أواخر شهر نيسان/ أبريل عام 2015، وبخطوة غير مسبوقة، نقل الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز السلطة إلى الجيل الثالث من أبناء المؤسس بن عبد العزيز، بعد تعيينه محمد بن نايف وليّاً للعهد، ومحمد بن سلمان وليّاً لولي العهد. كانت هذه الخطوة لتبدو اعتيادية، في مملكة كلُّ مَن فيها يصارع لأجل الوصول إلى كرسي العرش، لو ان ما جرى بعدها حافظ على الإيقاع التقليدي للحكم. اذ ان ما وُصف بـ “بداية الدولة السعودية الرابعة”، سجّل تحوّلاً في السياسة الخارجية للبلاد تجاه الولايات المتحدة تحديداً. فالنهج الذي اتّبعه الملك سلمان -كما أسلافه- والقائم على “رد الفعل”، لا يلبّي طموحات بن سلمان -الذي عيّن وليّاً للعهد عام 2017- وبات اعتماد “المبادرة”، أمراً ضرورياً. إلا ان القنبلة الأولى التي انفجرت في وجه الأخير، الذي دعم “بإخلاص” الرئيس الأسبق دونالد ترامب، كانت وصول الرئيس الأميركي، جو بايدن إلى البيت الأبيض. وهو الأمر الذي أنذر ببدء مرحلة هي الأكثر إثارة.
على الرغم من الكباش الإعلامي الذي بدأ منذ أن تعهّد بايدن بـ “نبذ بن سلمان”، إلا أن النزال بدأ يُترجم فعلياً منذ 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، (قبل أيام قليلة من تعيين بن سلمان رئيساً للوزراء) عندما وصل منسّق الشرق الأوسط في الإدارة الأميركية، بريت ماكغورك، برفقة كبير مستشاري الطاقة في جدة، عاموس هوشستين، موفدين من بايدن لإقناع بن سلمان بزيادة انتاج النفط. وكان رفض الأخير نابعاً من ثقته في توظيف أوراقه وتسليحها ثم اشهارها تزامناً مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وتحديات الانتخابات النصفية للكونغرس، وتأتي من كونه أكبر منتج للنفط في أوبك وأوبك +، وثانيًا تعزيز تحالفاته بشكل متزايد مع كل من روسيا والصين، وثالثًا الاستفادة من دوره المحوري في إغراء الرؤساء العرب، لتطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال.
هل تجرّأ بن سلمان على معارضة الإدارة الأميركية؟
يقول الباحث السياسي، علي مراد، في حديث خاص مع موقع “الخنـادق”، أنه “لا يمكن القول أنّ بن سلمان يتمرّد على الولايات المتحدة. التوصيف الأدق هو أنّه يحاول إدخال تعديلات على طبيعة العلاقة مع واشنطن، لأنّه يرى أنّ مصالح السعودية الوجودية في خطر، والظروف الدولية التي أنتجتها الحرب في أوكرانيا تشجّعه على المطالبة بهذا التعديل”. وتعليقاً على الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها المملكة بشأن خفض انتاج النفط، وتوقيع الاتفاقيات مع الصين، يشير مراد إلى ان “التفسير المنطقي للموقف السعودي يمكن تفكيكه إذا ما عرفنا أنّ هناك تخوّفاً لدى السعودية ومنتجي أوبك بلس من تحرّك أميركي لتأسيس ما يشبه منظّمة للمستوردين في وجه المنظمة، من خلال ما أقرّته مجموعة السبع في حزيران/يونيو الفائت، من فرض قيود على بائعي النفط بأن يحدّدوا بلد منتج الخام النفطي، وطريقة إنتاجه وتحديد درجة تكثّف الكربون فيه، ومن ثم تحديد سعره وفق هذه المعايير، الأمر الذي يهدّد قدرة السعودية وباقي المنتجين على التحكّم بالمعروض النفطي عالمياً. وبما أنّ علّة وجود أو نفوذ السعودية مرتبط بإنتاج النفط والقدرة على التحكّم بالأسعار، تنظر اليوم الرياض بعين الخطر تجاه احتمال نجاح الغرب بتوجّهه لخنق روسيا عبر فرض العقوبات على نفطها، وهي تعرف أنّ تمكينها للغرب في هذا التوجّه سوف يجعلها تضع رقبتها طواعية تحت المقصلة الغربية وبالتالي ستجد نفسها مستقبلاً تقول: أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض”.
ويضيف مراد أنّ دعوة الرئيس الصيني إلى الرياض هي بمثابة “خطوة تكتيكية ضمن ظرف محدد تمرّ به العلاقات السعودية – الأميركية بفترة حرجة، وإذا ما نظرنا إلى مضمون الاتفاقات التي وقعها بن سلمان مع الرئيس الصيني سنكتشف أنّها ظلّت محصورة بالمجالات الاقتصادية والطاقوية كما كانت من قبل، ولم يكن فيها أي مضمون عسكري او استراتيجي قد يكون مؤشراً على حصول تحوّل نوعي في الاصطفاف السعودي”.
كيف ستتعامل الإدارة الأميركية مع هذا التغيّر؟
على ضوء نتائج الانتخابات النصفيّة، التي بَدّدت مخاوف بايدن إلى حد ما، يتصدّر السؤال حول الاستراتيجية التي سيتم اعتمادها للتصدي لكل هذه المتغيّرات، خاصة في أوساط الحزب الديموقراطي. ويشي رصد سلوك الإدارة الأميركية تجاه السعودية، طيلة الفترة الماضية، بأنه يجري اعتماد أسلوب “الترغيب والترهيب”، رغبة في الحفاظ على التوازن ومنعاً لاتخاذ موقف متطرف، وقد بدا ذلك واضحاً عن طريق معالجة عدد من الملفات والقضايا.
ويشير مراد في حديثه لموقع “الخنـادق”، أنّه “خلال الشهرين الماضيين كانت إدارة بايدن حريصة على محاولة تطمين السعوديين من البوابة الأمنية، فأرسل الأميركيون قائد القيادة المركزية الجنرال كوريلا إلى الرياض، وأطلقوا القاذفات الاستراتيجية B-52 فوق المنطقة، وأعلنوا ضبط قوارب كانت تحمل ذخائر بطريقها إلى اليمن في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري -على حد زعمهم-، وأرسلوا غواصة نووية إلى مياه بحر العرب وخليج عدن، إضافة لإسقاط مشروع القرار تقدّم به مشرّعون في الكونغرس لإنهاء الدعم الأميركي لتحالف السعودية في عدوانها على اليمن”، ثم منحه الحصانة ضد دعوى تورطه بقتل الصحفي جمال خاشقجي. ويضيف “كل هذه الخطوات، تعكس أن إدارة بايدن حاولت أن تقدّم مغريات لمحمد بن سلمان من أجل أن يعدّل مواقفه ويعود لينضوي ضمن التوجّه الأميركي التقليدي…اعتقد أن فترة التطمين هذه محدودة المدّة وربما ستنتهي مع انعقاد الكونغرس الجديد بداية عام 2023، فجو بايدن كان قد صرّح أنّ واشنطن لن تبحث تطبيق وعيدها ضد السعودية قبل انعقاد الكونغرس”.
فيما اعتبرت منظمة Middle East Monitor في تقرير لها في 23 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، انه “حان الوقت لبايدن أن يدرك أن مضاعفة استراتيجيته المتهورة لاسترضاء محمد بن سلمان، على الرغم من فشلها الصارخ، لا تضعف الولايات المتحدة فقط من خلال التشكيك في التزامها بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها تشكل أيضًا تهديدًا خطيرًا لقوميتها”.
ماذا بعد وصول الجمهوريين إلى البيت الأبيض؟
ثمّة مَن يقول بأن مشكلة بن سلمان حالياً ليست مع الولايات المتحدة بل مع الجناح الديموقراطي فيها، وبالتالي قد تشهد العلاقات بين الجانبين انتعاشاً مع وصول الجمهوريين إلى البيت الأبيض. ويقول مراد بهذا الصدد، “صحيح ان محمد بن سلمان يرغب بعودة الجمهوريين، وبالتحديد دونالد ترامب، لكن هناك مشكلة بالنسبة لولي العهد مع الأميركيين لا حلّ لها على ما يبدو. فبالنسبة للقيادة السعودية، اهتزّت صورة واشنطن كحامٍ موثوق به بمعزل عمّن يحكم في البيت الأبيض”.
مضيفاً “من وجهة نظر سعودية، فإن ترامب لم يفعل ما يلزم، عندما تعرّضت منشأة بقيق النفطية الاستراتيجية للقصف في أيلول/ سبتمبر 2019، ولم يردع إيران لحماية ناقلات النفط في مياه الخليج في ربيع 2019. في حين أنجز الديمقراطيون الانسحاب الأميركي الدراماتيكي من أفغانستان في آب/ اغسطس 2021، بعد سحبهم منظومات الدفاع الجوي الأميركية من السعودية في ربيع 2021، وتقليصهم الدعم العسكري في الحرب على اليمن خلال شباط/ فبراير عام 2021”.
هل تكون الصين او روسيا بديلاً عن الولايات المتحدة؟
بما أنّ الهاجس الأمني يحكم سلوك السعودية، وبالنظر إلى غياب الضمانات الأمنية التي يبحث عنها ابن سلمان، ستبقى لديه مشكلة مع الأميركيين، وهو عالق أمام حقيقة عدم توفّر بديل عن الحامي الأميركي، يقول مراد. ويضيف بأنّ لا الصين ولا روسيا يمكن ان تكونا بمفردهما أو مع بعضهما البعض بديلاً عن أميركا في مسألة الحماية، فبكين وموسكو تملكان علاقات ممتازة مع إيران، التي ينظر إليها محمد بن سلمان على أنّ سياستها الاقليمية القائمة على دعم حركات المقاومة والتحرّر هي تهديد وجودي لحكمه وحكم باقي السلالات الرجعية في الخليج.
الاقصاء او الترويض؟
لم يتأخر محمد بن سلمان كثيراً في ترتيب أوراقه وتجميع خيوط إدارة المملكة بقبضته مقابل إقصاء منافسيه وتقليص سلطتهم. فحين تولّى والده سلمان الحكم أصدر أمراً ملكياً يقضي بتعيينه وزارة الدفاع ورئيساً للديوان الملكي ومستشاراً خاصا للملك، على الرغم من أنه لم يتولّ إدارة أي جهة حكومية قبل ذلك. حينها، كانت محاولات بن سلمان في “تنظيف” أروقة البلاط من أي محاولات انقلاب متوقعة، مكشوفة.
بالنسبة للأميركيين، لم يسبق لهم منذ تأسيس المملكة، ان فقدوا السيطرة في أي انقلاب داخلي. بل انهم لعبوا دوراً أساسياً في تزكية بعض الأمراء واخماد نجم بعضهم الآخر. وبحسب مراد، فإنه من المنطقي الافتراض أنّ الأميركيين قد فكّروا منذ مدة بالإطاحة بمحمد بن سلمان واستبداله بأمير آخر، لكن هناك مشكلة يواجهونها، وهي أنّ كل الأمراء المنافسين الذين يمكن أن يكونوا بدلاء عنه، قد أطاح بهم وغيّبهم الأخير في عام 2020، بعد أن سلبهم جميعاً أغلب ثرواتهم وأضعفهم منذ 2017.
ويقول مراد أن “واشنطن تستطيع الإطاحة بمحمد بن سلمان، ان أرادت ذلك. لكن ما سيترتب على تلك العملية من آثار جانبية كالفوضى والاقتتال، هو بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء في العرف الأميركي الذي يقضي بإبعاد المملكة عن الحروب الأهلية، نظراً إلى أهميتها بالنسبة لمصالحهم في المنطقة. ويرى أنّ إدارة بايدن في العامين المتبقيين سوف تحاول أن تصل إلى حلول وسطية مع محمد بن سلمان، فتارة يروّضونه ويضغطون عليه وتارة يرغّبوه.
تكتيكات بن سلمان: فيصل كان مُلهماً!
أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، أطلق الملك السعودي، فيصل بن عبد العزيز، تحذيرات للإدارة الأميركية حينها، بأنه سيقوم بقطع امدادات النفط، إذا لم توقف الدعم العسكري لإسرائيل. وبعد ان رد ريتشارد نيكسون بإرسال مساعدات عسكرية طارئة، أعلن وزراء النفط في منظمة أوبك، قطع 5% من صادرات النفط عن الولايات المتحدة، مع وعود قطع 5% إضافية في حال لم تتغير السياسة الأميركية لمدة 30 يوماً. في حين قطعت السعودية 10% من صادراتها بشكل مباشر. الأمر الذي تسبب بأزمة عالمية، وانخفض خلالها الناتج الأميركي 6% وارتفعت البطالة 9%.
حينها بدأت الجولات المكوكية لهنري كيسنجر إلى الشرق الأوسط، للتفاوض مع الملك فيصل وإيقاف قرار قطع النفط، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1973، التقى الرجلان. وفي الوقت الذي كان العرب ينتظرون ترجمة “الإنجاز التاريخي” للملك فيصل، وما سيجنيه الفلسطينيون من قرار وقف النفط، كان للأخير رأي آخر، وراح يملي شروطه التي تلخصت بتأمين الحماية الأميركية للمملكة والتحالف العسكري والاقتصادي. ويقول المفكر اللبناني جورج قرم في كتابه “انفجار المشرق العربي”: “كان لدى الملك فيصل أفكار عن تحالف ثنائي بين الشيوعية والصهيونية، وأنَّ الصهيونية نتاجٌ للشيوعية، والشيوعية مؤامرة كبيرة من صنع اليهودية العالمية، في حين أن لكيسنجر ذاته أصولاً يهوديّة”. وعلى الرغم من ذلك، اغتيل فيصل بعد ذلك بعامين، في آذار/ مارس عام 1975.
اليوم، وبعد حوالي 50 عاماً، يخطئ البعض في تعوليهم -مرة أخرى- على القرار “التاريخي” الذي اتخذه محمد بن سلمان بخفض انتاج النفط او تعزيز بعض الشراكات مع الصين او روسيا. ولعل ما كشفته قناة i24NEWS عمّا دار بين مسؤولين سعوديين وأميركيين في 5 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، من شروط ولي العهد للتطبيع: “تأكيد التحالف الأميركي السعودي، والالتزام بمتابعة إمدادات الأسلحة كما لو كانت السعودية دولة شبيهة بحلف شمال الأطلسي، واتفاقية ستسمح للسعوديين باستغلال احتياطياتهم الهائلة من اليورانيوم من أجل برنامج نووي مدني مقيد”، أَسدلَ الستار عن آخر فصول العرض المسرحي، الذي اختصره رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل: “لا توجد عداوة دائمة ولا صداقة دائمة بل مصلحة قبل أي شيء”.
الكاتب: مريم السبلاني