من الهاتف الذكي إلى الصواريخ الفرط صوتية والطائرات المسيرة ومركبات الفضاء، وكل ما يمتّ لمنتجات التكنولوجيا بصلة، ثمة شريحة صغيرة تعرف برقائق أشباه الموصِلات، أو الرقائق الإلكترونية. إذا كان النفط هو ثورة القرن العشرين، فإن هذه الرقائق تعتبر ثورة القرن الواحد والعشرين، مع عائدات وأرباح أكبر. تتفرّد بتصنيعها شركات قليلة، كلها تدور في فلك الولايات المتحدة.
الدور المحوري لتايوان في الصراع بين الصين والولايات المتحدة
منذ سبعينيات القرن الماضي، أطلق الأمريكيون هذه التكنولوجيا، واستطاعوا من خلال ريادتها، الهيمنة على قطاعات عدة في العالم. خلال محاولة معالجة أزمتها الاقتصادية في أواخر السبعينيات، نقلت الإدارة الأمريكية شركة RCA التي تفردت بتصنيع هذه الرقائق إلى تايوان، وذلك بعد نجاح الحكومة التايوانية بإقناع واشنطن بأنها حصن آمن لمثل هذه الصناعة. ثم انطلقت أواخر الثمانينيات شركة تايوانية تعرف باسم TSMC وتفوقت حتى على الشركات الأمريكية، بحلول عام 2020، أصبحت هذه الشركة هي الأولى في العالم وتستحوذ وحدها على نصف السوق العالمي. وهي الآن بمثابة شركات النفط الكبرى في العالم، التي تتحكم بالإنتاج والتصدير، فكما تمكنت الولايات المتحدة من السيطرة على الأسواق العالمية من خلال التحكم بإنتاج النفط في القرن العشرين، فإن الدولة التي ستتحكّم بهذه الرقائق ستتحكم في مستقبل التكنولوجيا. ولهذا يمكن القول بأن الصراع على تايوان أكبر من مجرّد رغبة صينية في ضمّ تايوان إلى البرّ الرئيسي، أو حاجة الأمن القومي للولايات المتحدة لمجرّد السيطرة على الفناء الخلفي للصين، بل تدخل مصانع الرقائق الالكترونية في صلب الصراع.
تكلفة بناء مصنع واحد تفوق تكلف بناء حاملة طائرات
بلغة الأرقام، فإن تكلفة بناء مصنع رقائق واحد قد تصل إلى 20 مليار دولار، ويستغرق بناؤه ما يقارب الـ 10 سنوات، ويحتاج إلى تشغيل ثابت 24 ساعة في اليوم لاسترداد استثماراتها. كما يتطلّب كل جديد من الأجهزة معدات ومواد متخصصة، يجري الحصول عليها من كل أنحاء العالم.
حاليًا 75% من تصنيع الرقائق في العالم يتم في شرق آسيا وتتركز بعد تايوان في كوريا الجنوبية من خلال شركة سامسونغ، والصين، التي من المتوقع أن تفتتح 31 مصنعًا جديدًا بحلول عام 2024. إلا أن تركيز الصين ينصبّ على الرقائق الأقدم، وهي تضغط بشكل قوي للتفوق في هذا السباق، إلا أنها لم تتمكن حتى اليوم من صنع الرقائق الأحدث، مثل الرقائق اللازمة للسيارات الحديثة. وقد أعلنت شركة SMIC عن بناء مصنع جديد بتكلفة 2.35 مليار بدأ بالإنتاج خلال العام الجاري بتمويل من الحكومة الصينية.
لماذا لا تصنع الدول الكبرى الرقائق الالكترونية بنفسها؟
في دراسة أجرتها مجموعة بوسطن للاستشارات تبلغ تكلفة مصنع الرقائق أكثر من بناء حاملة طائرات من الجيل الأحدث، وأكثر من بناء محطة نووية. لهذا تفضل الولايات المتحدة والصين وغيرها من الدول، أن تعتمد على شركات خارجية قادرة على التشغيل الثابت بأقل التكاليف. وهي تحتاج إلى عقول وكفاءات ودقة عالية جدًا فهي ليست منتجًا يمكن تقليده أو محاكاته.
لكن وجد تقرير مشترك جديد صادر عن رابطة صناعة أشباه الموصلات ومجموعة بوسطن الاستشارية أن الحكومة الأمريكية لديها فرصة استراتيجية لعكس مسار عقود طويلة من تراجع تصنيع الرقائق في أمريكا، وتعزيز الأمن القومي وجعل سلاسل التوريد أكثر مرونة، إذ يتمّ تصميمها في بلد، واستخدامها في بلد آخر بآلات من بلد ثالث، ويتمّ اختبارها في بلد رابع، ثمّ يتمّ تجميعها وتوضع داخل الأجهزة الذكية في بلد خامس، ليتم تصديرها إلى بلد سادس، ثمّ إلى العالم. يعتبر الكثيرون أن تعقيد السلسلة بهذا الشكل هو نتيجة سعي الولايات المتحدة لمنع انتشار هذه السلعة. إلا أن الأوضاع العالمية اليوم متغيرة، خاصة بعد أزمة نقص الرقائق التي يشهدها العالم منذ العام 2020 بسبب جائحة كورونا، والتي من المتوقع أن تستمر حتى عام 2026.
رسالة بايدن للصين: لن نسلّم مقعد قيادة العالم لأحد
أعلن بايدن عن قانون الرقائق والعلوم في تموز / يوليو 2022، وهو نص تشريعي لتعزيز الإنتاج المحلي للرقائق الإلكترونية، يصل إلى حوالي 280 دولار، ويهدف إلى عكس اتجاه الانخفاض في التصنيع المحلي للرقائق، خاصة بعدما كشف وباء كورونا عن هشاشة سلاسل التوريد.
من المتوقع أن تزداد قدرة التصنيع العالمية بأكثر من 50٪ من عام 2020 إلى عام 2030، مما يوفر فرصة سوقية للولايات المتحدة لجذب حصة أعلى من مصانع التصنيع الجاهزة الجديدة في المستقبل وفقًا لتحليل مركز بوسطن للاستشارات، إذ ثمة برنامج حكومي فيدرالي يقدم 20 إلى 50 مليار دولار من المنح الإضافية والحوافز الضريبية، لأحدث المباني التي تم بناؤها، سيكون فعالًا في العقد المقبل في عكس الاتجاه الهبوطي للسنوات الثلاثين الماضية في الولايات المتحدة.
هذا القانون الذي وصفته مجلة فورين بوليسي بأنه “رسالة للصينيين بأننا لن نسلّم مقعد قيادة العالم لأحد”، عززته إدارة بايدن بقيود جديدة فرضتها في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على الشركات الأمريكية التي تبيع الرقائق المتقدّمة للصين، كما فرضت قيود على المواطنين الأمريكيين الذين يعملون في مصانع الرقائق في الصين. وبينما يستعد بايدن لعقد أول اجتماع مباشر له كرئيس مع شي جين بينغ، تلوح ضوابط التصدير كإعلان بأن الولايات المتحدة ليست مستعدة للسماح للصين بالتقدم في مجموعة من التقنيات المتطورة التي يمكن أن تهدد مكانة الولايات المتحدة كقوة بارزة في العالم. شجبت بكين هذه الإجراءات باعتبارها “عرقلة الشركات الصينية بشكل عشوائي”.
لكن ضوابط تصدير الرقائق هذه تسبب أيضًا توترًا مع حلفاء رئيسيين مثل ASML Holding NV في هولندا. تحتكر هذه الشركة نوع من الآلات اللازمة لصنع الرقائق الأكثر تقدّمًا، وصفت الولايات المتحدة بأنها تتصرّف “بفتوة” في هذه القضية مع حلفائها، بأنها تفرض عليهم تطبيق هذه الإجراءات مع الصين، وقد عبّر أحد المسؤولين اليابانيين أن “المزاج السائد في حكومة اليابان يثير الدهشة من أن سيادتها يمكن أن يتم تجاهلها إلى هذا الحد”.
وقالت ريفا جوجون، مديرة استشارات الشركات الصينية في مجموعة Rhodium Group: “هذه الحزمة مليئة بالإجراءات الأحادية بافتراضات كبيرة للغاية بأن الشركاء سيتبعون الولايات المتحدة.” وقالت إن ضوابط “مغير اللعبة” ترسل إشارة واضحة إلى النوايا لبكين مع احتوائها على تهديد ضمني للشركاء، لأن “الولايات المتحدة مستعدة للذهاب خارج حدودها إذا اعتبروا ذلك مهمًا بدرجة كافية”. وقال مسؤولون أمريكيون مرارًا وتكرارًا، إنه إذا لم يتماشى الحلفاء مع واشنطن بشأن أحدث القواعد، ستعمد الولايات المتحدة إلى حظر مبيعات معدات الرقائق الأجنبية التي تحتوي حتى على أصغر كمية من التكنولوجيا الأمريكية.
الاختبار الحقيقي
الاختبار الحقيقي هو ما إذا كان حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها الأمنيون في جميع أنحاء العالم سيلعبون جنبًا إلى جنب، لا سيما أن إدارة بايدن تنظر في توسيع القيود، خاصة أن هذه الضوابط ستفقد فعاليتها بمرور الوقت إذا لم ينضمّ إليها الشركاء. فهل ستجبر الولايات المتحدة الحكومات على الامتثال وإلا ستفرض عليها عقوبات كما العادة؟ وهل ستتمكن من إجبارها في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية؟
الكاتب: زينب عقيل