على جبل المجاهد شمال فلسطين في الجليل الغربي، وعلى بُعد 16 كم عن شاطئ البحر المتوسط شرقاً، و25 كم عن الحدود اللبنانية جنوباً، و27 كم عن عكا، تقع “عروس الجليل”: بلدة ترشيحا. كانت هذه البلدة شاهدة على مميزات الأرض الفلسطينية وتراثها، كما شاهدة على المشروع الصهيوني وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني والعربي، لكنها رفضت أن تخضع للاحتلال قبل أن تكتب تاريخًا من الصمود والمقاومة.
مميزات ترشيحا
أكسب الموقع الجغرافي لترشيحا مميزات عديدة. فكانت لارتفاعها نحو 600 متر عن سطح البحر، تتميز بمناخ فريد. واعتبرت حلقة وصل ومواصلات، إذ تمر بها جميع الطرق التي تتصل بالقرى المجاورة، ممّا جعلها مركزاً للكثير من الأعمال والخدمات. ربطتها شبكة من الطرق الفرعية برأس الناقورة وببعض القرى الحدودية في لبنان، وتضمنت مركزًا للجمارك والشرطة لمراقبة الحدود مع لبنان.
شبكة الطرق سمحت لها بإقامة سوق كبير، يوم الخميس من كلّ أسبوع، عرف باسم “سوق البلد”، يقصده أهالي قرى شمال فلسطين وجنوب لبنان للتسوّق، كما يقصده الاردنيون لبيع الدواب والجمال والحبوب والأقمشة وغيرها.
تنوعت التضاريس فيها، منها الجبال والأودية. زرع أهلها الحبوب في المنخفضات وبطون الأودية، والأشجار المثمرة على المرتفعات وأهمها العنب والتين. الا أنّ زراعة الزيتون كانت الأكثر نشاطًا من بين كلّ الزراعات. شغلت أشجار الزيتون أكبر مساحة بين الأشجار المثمرة، وصنّفت ترشيحا ثالثة قرى قضاء عكا غرساً للزيتون. وبرزت فيها أيضًا الينابيع البرك والآبار التي استغلها أهلها لتأمين المياه للاستخدام المنزلي.
أصل التسمية
تتحدث الرواية الأولى عن أن الاسم الأصلي هو “طرشيحا”، ويتألف من جزئين: “طور” بمعنى الجبل، و”شيحا” نسبة لنبات الشيح الموجود بكثرة فيها، أي أن الاسم تحوير لـ “جبل الشيح”. أمّا الرواية الثانية فتتحدّث عن أنها تأتي من “طار شيحا”، ويُقصد بها القائد في جيش صلاح الدين الأيوبي، شيحا جمال الدين، والذي، حسبما تقول الرواية، أنه حينما قُتل، طار رأسه وهبط حيث تقوم ترشيحا اليوم.
السكان الأصليون
سكن في ترشيحا عام 1922 نحو 1.880 نسمة من الفلسطينيين، وقد ارتفع عددهم عام 1931 إلى 2.522 نسمة، يتوزعون على 584 بيتًا، بنيت معظمها من الحجر. عام 1945 قدر عدد سكانها بنحو 4460 نسمة. ولكن هذا العدد تراجع إلى 639 نسمة في عام 1949 نتيجة لهجرة غالبية السكان إثر الاحتلال الصهيوني عام 1948.
تميز سكانها باهتمامهم بالتعلّم، ففي سنة 1937 كان 70% من سكانها يجيدون القراءة والكتابة. كما عرفوا بالذكاء والعمل في الحرف والمهن.
المقدسات الإسلامية
الى جانب الأسواق والمراكز التجارية، والمراكز الصحية، والى الآثار التاريخية التي تعود الى الحضارة الرومانية قبل أكثر من 3500 سنة،
ضمّت ترشيحا العديد من الأماكن التاريخية والمقدسات الإسلامية والمسيحية. كان منها:
_ “جامع الحمولة”: بني في أواسط القرن الثامن عشر.
_ “مزار الشيخ مجاهد”: الذي يقع على جبل المجاهد اعلى القرية.
_ “الجامع الجديد”: بُني سنة 1840.
_ “الزاوية الشاذلية”: كانت محطة للسياحة في ترشيحا، وهي أول زاوية بنيت في فلسطين.
المقدسات المسيحية
_ “كنيسة الروم الكاثوليك” التي بنيت سنة 1865 وهي من أكبر الكنائس في الجليل مساحة وعمارة.
_ “كنيسة الروم الاورثوذكس”: اقيمت بديلاً للكنيسة القديمة، بدأ تأسيسها عام 1905 وانتهى عام 1913.
_ “كنيسة الروم الاورثوذكس” القديمة: يرجع تاريخها إلى ما قبل 550 عام.
معارك وصمود
على غرار كلّ المناطق والقرى الفلسطينية لم يستسلم الأهالي لكيان الاحتلال، بل قاموا على قدر الإمكانات العسكرية المتوفرة بين أيديهم، والتي كانت آنذاك لا تقارن بما تمتلكه العصابات الصهيونية المدعومة من بريطانيا وجيشها، من عتاد وعديد. لم تسقط ترشيحا تحت الاحتلال الصهيوني الا في العام 1950، وكانت من بين آخر المدن وخاصة مدن الجليل.
خاض الأهالي والجيوش العربية التي تشكلت في تلك الفترة العديد من المعارك في قرية ترشيحا، ومن بين أبرزها:
_ معركة “جدين”: كانت أوّل معركة تخوضها البلدة، بتاريخ 20/1/1948. وحينها تمكن المقاومون – بعضهم لم يكن يملك سلاحًا – من محاصرة المستوطنة الصهيونية، واختراق الأسلاك الشائكة الملغمة التي وضعها اليهود كنوع من التحصينات. فجّر المقاومون الألغام من خلال ربط الأسلاك بحبل وهزّه. اضطر الجيش البريطاني لإرسال تعزيزاته من أجل إخلاء المقاومين، لكن المستوطنة بقيت تحت الحصار، اذ كانت المؤن ترمى الى الصهاينة بواسطة الطائرات.
_ معركة الكابري: كانت في 27/3/1948. وصد المقاومين خط إمداد العصابات الصهيونية ونصبوا لهم كمينًا على خط نهاريا شكّل صدمة لدى اليهود في نوعية العمل. كانت الخطة تقضي بوضع سد من الحجارة في مكان متعرج ضيّق أمام القافلة. وفي 1948/3/27، كانت القافلة اليهودية من نهريا باتجاه قلعة جدين في ترشيحا. وعند وصول القافلة الى السد انهال عليها المقاتلون بالرصاص. وانطلاقًا من المعرفة بجغرافيا المكان، أقام المقاومون السد بالقرب من بستان، فلم تتمكن القافلة الصهيونية من التقدّم أو التراجع الى الخلف.
استمرت المعركة حوالي 10 ساعات. وكانت القافلة مجموعة من الباصات المصفحة تتقدمها مصفحة عسكرية، وطلب المقاومون من اليهود الاستسلام فرفضوا. وعندها قرر المقاومون إحراق القافلة فاضطر اليهود للخروج منها فكانت بنادق المقاتلين تحاصرهم. لم تستطع القوات البريطانية إنقاذ القافلة لان كميناً آخر قد نصبه المقاومون على الطريق. وأدى الكمين الى مقتل 46 صهيونيًا بينهم قائد الكتيبة.
ترشيحا تحت الاحتلال
ضمن خطة السيطرة على الجليل الأعلى، ارتكبت العصابات الصهيونية مجازر كثيرة، كان لترشيحا نصيب منها، اذ إنه في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1948 حلقت طائرات الاحتلال في الجهة الشمالية الغربية للقرية، ظن الأهالي أن طائرات سورية أتت دعماً لهم، إلى أن ألقت تلك الطائرات المُهاجمة قنابلها قرب مرابط مدفعية المقاومة التي نشأت هناك.
بعد ساعة بدأت قذائف المدفعية تسقط على ترشيحا. كانت مدفعية الاحتلال تطلق من 5 مواقع: جدين وتين أبو شريتح ومن مستعمرة “جليل” ومن تل الوقية ومن البحر، وقدّر مجموع القذائف في تلك الساعة بنحو خمسين قذيفة. استمر القصف طوال الليل. تابع الاحتلال عدوانه، وألقت طائرات الاحتلال براميل متفجرة على القرية. قاوم الأهالي لكنهم ما كانوا يمتلكون الا بنادق متواضعة.
كان وقع الدمار كبيرًا جدًا على أهالي ترشيحا، الذين تهجروا قاصدين الحدود اللبنانية، وتجمعوا في بنت جبيل، ثمّ توزعوا بعدها بين المدن اللبنانية والسورية، في “البص” في مدينة صور الجنوبية اللبنانية، و”برج البراجنة” في بيروت، ومدينة حلب السورية، وحمص، وحماة، ودمشق.
الكاتب: مروة ناصر