف الذي لم يقبل تقديم التنازلات للغرب للحفاظ على مصالح الشعب الإيراني.

وفي حين تروّج الدعاية الإعلامية على أن “زيادة تخصيب اليورانيوم في الوقت الذي تشهد فيه البلاد احتجاجات وتظاهرات، فإن هذا دليل على إجرام إيران”، فالواقع أن تخصيب اليورانيوم في هذه الفترة هو دليل على عزم البلاد لمواجهة العدوّ الخارجي، والمضيّ بالأهداف التنموية وهو دليل على أن النظام لا يشعر بالخطر، وأنه رغم الاحتجاجات يدير عجلة البلاد والمواجهة مع العدو الخارجي.

ثمة ملف آخر هو ملف التقارب الإيراني السعودي، والذي بدأ خلال الفترة الماضية، تضلل الدعاية السعودية الناس بالقول “بأن إيران تقول شيء وما تخطط له شيء آخر”، والواقع أن هذه المقولة تنطبق على السعودية وليس إيران. فالرياض تتحاور مع طهران وتقول إن إيران دولة جارة، لكنها تتدخل في الشأن الداخلي الإيراني ماليًا وتسليحيًا وإعلاميًا بالإضافة إلى دور تخريبي على مستوى المنطقة.

لم توفّر الدعاية الإعلامية زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية لإحباط النظام الإيراني إعلاميًا. من ضمن ما احتفلت به أستوديوهات التحليل من مكتسبات هذه الزيارة، هو سردية “أن الصين يمكن أن تنجح في تحجيم إيران بعدما فشل الأمريكيون. فالصين التي تستورد النفط الإيراني المهرّب، والتي قامت باتفاقية استراتيجية لمدة 25 سنة مع إيران، تملك نفوذًا عليها”. يجري توظيف هذه الزيارة لترسيخ فكرة “إيران المنهارة” في الوعي الشعبوي، وهو توظيف مناقض للتجربة العالمية لسياسة الصين الخارجية، التي تتميز عن الولايات المتحدة بأنها غير مشروطة وتقوم على المصلحة ولا شيء غير المصلحة الاقتصادية. فبكين عكس واشنطن لا تفرض على الدول شروطًا سياسية أو اجتماعية لتحصيل الاتفاقيات والدخول في استثمارات، ولولا هذه السياسة لما تمكنت السعودية أصلًا من توقيع الاتفاقيات مع الرئيس الصيني. ولطالما عبرت الصين بسلوكها بأنها ليست ضامن أمني لأي منطقة في العالم.

ولتبديد هذا الوهم زار وفد صيني رفيع طهران وأكد للمسؤولين الإيرانيين التزام بكين ببنود الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بين البلدين، والتي وصفت باتفاقية القرن وهي تقدر ب 400 مليار دولار لمدة 25 عاماً، وهكذا سقطت سردية الإعلام السعودي وتبددت اوهامهم.

استخدام الاستفزاز الديني لخلق موجات إعلامية

الاستفزاز السياسي والديني، إحدى أقوى طرق التلاعب بعقول الجماهير. حيث يسمح بتوجيه الحدث حسب السيناريو الذي يرغب فيه المتلاعب بالوعي، وتلقى المسؤولية أثناء ذلك بأكملها على الآخرين. وهو الأمر الذي حصل في إيران من خلال استفزاز الوعي في المسائل المقدسة في المجتمع الإسلامي، كالاعتداء على المساجد، والعمائم وإهانة المقدسات، وعادة ما تحدث هذه الاعتداءات صدمة شاملة على الجمهور فتخلق موجة إعلامية ليبدو المشهد كأنه كبير ومتكرر، بحيث يتم عرضها وتكرارها والتعليق على الخبر الأولي على أعداد كبيرة من المنصات بكافة تنوعها، ومن ثمّ تخلق الموجة الأولى ما يسمى “الموجة الإعلامية الثانية” على مستوى التواصل بين الأشخاص، من أجل الشروع في نقاشات وإعطاء تقييمات وظهور شائعات تنتهي جميعها إلى زيادة قوة التأثير النفسي الإعلامي أضعاف المرات على الجمهور المستهدف.

أعطى المتظاهرون حيّزاً واسعاً من نشاطاتهم الإرهابية للإعتداء على دور العبادة وإهانة المقدسات. فبعد مضايقات رجال الدين، والاعتداء على العمائم التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي في حملات استنكارية، عمد هؤلاء إلى حرق عدد من المساجد والحوزات الدينية. كانت هذه الأحداث بمثابة صاعق مفجّر لموجة إعلامية، بمساعدة نظام مصمّم يُستخدم على نطاق واسع في نشاطات أجهزة الاستخبارات. والصحفيون في هذه الحالة يكونون إما مخبرين ممتازين، أو مفبركين لصالح الأجندة نفسها. والمطلوب من هذه الموجات أولًا وقبل كلّ شي توهين وإضعاف رمزيات الإسلام، وفي الموجة الإعلامية الثانية سيتم تسخين الاستياء إلى “درجة الغليان” لتتحول إلى سخط يؤدي إلى الاصطدام بين المدافعين عن المقدسات وبين من يقومون بهذه الأعمال من المخربين.

خلق المخاطر لبثّ الشعور بالخوف

هذه الطريقة هي ذات طابع استراتيجي للتأثير على عواطف الجمهور الشعبي مهمتها الرئيسية إجبارنا على الشعور بالخوف، وبعدها تحصل ردة فعل أيضًا بسبب الخوف. والمعروف أن الجمهور إذا كان يعيش في حالة خوف ورعب، تنعدم عنده إمكانية التفكير العقلانية، وبالتالي فإنه يصبح قابلًا لتصديق كل ما يقدّمه له القائمون على وسائل الإعلام من عمليات تضليل. تستخدم الاستخبارات الغربية العمليات الأمنية في الدول لتحقيق هذا الواقع، وقد بدأت بها بعد فترة قصيرة من بداية الاحتجاجات، عندما هاجم إرهابي مسلّح الزوار في مزار مرقد السيد أحمد بن موسى الكاظم، المعروف باسم “شاه شراغ” في مدينة شيراز، ما أسفر عن استشهاد 15 شخصاً، بينهم نساء وأطفال، وإصابة 30 آخرين. وفي أصفهان تمّ إحباط تفجير لإحدى المنشآت الصناعية الجوية، إذ تمّ اعتقال 100 عنصر منتسب إلى حركة ” مجاهدي خلق” المعارضة و150 من عناصر الجماعات الإرهابية. كما كان قد تم القبض على عنصرين انتحاريين، قبل القيام بعمل ارهابي في “مدينة القدس” (غرب طهران). وبذلك استطاعت القوى الأمنية الإيرانية إحباط المخطط والحفاظ على الاستقرار الأمني في البلاد، على الرغم من التفجيرات التي تحصل على حدودها في مناطق الإنفصاليين والأقليات، حيث يتم تخزين طاقة سلبية لدى أهالي تلك المناطق ومن ثمّ إطلاقا شعارات القومية وتصبح الدولة هي عدوّ القومية. الواقع أن كل الأنظمة السياسية التي لا تروق للولايات المتحدة سيتمّ تحريك الانفصاليين في مناطقها.

طموحات وأماني: سيناريوهات استمرار الاحتجاجات

الطموحات والأماني هي أبرز ما يتمّ كشفه من خلال الدعاية الإعلامية التي تشنها الأطراف على بعضها، ثمة سيناريوهان اثنان يتم تداولهما على أكثر من منصة. السيناريو الأول، “يتحدث عن أنّ سقوط إيران بنظامها الحالي قد يترتب عليه سقوط دول على نفس المنوال، وصعود قوى ثانية منافسة أشد خطرا من إيران. ويمكن ان تمتد الحرب الأهلية في إيران لباكستان وأفغانستان والعراق ويحصل تغيير كامل للخريطة الجيوسياسية في المنطقة. وتبدأ حقبة جديدة من الاضطرابات يمكن ان تمتد الى البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية”.

أما السيناريو الثاني فيشرح كيف “سيشجّع سقوط النظام الأقليات القومية على الانفصال، في حين سيتوقف دعم “الأذرع الإيرانية” كما يسمونها في المنطقة، وسينتهي تصدير الثورة وستنحصر سيطرة الحوثيين على باب المندب”.

لا تبدو هذه السيناريوهات أكثر من مشاريع وأحلام للغرب في المنطقة وإيران، والخطة التي أرادوها لها منذ سنوات، وهي اعتراف بأن النظام الإسلامي في إيران هو عمود خيمة المنطقة. تظاهرات المناصرين للنظام الإيراني في 4 تشرين الثاني /نوفمبر (10 مليون متظاهر) أكدت أن النظام لا يزال يتمتّع بدعم قاعدة شعبية واسعة. وبحسب التحليلات السياسية الصادرة عن مراكز الدراسات وليس المنصات الإعلامية، فإن الحراك الشعبي الحالي ومهما طال أمدًا لا يشكل تهديدًا وجوديًا لنظام الجمهورية الإسلامية، ومن المستبعد أن يؤدي هذا الحراك إلى انحدار البلاد إلى حرب أهلية. فهي مجرد أوهام. وما يحدث هو احتجاجات محدودة في المكان والعدد، وقد تقلصت بنسبة كبيرة. والأهم هو أن النظام الإيراني تمكّن من احتواء الأعمال الإرهابية والعنفية وكل هذه السيناريوهات أخفقت.

إذًا ما هي حقيقة الاحتجاجات في إيران؟

الحقيقة تُختصر على الشكل التالي: إن هذه الاحتجاجات لم تجد دعمًا من الشرائح الاجتماعية ذات الثقل السياسي والاقتصادي. وقوات التعبئة البسيج هي بالملايين، هؤلاء وعائلاتهم يقومون بدور بالغ الحيوية في الحفاظ على النظام الإسلامي.

التحليل الدقيق هو أن السيطرة على النظام الاسلامي ليست سيطرة من الأعلى كما كان قائمًا في عهد الشاه، بل هي متمركزة في مفاصل وأعراق المجتمع الإيراني وشرائحه الواسعة.

الكاتب: زينب عقيل

شاهد أيضاً

ميزانية تشبع اليمين فقط: نتنياهو يهمل الواقع الاقتصادي للكيان

“6 أشهر من الفشل”، هكذا وصفت صحيفة “هآرتس” العبرية أداء حكومة اليمين المتطرّف برئاسة بنيامين …

الاشترك بخدمة الخبر العاجل