تمثل الصين حالياً قطب الرحى في عدة منظمات ذات طابع إقليمي ودولي معاً، مثل منظّمة شنغهاي للتعاون، ومنظّمة بريكس، التي بدأت بتصدّر المشهد الاقتصادي والسياسي خلال الأعوام الأخيرة، وهي تضم الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، في مقابل المنظّمات أو المؤسسات الغربية المنافسة، مثل مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، والاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الخاضعين للنفوذ الأميركي إلى حدٍ بعيد؛ مع الإشارة إلى موقع الصين المؤثّر في مجموعة العشرين التي تضم الدول ذات الاقتصادات الأقوى عالمياً، ومن بينها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والهند والبرازيل..
وفي السياق كان الاقتراح الصيني، قبل خمس سنوات، ببدء عملية توسيع مجموعة “بريكس” تحديدًا. وفي 25 مايو (أيار) 2022، اقترحت الصين بدء عملية توسيع المجموعة، لتصبح “بريكس بلس”، واضعة نصب أعينها الدول الآتية: مصر، والأرجنتين، وإندونيسيا، وكازاخستان، ونيجيريا، والإمارات، والسعودية، والسنغال، وتايلند، نظرًا لأهمية هذه الدول المحورية. وفي أول مبادرة لها، طلبت الأرجنتين وإيران والجزائر ومصر والسعودية وماليزيا وإندونيسيا الانضمام إلى المجموعة.
يُذكر أن مجموعة “بريكس” هي منظمة سياسية بدأت المفاوضات لتشكيلها عام 2006، وعقدت أوّل مؤتمر قمّة لها عام 2009؛ وهي باتت تشبه، باصطفافاتها السياسية والاقتصادية، مرحلة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي؛ على الرغم من أن أغلب هذه الدول مشتركة في المنظمات الدولية الأخرى.
منظّمة “بريكس”: تكامل إقليمي لبلدان الجنوب
تهدف دول مجموعة “البريكس” إلى مد جسر العلاقات بين البلدان الصناعية والصاعدة، لضمان التنمية المستدامة واتباع سياسات دولية أكثر توازناً في المجالات الاقتصادية؛ بناء نظام عالمي أكثر ديمقراطية، والمشاركة في صنع القرار في الحوكمة الدولية.
ولكي تكون فاعلة رئيسية في عملية بناء النظام العالمي الجديد، يتطلّب من دول المجموعة أن تقدّم نموذجاً تنموياً يُحتذى به من خلال تحديث كل منصّات العولمة، وإنشاء مجموعة جديدة من العملات الاحتياطية من الأسواق الناشئة، والتوجّه نحو مسار بديل للشكل الغربي لتنمية الاقتصادات الإقليمية والعالمية. وبشكل عام، سوف يفتح تنسيق “بريكس بلس” خيارات متنوعة لتفاعل دول المجموعة مع بقيّة الاقتصاد العالمي، خاصة للدول المعادية للمعسكر الغربي، مثل إيران؛ وبالفعل، فقد ذكر مسؤولون صينيون أنّهم يفكّرون في تطوير مفهوم “بريكس بلس” في سياق التفاعل والتكامل الإقليمي لبلدان الجنوب العالمي.
دول البريكس: مشروع تجمّع قطبي
في الاجتماع الأخير لوزراء الاقتصاد والتجارة الخارجية لبلدان مجموعة “البريكس”، تمّ اعتماد إعلان بشأن الحاجة إلى إصلاح منظمة التجارة العالمية؛ وكذلك، الموافقة على مبادرة لتعزيز سلاسل التوريد؛ فيما اقترح الجانب الروسي تشكيل “تأمين” أو حتى آليات بديلة للتجارة الثنائية والمدفوعات بين دول المجموعة، والتي يمكنها أن تصبح “شبكة أمان” للاقتصادات النامية، مع التركيز على تشكيل نظام اقتصادي دولي جديد.
لكن، وعلى الرغم من التأثير المتزايد لمجموعة بريكس، ورغبة العديد من الدول الصاعدة اقتصادياً بالانضمام للمجموعة، لا يبدو أن منظمة بريكس قادرة حالياً على اتخاذ قرارات مشتركة وتنفيذها، لأنها تضم البلدان التي تحاول ترسيخ نفسها في العالم كمراكز اقتصادية إقليمية مستقلة، وبالتالي ليس لديها نقاط اتصال. من الناحية النظرية، من الممكن أن توحّد دول بريكس معارضة النظام العالمي المتمحور حول الولايات المتحدة الأمريكية؛ لكنها، وحتى الآن (باستثناء روسيا وجزئياً الصين)، تحاول إيجاد مكان لها في العولمة الأمريكية بدلاً من تحدّيها، حيث لا تملك “بريكس” أجندة جادّة مشتركة.
وعلى أي حال، تبدو اقتصادات دول «البريكس» واعدة؛ إذ يشكّل عدد سكان هذا التجمّع الذي بدأ اقتصادياً نحو 40 في المائة من سكان العالم، ومساحته الجغرافية 27 في المائة من مساحة اليابسة. ولعلّه من المثير للتأمّل أن الناتج الإجمالي لدول «البريكس» يتجاوز نظيره لدى دول مجموعة السبع الكبار؛ الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، واليابان، وفرنسا، وكندا، وإيطاليا.
وتشي أسماء تلك الدول بقوّة كبرى اقتصادية قادمة. وحال حساب تكوينها الديموغرافي، وحضورها الجغرافي، عطفاً على مقدّراتها العسكرية، يخلص المرء إلى أن فكرة دول «البريكس»، تكاد تتحوّل إلى تجمّع قطبي.
هل تقود الصين العالم بديلاً عن الولايات المتحدة؟
من موقعها الاقتصادي والسياسي المتقدم حاليًاً، يمكن الاستنتاج بأن الصين لن تحلّ محلّ الولايات المتحدة الأميركية كقطب عالمي أوحد ومهيمن خلال السنوات المقبلة – وهي لم تطرح ذلك علناً – وذلك لأسباب أو عوامل عديدة أبرزها:
أوّلاً- يختلف النظام السياسي والاقتصادي الصيني جذرياً عن الأنظمة التي لدى الصين علاقات شراكة وتعاون وثيق معها، وبما يمنع أي اندماج أو هيمنة مطلقة صينية على القرار السياسي والاقتصادي لدولة أو عدة دول منخرطة منذ عقود في أطر أو تجمّعات ذات طابع اقتصادي وتجاري واستثماري مع الصين؛ وهذه المسألة تشمل مختلف الدول، القوية اقتصادياً أو الصاعدة أو النامية على السواء (من الهند والبرازيل إلى إيران والسعودية وتركيا والجزائر والإمارات العربية المتحدة والسنغال..).
ثانياً- هذا الاختلاف الجذريّ قد يعيق أيضاً أي سياسات أو مشاريع صينية، يتم التوافق الرسمي حولها داخل أروقة القمم واللقاءات الدورية بين قادة الدول المعنيّة، في إطار منظّمة بريكس أو منظّمة شنغهاي للتعاون وغيرهما، بغية تفعيل التعاون فيما بينها، وفي مواجهة السياسات الأميركية والغربية الاستئثارية. وما جرى من تنامٍ على صعيد التبادلات التجارية بين الصين والدول الأخرى خلال السنوات الأخيرة لا ينفي وقف أو تجميد اتفاقات بسبب الضغوط أو التهديدات الأميركية والغربية للدول المعنيّة من أجل الحد من ارتباطاتها الاقتصادية والتجارية بالصين، أو حتى إنهائها.
ثالثاً- توجد عراقيل وموانع لا يُستهان بها أمام احتمال قيادة الصين للنظام العالمي الجديد، والذي يمكن أن ينبثق بعد تحلّل أو انهيار الهيمنة الأميركية الأحاديّة (المرتقب) خلال السنوات أو العقود القليلة القادمة؛ منها ما يرتبط بالصين نفسها، نظاماً وإيديولوجيا وقِيم وأدوات نفوذ وتحكم، ومنها ما يتعلق باستراتيجيات ومصالح وأولويات الدول التي لديها شبكات علاقات واسعة ومعقّدة مع الصين كما مع دول أخرى مؤثّرة، مثل روسيا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية القوية اقتصادياً، وصولاً إلى دول آسيوية وعربية لديها علاقات أو تحالفات “مزدوجة”، ولا يمكن أن تتخلّى عنها من دون حسابات دقيقة ومتأنية (مثل السعودية والإمارات ومصر..).
رابعاً: لا يمكن الاستخفاف بقدرات الدفاع الغربية في مواجهة التقدم الصيني والروسي، كما كشفت ردود فعل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين على الهجوم الروسي العسكري الأخير في أوكرانيا، لناحية تقديم أشكال الدعم الهائل (العسكري والمالي) للنظام الأوكراني، مع الاستعداد لتحمّل التداعيات والأعباء مهما كانت، أو لناحية السياسات والإجراءات الغربية القوية والمتماسكة لكبح جماح التوسع الصيني عالمياً، طيلة السنوات الماضية، في المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية كافة؛ والذي يُعدّ بمثابة خطر وجودي بالنسبة للغرب، كما أبرزت استراتيجية الولايات المتحدة للأمن القومي، والتي أعلن عنها الرئيس الأميركي جو بايدن أخيراً، بوصفه الصين بأنها “التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية ” للولايات المتحدة.
خامساً: كشفت السياسات الغربية خلال السنوات الأخيرة حيال التمدّد الصيني عن قدرات أميركية وأوروبية مهمة ومؤثّرة، في إطار عرقلة هذا التمدّد الصيني، الاقتصادي والتجاري والاستثماري.. والسياسي، مع دول عديدة، إما عبر الضغط والتهديد (وقف المساعدات أو سحب القواعد العسكرية)، أو من خلال تقديم إغراءات مالية واقتصادية لهذه الدولة أو تلك، من أجل إبعادها عن دائرة النفوذ الصيني “الخطير”.
واستطراداً، لا ينبغي تجاهل فاعلية الدعم الغربي المتواصل للنظام الأوكراني، والذي يتصدّى منذ قرابة العام لهجوم روسي واسع داخل أوكرانيا، وبما يؤكد على جديّة القرار الأميركي والأوروبي في مواجهة أي توسّع روسي أو صيني قد يهدّد نواة النفوذ الغربي على مستوى أوروبا والعالم، بمختلف الوسائل، ومن بينها القوّة العسكرية؛ وهذا ما تكشفه المواقف والإجراءات الغربية المتلاحقة على خلفية الحرب الروسية- الأوكرانية، في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية على السواء.
النظام العالمي في مرحلة انزياح استراتيجي
انطلاقاً من المعطيات السابقة، يمكن توقّع حصول المزيد من التراجع أو التدهور في منابع القدرة الأميركية، الاقتصادية والتجارية والسياسية خلال الأعوام المقبلة، مقابل تقدّم الصين وروسيا وحلفائهما الإقليميين والدوليين، وبمستويات نوعية وتاريخية، يمكن توصيفها بمرحلة الانزياح الاستراتيجي؛ لكن من دون توقّع السيناريو الأفضل بالنسبة لأعداء الهيمنة الأميركية، وهو السقوط القريب والمفاجئ للاقتصادين الأميركي والأوروبي، وربما للمنظومة الحضارية الغربية بأكملها، رهاناً منهم على الاستنزاف الجاري للمقدّرات الغربية في إطار دعم أوكرانيا، أو على خلفية النمو المتسارع والراسخ لاقتصادات الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها من الدول التي تعدّ خارج نفوذ الفلك الغربي إلى حدٍ بعيد.
وبكلام آخر، فإن الصين قد تتمكن من تبوّء موقع متقدم في الهيكلية الدولية الجديدة الآخذة في التبلور، خلال سنوات قليلة، لكن من دون أن تتسلّم موقع الولايات المتحدة بشكل حاسم وواضح في قيادة العالم، والتي أظهرت قدرة لافتة على “الصمود” قبالة التوسع الصيني حتى الآن، في المجالات الاقتصادية والتجارية.. وفي مجال حماية تحالفاتها الدولية والإقليمية ذات العلاقة؛ ناهيك عن تأثير علاقات الصين نفسها بالولايات المتحدة، والتي قد يستحيل على أيٍ من الطرفين الانفكاك منها في المديين المنظور والمتوسط (تتجاوز قيمة السندات الصينية في أميركا الألف مليار دولار).
وفي السياق، فقد أشار مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، أخيراً، وبعبارات دقيقة وموجزة، إلى أنّ “النظام العالمي الحالي في حالة تغيّر، وسوف يسود نظام جديد. هناك ثلاثة خطوط عريضة في هذا النظام الجديد: انزواء أميركا، وانتقال القوّة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية من الغرب إلى آسيا، وانتشار فكر المقاومة وتوسّع جبهتها مقابل الغطرسة”؛ لكن من دون تحديده لأوان هذا التحوّل التاريخي ولا لهويّة الدولة أو الدول التي ستتصدّر قيادة العالم؛ وهذا يعني أنه قد يستلزم عدة سنوات، ولن يكون فجائياً أو سريعاً، كما بيّنا آنفاً.