منظمة “هيومن رايتس ووتش” (مراقبة حقوق الإنسان) في مقال خاص، بين الإجراءات القانونية والتشريعية التي تحاول الحكومة البريطانية سنّها في البلاد لتقويض الاحتجاجات وحرية التعبير السلمي عن الرأي في الأنظمة الديمقراطية، وبين مواقف بريطانيا بشأن الاحتجاجات في إيران والصين وطريقة التعامل هناك مع المحتجين. واعتبر تقرير المنظمة أنه “إذا كانت حكومة المملكة المتحدة تريد أن تؤخذ على محمل الجد على المسرح العالمي، فعليها أن تمارس ما تدعو إليه”، فتداعيات مشروع القانون الذي ترمي الحكومة البريطانية الى إقراره “مخيف، ولا مكان له في الديمقراطية وينتهك الحقوق الأساسية”.
بريطانيا نحو شرعنة تجريم التظاهر والاحتجاج!
شرح مقال المنظمة الدولية غير الحكومية التي تعرّف بنفسها أنها تعنى “بالدفاع عن حقوق الإنسان والدعوة لها” (تأسست عام 1978، ومقرها في نيويورك)، أن الحكومة البريطانية تقع حالياً تحت ضغط الاحتجاجات المطالبة بتحسين الأجور وظروف العمل أمام التضخم وارتفاع فواتير الطاقة وتشلّ هذه التحركات العمالية حركة البلاد والقطاعات الأساسية فيه. لذا تلجأ حكومة الرئيس ريشي سوناك الى إقرار “قوانين جديدة صارمة للحد من الإضرابات العمالية، لمعالجة ما تسميه وسائل الإعلام شتاء السخط”.
وتابع المقال أنه “على الرغم من عدم وضوح الشكل الذي ستتخذه هذه القوانين… لكنها تهدف إلى تجريم حق الناس في الاحتجاج… وتجريم العديد من المتظاهرين… ويعيد مشروع القانون تقديم العديد من الإجراءات المناهضة للاحتجاج التي سبق أن رفضها مجلس اللوردات”، لكن إذ أعطى مجلس اللوردات، الغرفة الاستشارية العليا في البرلمان البريطاني، هذه المرة الضوء الأخضر لهذا المشروع وأُقرّ في العام المقبل فـ”ستكون هناك جرائم جنائية جديدة للانخراط في تكتيكات الاحتجاج الشعبية”.
يتضمن مشروع القانون الذي طرحته الحكومة على مجلس اللوردات لأكثر من مرّة هذا العام، مع إدخال بعض التعديلات، 3 بنود رئيسية ستغير من أوجه حق الاحتجاج والتظاهر في بريطانيا:
_ إدخال جرائم جديدة تتعلق بـ “الإغلاق” (أي تكتيك الاحتجاج) وعرقلة أعمال النقل الرئيسية والتدخل في البنية التحتية الوطنية الرئيسية.
_ إدخال صلاحيات جديدة للشرطة تسمح بمنع المقالات التي تتناول الجرائم في الاحتجاجات.
_ استحداث صلاحيات جديدة للمحاكم لإصدار “أوامر منع التعطيل الخطير”، والتي يمكن من خلالها فرض شروط تمنع الأفراد من الاحتجاج.
_ يعزز مشروع القانون أيضًا سلطات الشرطة في إيقاف وتفتيش المحتجين المشتبه بهم، ويسمح بمنع أفراد محددين من التظاهر تمامًا.
حذّر المقال أنه “إذا أصبح الأمر قانونًا، فقد يؤدي مجرد حضور احتجاج إلى الحصول على أمر منع التعطيل الخطير للبلد”، بالإضافة الى تقييد “جزئي” عبر منع التواصل مع الأشخاص الذين يمكنهم بالارتباط بهم، كما تقييد ما “يمكنهم فعله عبر الإنترنت (أي الخضوع للمراقبة الالكترونية)، وأين يمكنهم الذهاب”.
وفي حال اخترق المواطن البريطاني هذا “الامر” مرتين خلال 5 سنوات عبر المشاركة بـ “مظاهرة أدت أو كان من المحتمل أن تؤدي إلى اضطراب خطير لشخصين أو أكثر، أو لمنظمة”، فقد يتعرّض لعقوبة بالسجن مدّة 51 اسبوعاً (أكثر من سنة). لكنّ الحكومة البريطانية ومشروع القانون لم يعرّف بوضوح ما هو “الإضراب أو الاحتجاج الخطير”، ما يسمح باعتقال الكثير من المواطنين أو المحتجين تحت اتهامات فضفاضة.
تحويل المتظاهرين الى مجرمين في نظر الجمهور!
كان عنوان مقال لصحيفة “التايم” منتصف الشهر الحالي كفيلاً بإظهار التناقض بين القيم التي تزعم بريطانيا تصديرها الى العالم وبين صورتها الحقيقية والواقعية مع شعبها: “هذا ليس ما تتوقعه في نظام ديمقراطي.. كيف تشن بريطانيا حربًا ضد متظاهري المناخ”؟
أعطى المقال نموذجاً عن قمع السلطات البريطانية للمتظاهرين من أجل الحفاظ على المناخ، اذ اعتقلت شرطة البلاد 174 ناشطاً بيئياً من منظمة Insulate Britain منذ أيلول / سبتمبر عام 2021. وقال أحد النشطاء Cameron Ford الذي تم اعتقاله ست مرات بتهمة عرقلة الطريق السريع وإزعاج الجمهور بسبب مشاركته في مظاهرات المناخ، أن الأمر هو ليس عدم قدرة أن السلطات البريطانية على تفريق الاحتجاجات، بل إن الهدف من مشروع قانون النظام العام هو تحويلنا إلى مجرمين في نظر الجمهور، وقد ينجح هذا التكتيك”.
واعتبرت الصحيفة أن هذا مخطط ممنهج رافقته تغطية من الصحافة البريطانية اليمينية والتي أساءت المتظاهرين البيئيين ووصفتهم بأنهم “متعصبون بيئيون” بسبب ما اعتبرته “تكتيكاتهم التخريبي”. وقد وصف المتحدث باسم وزارة الداخلية، وهي الوزارة الحكومية الراعية للتشريع، في حديث مع مجلة “التايم” البريطانية أن ما ” رأيناه مؤخرًا (من احتجاجات) هو عملية إجرامية”.
جدلية تجريم الاحتجاج والانقسام الرسمي البريطاني
تتجاوز بريطانيا عبر مثل هذه القوانين ما نصّ عليه “الميثاق الاجتماعي الأوروبي”. وهو ميثاق طرح في العام 1961 وأصبح ساري المفعول نهائياً في العام 1999. أُنشئ هذا الميثاق لدعم “الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان” التي تدعي حماية الحقوق المدنية والسياسية، وتوسيع نطاق الحقوق الأساسية المحمية. ويكفل الميثاق حقوق عمّال والحق في المطالبة بهذه الحقوق، وتكون الحقوق والمبادئ المذكورة ضمن الميثاق “لازمة في المجتمع الديموقراطي لحماية حقوق وحريات الآخرين” (حسب المادة “القيود” من هذا الميثاق)، و”تقبل الأطراف – كهدف لسياستها – أن تتم متابعتها بكافة الوسائل المناسبة محلياً ودولياً في الميثاق”، حسب الجزء الأول من الميثاق.
اعتبرت إحدى الناشطات في منظمة “ليبرتي” للحريات المدنية، جودي بيك، أن إجراءات الحكومة البريطانية “شديدة القسوة”، مشيرةً الى أنه ” إذا أردنا تضييق الخناق على تكتيك معين الآن، فسيكون لذلك تداعيات عميقة على احتجاجاتنا الحقوقية ككل، بغض النظر عن قضيتنا”.
التحذيرات لم تكن من الاعلام والمراقبين البريطانيين بل كانت رسمية ايضاً عبر اللجنة المشتركة لحقوق الإنسان، وهي المجموعة في البرلمان البريطاني التي تدقق في مشاريع القوانين الحكومية بشأن توافقها مع التزامات حقوق الإنسان البريطانية، في تقرير لها في أيلول / سبتمبر رأت اللجنة البرلمانية أن هذه التشريعات “ستشكل تهديدًا غير مقبول للحق الأساسي في المشاركة في الاحتجاج السلمي”، وهي “مخاطرة بوضع الحكومة البريطانية في خلاف مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”. كذلك ادعى الوزير السابق في مجلس الوزراء ديفيد ديفيس (من حزب المحافظين) أن مشروع قانون النظام العام “يخاطر بتقويض قدرة بريطانيا على اتخاذ مكانة أخلاقية عالية”.
بالعودة الى مقال منظمة “مراقبة حقوق الانسان”، فقد خلص الى تقدير مفاده أن “حكومة المملكة المتحدة تنفر بشكل متزايد من الاحتجاجات السلمية والحق الأفراد في حرية التجمع من أجل محاسبة المسؤولين”، وهو ما يضرب العامود الفقري للديموقراطية. وفي هذا السياق علّق جيني جونز من “حزب الخضر” في مجلس اللوردات والتي صوّتت ضد تعديلات على مقترحات الحكومة لتقويض الاحتجاجات أن مشاريع القوانين “صُممت لتقليل المعارضة”، مضيفاً “بصرف النظر عن مضمون مشروع القانون، فقد صيغ بشكل سيئ حقًا”.
ليست المرة الأولى هذه التي تحاول فيها الحكومة البريطانية تقويض حرية التظاهر والاحتجاج في البلاد. ففي هذا العام فقط، أقر المشرعون البريطانيون قانون الشرطة والجريمة والأحكام والمحاكم (PCSC)، والذي أعطى الشرطة سلطة فرض شروط الوقت ومستوى الضوضاء على المظاهرات، حتى تلك التي تضم شخصًا واحدًا فقط! حصل القانون على الموافقة الملكية في 28 نيسان / أبريل 2022. ثمّ تم تقديم مشروع قانون النظام العام إلى مجلس العموم في 11 أيار / مايو 2022 ويتضمّن تغييرات رئيسية في قانون النظام العام. وبعد الاحتجاجات الأخيرة في بريطانيا، توعّد رئيس الوزراء ريشي سوناك بمزيد من شرعنة قمع حق التظاهر، اذ انه مستعد لفرض “تشريع جديد العام المقبل، و”هذا شيء نعمل عليه بوتيرة سريعة”.
الكاتب: مروة ناصر